أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
أنساق الدلات الشعرية

نشيد أوروك
الحذف خوفاً، ورقى العقارب*

د. حسن ناظم
ليبيا

أصعدْ فوق سور أوروك وتفكّرْ
تفحّصْ أساسه وفتشْ لبنه
     ملحمة جلجامش
اللوح الأول – العمود الأول

I

أَوَ يدرك "البنّاء" أن ثقوباً صغيرة أو كبيرة أهمل (أو تناسى) إغلاقها ستكون ممالك للخنافس، وأن دهاليزه السود (اوية) ستكون جحوراً للقوارض ؟
لكي نجيب عن هذا التساؤل بـ "نعم أو بـ "لا"، لا مناص من أن ندخل تلك الممالك، ونمشي متوجّسين داخل تلك الدهاليز، متنفسين هواءها الأسطوري المخيف، ومتحسسين رموزها المنقوشة بوحشية وصرامة، متعثرين ببقايا حطام قديم، وببقايا حكايا متحجرة ونابضة تترع مخيلتنا بدهشة مشوبة بالرعب. وفي كل مرة، ورغم التكرار، ستبقى الدهشة هي الملمح المهيمن على تقاطيعنا رغم دائرية الحدث ووتيرية الضجيج أو السكون.
ولنا أن نبدأ، هكذا، ملطفين من خشونة المنهج، وقسوة الأكاديميات، إذعاناً لتلك الليونة الشرسة والجياشة – تماماً مثل ليونة وشراسة وجيشان الموج العاصف – التي ينميها الغمُّ لأنه كآبة الماضي، والهمُّ لأنه أفق المستقبل المجهول. هكذا فلنبدأ مع "نشيد أوروك" الذي هو، إجمالاً، محاولة لردم الهوة السحيقة والفجوة الكبرى اللتين خلفتهما الوقائع الفعلية، ومن ثم الوقائع الشعورية بإزائها. فالتغييرات العميقة التي نجمت عن العسف كانت تنذر بمحاكمات جديدة تمثل في "نشيد أوروك" على أصعدة متنوعة: الذات، والتاريخ، والأساطير، والرموز، والحكايا، والشعر، والنثر، و"المطولة الشعرية"، ومفهوم المواطنة، والسحر والسياسة، والمجتمع، ... الخ. لكنها كانت محاولة تحكم على نفسها، ابتداء، باللاجدوى حينما تناغي بابلو نيرودا:
لا شيء ولا حتى الانتصار
سيردم الفراغ الفظيع الذي خلفه الدم
لا شيء ولا حتى البحر ولا خطوات
الرمل والزمان
والنبات المحترق
فوق اللحد (1).
إذن، لا شيء "يردم الفراغ الذي خلفه الدم"، وأفكر الآن في أنه ليس بفراغ، أو أنه فراغ مليء. إن "نشيد أوروك" محاولة لملء هذا الفراغ وكشفه في آن، إنه مشروع تضرب أسسه في أعماق الجراحات لتنكأها، فنعوي مسعورين، أو نرتجز موتورين، أو نغني منشدين: "هذا هو نشيدنا المر، تلخيصاً لكل ما مر". هكذا كتب الشاعر عدنان الصائغ (الإهداء) على مخطوطة "النشيد"، ولم ينس أمنيته أو تحذيره إياي: "أتمنى أن لا تقرأه .. وتتجنب الصداع والألم والغثيان ..". وفي الحقيقة، لم يكن "النشيد" تلخيصاً بقدر ما كان رؤية شمولية، والذي كان مختزلاً ومضغوطاً إنما هو نص (الإهداء) نفسه كما هو معتاد، واذا كان النص (الاهداء) يمثل ظاهرياَ، أمنية معبأة بتحذير من قراءة "النشيد"، فأنه يستبطن، في الواقع، إغراءً ملحاً بالقراءة، قراءة لاهثة ودامية، وركض فوق السطور على إيقاع متكسر، على (متدارك) ملغوم، وما دمنا "نهرول" فوق السطور الملغومة، فلا مناص، إذاً، من التشظي.

