أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
تعليقات إضافية على نشيد أوروك

د. الأب يوسف سعيد
ستكهولم

عدنان الصائغ.. آخر زفير لمتأوه مصلوب، الملاحق من أسلحة دياجير الظلمة، المتأفف من أصوات سلاسله، الثقيلة. إلى حد الضجر والانتحار. محاطاً بثيران هائجة، عيونها حمراء كالدم. كوردة، كدم وردة نيسان. الملاحق من دياجير أسلحة الظلمة محاطاً بثيران هائجة، تكتنفه، مفهرساً مأساته المكعبة الضلوع. فاقداً لغته من حركات هذيان حنكه المتدلدل. المصاب بأمراض الوحدة. أليس الوطن لعنة. والوطن عبارة عن صليب شائك، الوطن حتى الموت موت الصليب. الوطن حفرة ملأى من عظام قتلاه حاملا تراب الموت بين كفيه إلى أسرة خالية من ظلال لمساءات قادمة، سحناتها مكفهرة. وأجواؤه عبارة عن عذابات متلاحقة!
من منكم يثقب يدي ورجلي. ردائي المهلهل قرمزي اللون. دمائي تصنع جداول ألوانها الأصيلة.
وعدنان الصائغ إلى حد الاختناق أميراً على عرش مأساته شبه عار يصرخ ملء حنجرته

"صليات رياح طائشة أقواس من طين، استنساخ بلحاف بال يعبر مشحوف الهور إلى أكواخ السادة، ضميه بدولابك يا أم جواد. الشرطة ينتشرون كديدان النهر بأحراش البردي عينان بلون الحمص. والفرس الصهباء تلوك عليقتها في كسل ملحوظ. أين السفرطاس أبوك بدون غداء؟ يا عباس أحذر أن تقع المنشورات في يدي الشرطة. اسمع أنفاس مسلحة بين النخل" (ص69)

"رياح تلبط كالبنية في شبك الفحل يلز بها الفالة حتى تهدأ أبصر في عينيها الوالهتين مياها غائرة وقوارب صيادن، قرى يوقظها صوت الديك، وأخرى توقظها الطلقات، وأخرى لن تستيقظ. أين تركت الفالة تلك الليلة؟" ص69 وذات المصدر.

اللغة عند الصائغ لها نبضها الخاص، وعندها قاموسها الذي يفهرس دم الكلمات. هذيانه ابيض، ترعبه في الأماسي كلمات بيلاطس النبطي. وهو متربع على عرشه المهزوز. أخيراً أوثقوه بخيوط عيونهم ومضوا به جلجلة واثقة حدودها من يعبر نهر الكلمات، كلمات تلاحقه تناديه كما استصرخت ضمير الشاعر جورج شحادة في براعة ذكية. ولغة الشاعر للشاعر الصائغ المشرد كلياً عند اقانيم وطنه. اسمع شحادة يصفه:
"يا وجه الشاعر على ضفة الماء
حللت حياتي كلها من وثاقها
شأن هذه الزوارق. ص75 من ديوانه أشعار.
عدنان الصائغ السابح في برك الحرب، ببسطاله المتثاقل بالدم والطين. ترى لماذا اختار اللغم صديقي فتطاير أشلاء مثل حمام مذبوح يخفق في الأفق ص 66. ثانية، ترى كيف دخل عدنان بوابة الليل بانتظار أزيز الرصاص من أقصى الحدود.
أيها الفارس الكئيب لماذا سنجابك الذي يدخل حديقتك يحاول بنظراته اللاهبة، ظلال تشرق فوق دم مجفف. والشمس كسيحة مهيضة الجناح ولماذا أرانبك طاردتها كلاب القرى البعيدة؟ تعود أدراجك إلى الينابيع فإذا خلاصات دم الأسفنتين قد اعتصرت فوق ملابنها
صمت ممزوج برقرقات ماء الشلال الكبير.
وماذا اكثر من رهبة الموت، كثيرون هم الراكضون في الأرض، كثيرون هم المهرولون نحو بوابات العالم بأنظار أزيز الرصاص من أقصى الحدود.
أيها الفارس الكئيب، لماذا سنجابك الذي يدخل حديقتك، يحاول بنظراته اللاهبة
براعتك في أوروك تشرق شموساً فوق دم مجفف، وشمس كسيحة، مهيضة الجناح بينما ربيع يفقد زخارف الورد في أشجار تفاحه . ولماذا أرانبك طاردتها كلاب قرى بعيدة. ستعود في يوم ما أدراجك إلى الينابيع فإذا خلاصات دم الأسفنتين قد اعتصرت فوق ملابنها رؤى وخيالات قد تكون من شهوة الموت. أو قد تكون

