أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
نشيد النص
قراءة في ديوان "نشيد أوروك"

شوقي عبد الامير
- بيروت -

مختلطاً بـ "هذيانات جمجمتك الزرقاء" متشحاً بصمت أبيض أتسلل إلى صوتك الجارح،

"أيها الذابل الآن تحت غصون المكاتب"

يا صديقي عدنان

"على الرمل تحلم أن تكتري غرفة أسفل الذكريات تؤثثها بالأرائك والكلمات... وقلبك أظمأ من حجر صاعد سلماً..."

سأتوقف هنا عن مواصلة نصك لأني أحسك أحياناً تنوء بثقل ردهة ملغومة بالصور والأسلاك الشعرية الشائكة ... كم أراك مكتظاً بالطمي، لاهثاً خارج الضفتين، معلقاً بنجمتين في فضاء جرحك... ولكن

"خذ جرعة من خمور العراق، ستعرف أي أنين تخبئ ناياتهم في جنوب العراق"

أو قل في جنوب العراق الذي ألمسه ما زال يصطخب في أمعاء خوفك وحنجرة ذهولك وأنت تلتقي مسلخ القصيدة مختنقاً بهواك وهوائك.. صارت بيننا الينابيع تختنق فيهرع نخلها وتعرى قراها ولا صوت إلا خطى العابر الشاعر المستضيء بما نام من حجر معتم في العيون

"ومن شرفة الجنرال المضيئة تمر غيوم الخطابة يمر النشيد المجلجل، يمر الصباح المكبل..."،

و"بين شقوق الحجارة"

ألمس شعرك يعلن بابل مشرعة ومضرجة بالقبائل والبدو جاؤوا جنائنها مترعين بموتٍ أزاهيره القبرات، بموت يفيض على الجبهات ويعلو قصائدنا والنذور وأعراسنا والبخور وما ضمت الأرض من حدقات وطيف وطين...

"وفي غفلة... سأضحك... أبصق ما مر في الطرقات، خطاي الممالك مفتوحة في هزيم المرايا. الفضاء جيوبي أعبئها بالنجوم وأركض، حنجرتي في يدي ودموعي إلى الأرض محتلباً بالبياض الكثيف أكدس معناي في سلة الشمس نصاً يسربه العدميون".

سيف من الطين

ونصك هذا يمر كسيف من الطين تحفره رقماً، تُشقق أهدابها بالبكاء وجمراً تعودت أن تحتويه على قبضة في يديك وتكتب أسماء من غادروك مراراً وعادواً تباعاً إلى موتك المستريح على دكة النص

و"الجنرال بعزلته كلما شق صوت المؤذن جبة هذا الفضاء المكلل فوق جفون العباد، سيلبس عمته ويؤم الجموع التي تستظل مكبرة باسمه، وهو لاهٍ بتعديل تكة سرواله، فإذا أغلقوا جفن حبابة أغلق الجامع الأموي وظل يلوب وراء العمود وينحل ينحل حتى تناهى إلى قبرها مثل رجع صدى حائر بين عرش الغرام وعرش الخلافة، والمسلمون على بابه يلطمون ضياع الحصون، فتحتج سيدة القصر: ما هذا يا مؤرخُ..."

عدنان، تلك توابيت تاريخنا، يحمل الشعرُ والعصرُ والفجرُ أدرانَها لبيوت من الطمى أو لحواف مطرزة بالنجيع الذي لم يزل في المآذن يأكل لحم السماء، ... ولكن باب القصيدة أو باب مقبرة في الجنوب تقود الشهيد تكبله بالقوافي وتعجنه بدموع من العرق المر يسفح مثل قصيدك في صوت نائحة قتلت قبل من نَشدتْ فيه أدمى المراثي...
أيها الشاعر،