"يغمس أقدامه بالمحابر والدم ثم يهرول فوق السطور ليكتب تاريخ أوروك"
(النشيد ص 21)

"الهرولة" قفز متواصل، ركض خفيض لكنه مثابر، وما بين نقطة ارتكاز واخرى، ثمة دائماً فجوة نعبرها، ومسافة نتجنب طرقها، لكننا نعبرها متفرسين فيها، هذا التفرس هو ما يجب التعبير عنه، وهذه الفجوات، رغم عتمتها وخطرها، هي موطن القول، ورهان الكلام على صعيدي الشعر والنقد، وتبقى نقاط الإرتكاز الروابط التي تهيء شكل الشبكة كيما تتبدى الانقطاعات والانتقالات المفاجئة، والفجوات والحذوفات على اختلاف أنواعها وطرائق تحققها، إننا هنا، نطالب الحضور بالوشاية بالغياب، والمضي بإنارة المعتم، كائناً ما كان هذا المعتم: فراغاً محضاً، أو صمتاً ضمنياً، أو لعبة لغوية، أو بروزاً اسلوبياً، …إلخ. من هنا كان "النشيد" مشوشاً وساخطاً ودموياً وفضائحياً، يُسقط عن نفسه مألوفية النشيد وسماته الحميمة، لكنه يحتفظ بملحميته، إنه ينازع تلك المألوفية هيمنتها لتتمخض عن تلك المنازعة دورية الإمتثال والعصيان، ولكنه، إجمالاً، عصيان غالب، بل إنه يدفن في روعة امتثاله عصياناً مكبوتاً.

II

تستقيم "الحذوفات" التي تمارسها مطولة نشيد أوروك بشكل لافت للنظر، عنصراً يشوش النص، ويلحُ على مطالبتنا بالتكملة. فهي تشكل ستراتيجية حاذقة تتوخى الشعر في الكتابة في الوقت الذي تبني فيه جداراً من الصمت حيثما تجلّى الخطر. وعلاوة على ذلك، يمثّل هذا الحذف، هذه الستراتيجية، آلية دفاع تُجبر النص على الصمت حيثما يتجلّى الخطر. فمن جهة أولى، هناك الفراغ المنقط (…) هذا الثقب الذي يسكنه الصمت، وهو يشير في الوقت نفسه ، الى حذف قصدي يستشري في النشيد. وهناك، من جهة ثانية، ما يقابل هذا الحذف، أي الإطناب الذي يؤشر تصريحاً بادياً، وغالباً ما يكتسي سمة "زلات لسان" مقصودة إذا ما تمعّنا في مكشوفيته وحتى فضائحيته. يعني وضع الفراغ المنقط (…) صمتاً قصدياً، وهو يعني، في آن، صمتاً صارخاً. ولا يتوخى التعبير الأخير لعبة التضاد البلاغي، إذ أن النص يشي بامتداداته ليجعل الغائب حاضراً فعلياً.
يمكن لجملة شعرية أن توحي بالمحذوف منها، بل يمكن، أيضاً، أن تحدده بدقة. ولا شك في ان ثمة فرقاً بين الإيحاء والتحديد الدقيق من الناحية الشعرية. ومع ذلك، ستكون المهمة الأساسية هنا ملاحقة مواضع الحذف كيفما كانت، ومهما كان الهدف الذي تستبطنه. لنتأمل ما يأتي:

"وأنت وحيد. تمر عليك الصداقات باردة. كوبه بارد، ويداك.."
(النشيد، ص7)  

لاشك في أننا يمكن أن نضع – بدلاً من النقطتين (..) – كلمة "باردتان": "ويداك باردتان". إن هذه الإمكانية يتيحها سياق الجملة الشعرية نفسها على نحو ميسور، وربما يمكن أن نضع بدائل أًخر ملائمة مثل: "ويداك أيضاً" ما دامت الجملة معطوفة نحوياً على جملة "كوبه بارد". هذا العطف هو الذي يُشبع الدلالة رغم نقص النسق اللغوي. لكن هذا النمط من الحذف لا يوفر أبعاداً شعرية فائقة كغيره من أنماط الحذف الأخرى. إنه، ببساطة، يحاول ان يختزل الجملة بحدودٍ يسمح بها النحو وتجيزها القواعد، فضلاً عن انه لا يخلق فضاء دلالياً محتملاً، وإنما يؤسس دلالة محددة عبر مفردات متعددة غالباً ما يحكمها الترادف، ولا يتيح إمكانية العكس، أي الإيحاء بدلالات متنوعة.إذن، الحذف، هنا، حذف مألوف، وليس ثمة حاجة لأن يُمارس النص تنبيهاً عليه. غير ان الأمر يختلف اختلافاً جذرياً حين ينوّه النص بأن كلمة امتثلت لقواعد "الرقيب" فـ "قصّها":