"من يكحت الأرض من سبخ الظلم غيرك يا صاحبي في الزمان
يا صاحب الزنج، يا أيها القرمطي الذي لم يجد وطنا في البلاد سوى الملح والجرح. يا أيها الأشعث المتطاول حد ملامسة السيف بالعنق والعنق بالعرش، ما حدكم للشراء إذا بلغ الجور حد الآذان. ويا أيها الحرد لا تأمنن زمانا يباع به رجل كالغفاري بسطل شعير، ولا تركنن لعرش يمد إلى النعش خط التهافت بين القضية والقبض". ص101.

عدنان الصائغ الراكض "في برك الحرب ببسطالي المتثاقل بالدم والطين. لماذا اختار صديقي فتطاير أشلاء مثل حمام مذبوح يخفق في الأفق" ص66.
ترى كيف دخل عدنان بهذه الرتابة المملة بوابة الليل بانتظار أزيز الرصاص من أقصى الحدود.
وماذا اكثر من رهبة الموت مبصوما بحروف اسمك على صخور جبال تعانقها الشمس. القمر بلسانه اللامع يلحس ظلالا من تكور النور في أعماق الوديان. بعيداً عن هذا شأن هذه الزوارق. ص75 من ديوانه أشعار.
عدنان الصائغ السابح في برك الحرب، ببسطاله المتثاقل من يعرف الشاعر بالتعابير السرية، سوى هذه النغمات المحبوكة بخيوط عذاباته يعرفها لنا قلم الصائغ بهذه الانسيابية الذكية المحجلة، حيث اللغة وسائد ملونة لقهرمات أفكاره (ما الذي سوف يعنيك؟ ماذا سيعني السجين اخضرار السهول) سأرجع ... ص 128.
وأردف بعد تأوهاته الثقيلة ثقل فردة الرحى

"فأين نساؤك يا سعد.
منشغلات بجمع الغنائم، لا آيم بينهم تنوح، فما تنفع الفتوح، ولا شجر تحته نستريح، ولا وطن أو ضريح
أنحيا الحياة قتيلاً يجر قتيلاً، أم نكتفي بالقليل من العمر، والعمر ريح ... وخلف العمارات، خلف الدروب تنوء حبال غسيل الغروب، بأحلامنا البيض. نتركها لتجف،
فيصبغها في المساء دم النجمة الآفلة." (ص 94).

دائماً تعزيني قصائد الشعراء. ألم يقل قبل الصائغ جورج شحادة: أيتها الحسناء كملمس أشجار الدلب
أنت لم تري صليب سنؤنوات، سرخس الذاكرة ولا ثلج الأوراق المملح فوق الآبار
ذري رمادا على عينيك أن كنت قد/ "...." النباتات الخضراء (ديوانه ص 74)
وفي وصفه لحوادث في حادث غريب، ثانية عدنان الصائغ في هذيانه العاري، حتى من غلالة الشمس.

"فيشطب في الفجر اسمان ...
والجنرال بعزلته يقبل السفراء ويمضون، تأتي العشائر، تأتي الوفود، الجنود التي تتبخر أسماؤهم (صانعا من بساطيرهم شاشة يتطلع منها إلى شعبه يأمر المخرج الكث أن يبدأ البث) تأتي الجنائز، تأتي العجائز تمسح في بوله سالفاً بيضته الدواهي. المقاهي بروادها شاخصون بأبصارهم صوب صورته تتبسم وهو يشيل غطاء الطناجر في مطبخ لليتامى فتقفز سبع دجاجات مسلوقة لتسبح في حمده (ينتهي البث)" ص 74.

عدنان الصائغ من الصعب جداً أن يعطي وسناً لعينيه ولا نوماً لأجفانه، حزين حزن من صرخ: أن تشأ فلتبتعد عني هذه الكأس، كأنه معبأ بعصارات من رحيق دم الحنظل والأسفنتين. اكتب لنا أيها الصائغ قبل أن تجيء السنون، ولا تحمل على هامتها أشعة شمس أو نور قمر، أو ترجع السحب بعد المطر.
دمت حاملاً على منكبيك صليب الذكاء العراقي وجرأته.


(*) نشرت في مجلة "الجسر" ع 9 حزيران/ يونيو 1997   السويد
(*) نشرت في صحيفة "الفينيق" – عمان/ الأردن -  1/2/1998
 
البحث Google Custom Search