"فتشتُ جيوبي في خجلٍ عن منديل، لم ألمس غير قصاصة شعر... ماذا لو أمسح فيها أنفي المحمر أمام ذهولِ العينين الآسرتين.. قلّبتُ الصحف اليومية في عجل. استوقفني أحد النقاد بضحكته البلهاء ونظارته الطبية، متكئ الظهر على أحد الأعمدة التشكيلية وهو يثرثرُ... "

لكني مثلك لا أقرأ نقداً عن شعرٍ جارح، لا أحسب أرقام الصفحات ولا أصغي لتعاليم الذكر الشعري ولا رقص الأفكار الملغومة كالوجبة في قارورات فات أوان تناولها، وفراتُك يا عدنان أبوك الميت فيك فمدفنه عيناك وشاهدة الجثة هذا الصوت الهادر خلف منافيك...
اذكر ليلة جئت لبيتي في بيروت وكنت تهيئ أفراح القش الرطب سريراً لفتاك الملتف على عينيه مثل رداء في قصب بري، ليلة كان يقول وقد جرحني بكلام كالموسى الصدئ: أبتي، سأنام غداً فوق سرير في بلد هل حقاً يا أبتي؟
كان الطفل يلّم بقايا الضوء المرتعش، بقايا الزمن المتهشم كالفخار على صدر الصمت الممتد كمرمرة بين ذهولي ورؤاه... صدّقني يمكن ان أدفن موتى، أن أنسى شهداءً، لكني لن أنسى عينيه بتلك اللحظة.

إلى براري السماء

قلْ لي:

"ماذا ستنشر أرملة في نهار السلام سوى حبل أحلامها... على سطح جارتها بالثياب الشفيفة تجمع في طشتها عمرها ذائباً في شموس الأزقة تعجنه ثم تخبزه قرصاً كاستدارة شمس المغيب ومن خلفها أبنها يعلكُ التبن والنظرياتِ لمن يقرصون استدارتها.."

أجل، بعد هذا، وبعد إفتنان الأناشيد بالعهر والطهر مرتدة كالثياب على حبلها في رياح تهب ولا أفق غير الخطى بعثرتها الحروب مناشير أحزاننا وقوارير قاماتنا وقوانين أخطارنا وقواسم أحقادنا وقواقع أيامنا وقد قال كل الكلام هنا سيد أبد سائد كالظلام ...
يقسم نشيدك هذا خارطة الموت العراقي إلى أرخبيل منفي لا يكون النصر فيه إلا مفاجأة للقتيل والحبل المحفور في عنق الهامات يكتب مصيرنا اليوم، يتفتت كلمات وسطوراً متخثرة وأنت تتساءل في أرخبيلك هذا:

"هل كان لي أن اشير إلى شجرة السيسبان يظلل منزله في أقاصي القصيدة. هل كان لي أن أمرَّ على جرسِ الباب أقرع هذا الحنين الذي كنت أخفيه بين قميصي ونبضي فيهرع سرب الكراكي إلى نبع قلبي، أنا جدول يابس غادرته الضفاف إلى عتمة الدغل، شققني عطشي في بلاد المياه التي تترقرق ما بين جفني وكفي، ولكنها الروح حين ترى النهر ألصق من دمعة الغرباء إلى وطني"..

هنا سأتوقف عن الجريان ونهر نشيدك واللهو باستدارة موجاته تاركاً صورة العطش الذي يستبيحك في بلاد المياه وأنت تدخل "عتمة الدغل" أو براري السماء حيث عندما في العلى يتربع النص إنليلُ سومرَ او ثورها الأبجدي.

الاقتباسات مختارة من مجموعة "نشيد أوروك" ـ عدنان الصائغ ـ بيروت، دار أمواج 1996 ـ 232 ص.


(*) نشرت في صحيفة "النهار" البيروتية 21 آيار 1997
(*) نشرت في صحيفة "الاتحاد" الأماراتية 24 يوليو 1997
(*) نشرت في صحيفة "الفينيق" – عمان/ الأردن -  1/2/1998
(*) نشرت في مجلة "ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002 النمسا (عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search