"صرختُ: بلادي… فقصَّ الرقيبُ الحروفَ الأخيرةَ معتذراً بالدخان الذي يحجب الأفق واللافتات. صرختُ: بـ … لا… ففزَّ نعاس الأميرة من هدبها برماً، وتثاءب سرب الحمام على الشرفة الملكية، فاستنفر الجندُ أقواس آذانهم خلف ذئب الصدى…"
(النشيد  ص 7)

في الحقيقة إن "الرقيب" لم "يقصَّ الحروف الأخيرة" من صرخة الشاعر "بلادي" بقدر كان الشاعر يحاول أن يمارس لِعبَه الخاص على كلمة "بلادي" التي تتضمن أصواتها أداة النفي "لا". لكن إمكانية "قصّ الرقيب" الحروف تبقى متاحة لتؤشر قمع القصيدة، ولتذكرنا بمطلع النشيد:

"مَنْ قال إن القصيدة لا تنتهي في جيوب المقاول
في مقصّ الرقيب [سينسى عويناته القزحية فوق سرير البغيّ]
فيشطب – في الصبح- نصف القصيدة
كي تستقيم مع الميلان الأخير
                             لوزن الوظيفة"
(النشيد، ص5)

إذن، ثمة تدرّج في "القصّ": "نصف القصيدة" ثم "الحروف الأخيرة" من كلمة "بلادي"، لتبقى "بـ …لا …" هكذا عارية تستفزّ الذهن عبر احتمالين: يتمثل الأول في تمخض صرخة مبتورة أو حشرجة تنعى وطناً مزقته "خطوط العرض" المتوائمة مع التمزق الاثني والطائفي. أما الثاني فيتمثل في الصراخ وجعاً ورفضاَ. إن هذين الاحتمالين الدلاليين إنما ينشآن بفعل الحذف الذي يرعاه الشاعر – وليس الرقيب- عبر قص الحروف واستثمار أشلاء الكلمة أمثل استثمار. وفعل تمزيق الكلمة قصدَ تمخيض "لا" إحتجاجية ينسجم مع ما يُحتجُّ ضده. وهنا يتكون تماهٍ بين الكلمة الممزقة والوطن، بين كلمة تنفي أجنحتها وبلاد متمركزة في حصن مضغوط. وهكذا يصبح اللعب اللغوي، والعبث بالكلمة، مقنّناً ومنظّماً، وعلى الشاكلة نفسها، يصبح فعل الفضح ضرورة، وخلط الدم بالحبر ضرورة، لأن نشيد أوروك ليس هو النشيد الكرنفالي الذي يمجّد الحياة عبر المرح والفرح، والبناء والتقديس، وانما هو نشيد الانتهاك والحزن، نشيد المأساة التي تدعو، سلبياً إلى تمجيد الحياة:

"ما بين موت وموت نشيد طويل نكرسه لمديح الحياة"
(النشيد، ص25)

هو نشيد نشيج:

"أريد خريفاً لأنضج هذا النشيج نشيداً لأوروك يختصر الأرض أبعد ما يبسط الشعراءُ الخيولَ على السهل والكتب المدرسية".
(النشيد، ص17)

هو نشيد نشيج، وأصواته مترعة بالدم والدموع، ومكتوب بمزيج الحبر والدم:

"كلما جمعوا كتبه ورموها بباب المراحيض، يغمس أقدامه
بالمحابر والدم ثم يهرول فوق السطور ليكتب تاريخ أوروك"
(النشيد، ص21)

