أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
دهشة المفارقة

قراءة في ديوان تأبط منفى للشاعر
عدنان الصائغ

د. قاسم البريسم
- لندن -

صدر مؤخراً عن دار المنفى في السويد، ديوان جديد للشاعر عدنان الصائغ بعنوان "تأبط منفى".
ترتكز شعرية عدنان الصائغ في ديوانه الأخير على حدة المفارقة التي يصهر بها هموم الإنسان وحريته في إناء الوجود الإنساني وهو يوزع مفارقته الشعرية بين الاندهاش والتعجب والسخرية وعلامات الاستفهام، وأحياناً عبر الهجوم المباشر. وهذا هو فعل المفارقة في الشعر كما يقول الناقد الانكليزي كلينث بروكس "أن الحقيقة التي يسعى الشاعر إلى كشفها لا تأتي إلا عبر أسلوب المفارقة" فهي جوهر في الشعر وتعكس وظيفته النهائية التي تقوم على الصراع بين الذات والموضوع، الخارج والداخل، الحياة والموت، الفاني والأزلي ولأنها تعكس الرؤية المزدوجة في الحياة فأنها خير ما يمثل الأدب باعتباره تمثيلاً نقيا لما يجب أن يكون تجاه الكائن (الموجود) الفاسد.
تتكثف صور القصائد الشعرية في الديوان، وتترشح عبر ركني المفارقة "التضاد" اللفظية والسياقية المثقلة بتفاصيل الحياة اليومية والهاربة مع ألوان الأشياء، وملامح الأماكن، ونبض الشوق والحزن اللامنتهيين للوطن.
تضعنا قصيدة عدنان الصائغ عند مفازة التأمل وسواحل الإبحار نحو الأفق الإنساني اللامنتهي. حيث نقطع عبرها مسافة الألم والشوق والدهشة، وتضعنا في لجة التأمل والانفعال بعد أن تعود بنا إلى ارض الواقع الإنساني.
الأبعاد الدلالية للديوان تتمحور حول بحث الإنسان (الشاعر) عن الوطن والحرية والسلام. وهو في بحثه هذا ينتقل من الوطن المحدود (العراق) إلى اللامحدود، ومن الذاتي إلى الإنساني الفسيح. رحلة الشاعر في بحثه عن ثالوثه (الوطن والحرية والسلام) هي جمرة الألم وحرارة الحنين المزمن للوطن المسلوب عنه والمطوق بالأصفاد بعد أن استحال العبور إليه، وتقطعت أواصر اللقاء بالأهل والأحبة.
يفتح الشاعر نوافذ الحين للوطن في قصيدته "حنين" وقد شكلت هذه القصيدة مع قصيدة لاحقة بعنوان "العراق" نقطتي الاستقطاب والربط الدلالي مع عنوان الديوان نفسه "تأبط منفى" حيث يتأبط الشاعر (العراقي) المنافي ويضيع فيها بحثا عن بقعة آمنة وملاذ بعيد عن الخوف والرعب.
تقوم شعرية قصيدتي "حنين" و"العراق" على حدة المفارقة ففي الأولى يقع التضاد الحاد بين النخل (الحياة) والبنادق (الدم) وبعبارة أخرى بين سور النخيل الغائب وسور البنادق الحاضر، وبينهما تقع مسافة حزننا الإنساني وتوتر الحب والحزين للعراق.

"لي يظل النخيل بلاد مسورة بالبنادق
كيف الوصول إليها
وقد بعد الدرب ما بيننا والعتاب
وكيف أرى الصحب
مَن غيبوا في الزنازين
أو سلموا للتراب"

يكثف الشاعر لغته في هذا الديوان إلى حد بعيد حتى يصعب أن نجد له حشواً أو ترهلاً لغوياًً، وهذا ما تحتاجه لغة المفارقة التي اعتمدها عدنان الصائغ في هذا الديوان.

"العراق الذي يبتعد
كلما اتسعت في المنافي خطاه
والعراق الذي يتئد
كلما انفتحت نصف نافذة
قلت: آه
والعراق الذي يرتعد
كلما مر ظل
تخيلت فوهة تترصدني
أو متاه"

والملاحظ في هذه القصيدة أن الأضداد تتشابك فيها وتتراكم طيات دلالاتها الواحدة على الأخرى عبر ما يسمى بالتوليد الدلالي Generative Semantic القائم على مبدأ السبب والنتيجة أو الأثر والمؤثر حتى تتعنقد الأضداد في سلم القصيدة الهابط لتنتهي بالمفارقة الحادة التي تنهض من أعماق تلك الأضداد المتلاحقة.
يقيم الشاعر في هذه القصيدة العلاقة الطردية بين العراق والمنفى، ووفقا لهذه العلاقة فان ابتعاد العراق يولد اتساع المنفى، وهكذا تبقى العلاقة متسعة مادامت هنالك بندقية.
والمثير في دلالة السطرين الأوليين للقصيدة السابقة اللذين يقعان في تضاد دلالي، انهما يولدان حالة واحدة لهما هي "الحنين أو التذكر" دون أن تصطدم دلالتهما مع تضادهما السابق، وهذا ما جعل هذا السطر مولداً دلاليا للأسطر اللاحقة.
تبدو وطأة المفارقة كبيرة على الشاعر حتى تصبح جوهراً في حياته وفلسفته وطيات شعوره قبل أن تنعكس في شعره. وهذا ما لاحظته في هذا الديوان. وهذا هو الشاعر "المفارق" الذي لا يقتصر وجود المفارقة عنده على رؤية الأضداد في الحياة وخارج ذاته وفكره بل يجب أن تصبح جزءاً من فكره وشعوره وهذا ما أشار إليه فلوبير بقوله "ان حس المفارقة يجب أن لا يقتصر على رؤية الأضداد في إطار المفارقة، بل القدرة على إعطائها شكلا في الذهن"
هذا الصنف من المفارقة نجده في قصائد هذا الديوان، حيث تطفح المفارقة في أحلام الشاعر وتختزن في لاشعوره الباطن تضاداً وتنافراً بين حالة حضور الوطن وحالة غيابه، حالة الحلم "الذكرى" وحالة الواقع الدامي. فهو في قصيدة "غياب" يسرب التعارضات عبر حلمه الشارد نحو الوطن. وهنا يفتح التناقضات في القصيدة بين الحاضر والماضي، المنفى والوطن، البناء والهدم.

"رسم بلاداً
على شرشف الطاولة
وملأها بالبيوت المضيئة والجسور والأشجار والقطط
قطع تذكرة
وسافر إليها
محملاً بحقائبه وأطفاله
لكن رجال الكمارك
أيقظوه عند الحدود
فرأى نادل البار
يهزه بعنف
إلى أين تهرب بأحلامك
ولم تدفع فاتورة الحساب"

اصبح الحلم هو الوسيلة التي يهرب بها العراقي أحلامه إلى الوطن بعد أن ضاع في المنافي وابتعد عن العراق.
ومن الواضح أن الدلالة المرشحة في القصيدة تقوم على المفارقة بين حالتين، حالة العراقي المشرد في المنافي الذي لا يملك من قوة في تحقيق حبه نحو العراق سوى سلطة الحلم الذي يعبر به خلسة إلى وطنه الموصد. وحالة العراق المضطهد والمحاصر في الداخل وكلاهما يسعيان الى البحث عن وطن يحتضن الحلم والحياة الأبهى.
 
البحث Google Custom Search