خلط الدم بالحبر هو فعل فضائحي لا يتوخى التوثيق فقط، توثيق الوقائع من أجل تاريخ مكتوب، بقدر ما يتوخى مزج الآلام والحسرات بالوقائع نفسها، مزج الموت الذي يفعم تلك الوقائع عبر التاريخ الطويل الذي حشدته المطولة في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وكأن الدم حالما يُهدَر تنتعش في الذهن فكرة "العود الأبدي"، أو اسطورة اللعنة المزمنة التي لا تكتبها اللغة بيد تمسك قلماً، بل تكتبها الأقدام المغموسة بالمحابر والدم هرولة فوق السطور "لتفصح تلك (الخربشات) عن واقع لا تكون معه اللغة "مُفصِحة" ولا "مُبينة". ولا تعني كتابة الأقدام المغموسة بالدم والحبر لطخات مشوشة، إنها تعني كتابة "الشعر"، الشعر الذي يمكنه وحده أن يختزل لنا تاريخاً بعبارة موحية، مواشجاً الواقعة التاريخية بالواقعة الراهنة، حينها يمكن الحديث عن: ملك ذي أبّهة وذليل في الوقت نفسه:

"ويضحك دعبل من عانة المتوكل ينتفها الترك في البركة الزئبقية".
(النشيد، ص 21)

هذه الجملة التي تعكس علاقة الشعر بـ "الملك" الذي رُمّزَ لصالح المُرمِّز (=الترك) ليبقى منتشياً (=ذليلاً) في بركته (=أبّهته الظاهرية)، هي في الواقع عصارة كتاب تاريخي فضلاً عن كونها تلمح إلى راهنية نحياها بعنف.
ولا يفوّت "النشيد" فرصة فكِّ الكلمات حيثما تضمنت في بنيتها أصواتاً تعني الرفض والاحتجاج وحتى الموت:

(" رأيت العريف يقهقه من كد "مات" ي ويسألني أن ألمَّ ثيابي على عو"رتي")
(النشيد، ص26)

ومرة أخرى، في الحقيقة مرات عديدة، سيعود النشيد الى لعبة قصّ الحروف ولكن بطريقة تغيِّب الكلمة تماماً، فمن قصّ نصف القصيدة (المفترض)، إلى قصّ الحروف الأخيرة، إلى تغييب الكلمة كلها باستثناء حشرجة صوتها الأول:

"صرختُ حزيناً: يا وطني، فارتجت جدران الزنزانة:
يـ .. ..
… واقتسم الحراس بقايا الأحرف…"
(النشيد، ص61)

كيف يمكن معالجة هذه الكلمة المغيّبة؟ وكيف نقبض على إيحاءاتها المنبثقة من الغياب؟ يبدو، للوهلة الأولى، أننا يمكن أن نعيّن مقصد الكلمة بالضبط، إنها صدى صرخة السجين ترددها جدران الزنزانة، إذن هي: "ياوطني"، لكن غيابها القصدي لا يعني انها تكرار محض لصرخة السجين، والنص لا يريد أن ينبئنا أن جدران الزنزانة رددت صرخة السجين وكأنها إعادة تصويت. إن الثقب المشوب بالنقاط في النص يطفح بإيحاءات ترمي كلها إلى العالم السرّي للسجن الذي يهوّم في ظلمته دمّ ممزوج بالبول والغائط، وأنّات تغفو على ترجيعها بقايا كائنات معلقة المصير، وغالباً لا مصير لها سوى شبح يناجيها بالغياب، وأطياف حالكة وكالحة تنذر بالموت. لن نجد، في الواقع، سوى الفراغ المنقط (هذا الثقب المظلم) والياء المقصوصة تتمظهر لوحة وافية كافية لتصوير ما يعجز الاستطراد عن وصفه. النقاط الفارغة على سطح النص فرصة خائبة، على ما يبدو، لتشكيلها كلماتٍ تحاول أن تقارب دلالياً واقع النص السافر أحياناً، والمتخفي أحياناً أخرى. وربما تكون أية محاولة لتشكيل الفراغ المنقط إنما هي إنهاء للعبة النص في التخفي بعيداً عن أعين التصريح الأجوف (فالفراغ مليء)، ولكي نواصل اللعب معه علينا أن نبقى في الدائرة التي يحددها، أي أن نبقى نمارس اللعب ضمن القوانين التي يسنها النص نفسه من دون مراوغة أو تملص. لكن ثمة شيئاً لا مناص من قوله، فما دام "الحراس" قد "اقتسموا بقايا الأحرف" فإنهم هم الذين أتاحوا مثل هذا الفراغ اليائس، وهم في الوقت نفسه الذين ملؤوه. ربما يمكن أن ننفذ إلى هذه المعالجة من التهويمات التي تحيطنا من مصدر خارج النص، لكنها تكملة في الآن عينه، فاستغلال صمت النص، والتطرّق الى ما لم يتطرقْ إليه هما نقطتا الانطلاق إلى مقاربة خاصة لحذوفات النص "السافرة". ومع ذلك، تبدو المعالجة، من جهة معينة، من النص نفسه، فالحراس، حين سرقوا الصدى، أوحوا بالعنف، وألهمونا انحباس الصرخة في العنق، أي ألهمونا ذلك اللعب على الكلمات المقموعة، على النص المقموع. إن الشاعر يترك ذلك العدد الوافر من الحذوفات والجمل الناقصة من دون تحديد مسالك معينة ليبقي على احتمالية هي من مسؤولية القاريء.
بهذه الطريقة يمارس النشيد الهجاء المعاصر، فهو يستثمر لغة، وليس واقعة، لكي يندد بالواقع، أي يستثمر تقنية لغوية تتشكل نقداً لا يوارب على الإطلاق في السخرية مما هو قائم:

"حذاء الرئيس المبطّن بالفرو والغزو"

لاشك أن الشّقة المتباعدة بين مدلولي "الفرو" و "الغزو" هي التي تخرق بدءاً، مألوفيتنا. لكن هذا ليس كافياً كأساس لتميّز العبارة، فالنسق الصرفي للكلمتين "الفرو" و "الغزو" يثير تعادلاً، هو تعادل نغمي يحفزنا على التعمّق في الكلمتين لعل شيئاً آخر، غير الإيقاع، يتطلّع (أو نحن مَن يتطلّع) إلى المثول أمامنا، شيئاً ينفي سمة التباعد، ويقرّب بين الكلمتين: الكلمتان، من جهة معينة، تبدوان متماثلتين، وثمة قاسم مشترك يوجّه تآزرهما معاً دلالياً، إنها موضوعة الإستغلال العسفي. وهكذا يصبح "الفرو" غزواً داخلياً، اشارة إلى نهب السلطة الثروات. ومع ذلك، فالبناء الصرفي المتماثل يستبطن تنافراً، بيد أنه، عميقاً، ييتناغم في مسلسل دلالة موحد يتحول في ضوئها التنافر الى اتساق يتكشف عنه النص في أحيان عديدة. وهكذا تتحول العبارة، عبر تجاوز الإيقاع وبتواشجه أيضاً، إلى نقد للنظام السياسي من دون استثمار مادة سياسية بحتة، بل عبر تلاعب لغوي بحت. وحين تنشط التلاعبات وتتخذ مستويات متعددة، وتتراكم كمياً وكيفياً يتخذ النشيد، ضرورة، طابع هجائية للنظام السياسي، ومن الواضح إنها هجائية من نوع خاص.
إن الحذف الذي يمارسه النشيد يمثل آلية دفاع تحاول ان تجبر الذات على السكوت، ربما لأن "السكوت من ذهب" على مستوى معين من مستويات شعرية النص، فالفراغ الممتد على سطح الورقة خطياً أو الفراغ المنقط بين قوسين (…) وغير ذلك من طرائق الضغط والاختزال تؤشر صمتاً محتشماً يقطع تدقق النص وانتقاداته العنيفة كيما يؤسس، في الأخير، حصناً يقينا من الانتهاك السافر. إلا إن آلية الدفاع هذه هي آلية هشة، وما الحصن إلا حصن رملي يفتقر إلى أهم صفاته: "حصن منيع". إذ يمكن للقاريء أن يخترق هذا الحصن محطماً آلية الدفاع تلك، محطماً الحذف ومخترقاً الغياب نحو الوصل والحضور، حتى ليخيّل إليّ أن الفراغ وهم، وأن النقاط كتابة خالصة وناصعة ومتفجرة، تماماً مثل نصاعة وتفجّر الفراغ الآتي:

"قال ابنه: لا أحبّ النشيد ولا العلم المدرسيّ ولا… غير أن معلمة الصف دسّت بأذن المديرة تقريرها عن جنوح الفتى طائشاً…."
(النشيد، ص37)

في هذا الوضع النصي، لم تعد القيم مستقلة عن حاميها (=منتهكها)، ولم يعد النشيد مستقلاً عن ذات منشده (=منتهكه)، والفراغ المنقط رفض لأقنوم ينصّب نفسه قهراً وكرهاً كشيء مقدّس. وحين يتردد النص في نصب الأقنوم، يقيمه الفراغ المنقط شاخصاً في مخيلة القارئ من خلال نقاط ثلاث فقط، لكن النص لا يغفل تصديره بـ "لا" خادشة تصريحية. يكمن في هذا التصريح تزعزع الثوابت بمستوياتها المختلفة؛ لأن الهزة العنيفة لا تقوّض الظاهر حسب، وإنما تنخر في الأسس، لا تدمّر البناء بقدر ما تقتلع جذوره، الأسس هنا هي الطفولة المتمثلة في قول (الإبن) الذي حشد بذور المقدس الحقيقي مع المقدس الزائف، ربما لأن قطرة دنسٍ واحدة في عُبابٍ من المقدس تحيله على دنس. النص، إذن، يهمل ملء الفراغ خوفاً:

"منْ يدري قد تصبح آخر ما أكتبه هذي الهذيانات وقد لا أكملها"
(النشيد، ص 58)

لحظة الكتابة نفسها متشحة بالرعب، لذا فهي تلجأ إلى آلية دفاع تمنح قوةً للشعر، وهشاشة لحقيقة مَنعتها، فتعلّق الحذف بالمرعب يجعله ناصعاً لا سيما حين تتخذ الكتابة شكل السرد ولا تلجأ الى الحيطة المجازية. فهل الكتابة موقف مرعب؟ قال فلوبير في روايته "تشرين الثاني": "أيّ فائدة تجنى من كتابة هذا الذي أكتب ؟ لماذا استمر في تلاوة النشيد الجنائزي ذاته بالأنغام الكئيبة ذاتها ؟ عندما بدأت بكتابته، عرفتُ أن فيه فائدة، لكن وأنا أتدرج به، راحت المخاوف تتساقط على قلبي وتخنق صوتي". لكن كافكا قال في "يومياته": "العزاء الغريب، الغامض، الخطر ربما، المفتدي ربما، الذي في الكتابة: إنها قفزة خارج جناح القتلة" (2). ويبدو أن النشيد معلق بين جناحي قتلة، المخاوف فوقه، ولا خارج لهذين الجناحين، إنه فقط يدور في فضائهما ناسجاً غطاءً واهياً، ومطلقاً للريح رجليه، فيما رأسه مشغول بلغة السحرة والمشعوذين:

"بحقك بهياش طماش يطاش أطشين طيوش هيهوش ياهوش بقشوش شيغاب سلعاس فنطاس شلياه بطميس دمليخ مشليخ دملاخ خيخاخ شماخ رماخ شناخ خيوخ بحباح بحاح منفاح ملطاح حيّوم قيّوس طليّوس طلسوم ديوم ديموم، ردوا الغريب الى أهله. قال ساحر هطمهطلقيائيل: إخفق ثلاث بويضات ديك بزيت مرارة ثور وعود من الزعفران وبخر به ليلة السبت جسمك باسمك يافور ياروث ياشوش ياموش ياشيط ياميط ياخيم آخين شمعوط شبشوب أش أش اشياش كمش كمش كمروش كمروش أكمش أكمش اكمشوا على (……) عجلوا عجلوا باسم عطوم، فطوم حم حم حم حم ناطور آلر آلر آلر آلر حمعيص جمعيص كشكش كشليخ ك ك سس ك ك*ز ز ب ب هـ هـ هـ هـ ا ا ا ا ا ا ءءء = ص ص ب ح ق ا ل س م ا و ا ت و ا ل ا ر ض أ ر ح م ن ا م ن ص د ا م ب ن ص ب ح ه ب ا س م ك يا هـ م ا م 3 يا قهار يا مطّار الساعة 2 الساعة 2 الساعة العجل العجلى 222 55555 ق ق ق باسمك درديائيل ينقلب السوط أفعى ويلدغ يد حامله. ثم نقع بحيض فتاة لها سبع شامات في البطن هذا الحجاب المجاب، وحك به:
قفل سجنك يفتح
أو بطن زوجك ينفخ
أو عرش حاكم يـ ……
(النشيد، ص 112)

هنا نشهد آلية دفاع أخرى تحاول أن تستثمر أسلوب كتابة الحجاب عبر كلمات طلسمية. ورغم أن غرابة الكلمات ولغزيتها تنشّط التلقي، وتجعل السير مع "النشيد" رهواً كونه قصيدة جد مطولة، إلا أن هذه الغرابة ليست هي المقصودة من وراء هذا الطلسم. ورغم أن نهاية هذا المقطع تعاود استعمال الفراغ المنقط لتترك لنا تقرير مصير "عرش حاكم" نخلعه منه رمزياً، لكن الشيء الأكثر غرابة هو المعادلة الرياضية الحروفية التي تزاوج، في طرفيها، بين حروف تشير أعضاء التناسل لتكون النتيجة بعبعاً ودعاء استرحامياً مستغيثاً يتواءم مع متضمنات الحجاب وغاياته. وربما يمكن ملء فراغات بعض النص بنقل هذا الذي يستغاث منه إليها كنوع من تقييد الاحتمال وتأكيد المرمى الذي يلح عليه النص. ومن هنا، تكون ثمة إمكانية لربط حلقات النص المتباعدة من أجل ملء الفجوات، ومن ثم، تحديد الدلالات. فالمقطع الطلسمي السابق هراء ذو وظيفة محددة، وربما يكون أعلى درجات "الهذيان" القابع في "جمجمة رزقاء"، أن التصاقه بسياق "النشيد" بوصفه كلاً هو الذي يحدد الهدف من وراء هذه الكلمات المنفرة وتلك الحروف الفاضحة، و"النشيد" غالباً ما يثبت الفراغ المنقط (...) درعاً غير حصين، وغالباً ما يحتمي بالفراغ بدلاً من مواجهة الرعب، وهذا يعني أنه يواجهه، فالفراغ هنا مواجهة حقيقية:

"سيدي وأشتريت كباباً لها ثم رحنا الى الصحن كانت تسب الـ …"
(النشيد، ص 143)

يبدو أن نتيجة المعادلة الحروفية السابقة تستقيم قاسماً مشتركاً يمكن له أن يوضع في الفراغات الوفيرة في النص، فنتيجة المعادلة تكثيف للمخاوف النفسية وترميز لها في آن. والحال نفسها فيما يتصل بامتداد المقطع الطلسمي الذي يستغرق صفحة كاملة تقريباً مؤشراً الامتدادات النفسية الجياشة لدى الشاعر الذي يجد في مط الكلمات الغرائبية فرصة كيما يعبر عن تخمته بالدهاليز المظلمة، وما تخبئه من ذعر يطفح عبر الكلمات الغرائبية نفسها. وهكذا سنجد، غالباً، أن حروف المعادلة، لاسيما طرفها الثاني، تسعفنا في سد الفراغات المبثوثة هنا أو هناك في النص. إن السياق المحدد يحول دون سقوط المقاطع الغرائبية في اللامعقول أو اللغو المحض، ومادام الغرائبي يندرج ضمن بنية هذيانية مصرح بها، فإن لغوية الغرائبي المفقودة ظاهرياً تعاد إلى حضيرة القارئ عبر إيقاظه وتشويقه، لاسيما إذا ما وضعنا نصب أعيننا أن النشيد مطولة، بل أطول قصيدة في بابها. ومن هنا يضطلع الغرائبي بمهمة تبلبل التلقي لترغّبنا في المتابعة حتى النهاية، وقد يمثل الغرائبي والمحذوف إعلاناً يخرق العادة ليتمرد على اللغة ومدلولاتها المعقولة لتؤسس ذلك الجانب الراقص في النص، ذلك البهلواني الذي يرقص الكلمات رقصة متوحشة. ورغم ذلك، يبدو لأول وهلة أن هذه المقاطع الغرائبية في النشيد تشير الى إسراف لغوي تطيش أهدافه فيكون بلا معنى، لكنها، في الواقع، ذات معنى، والبذخ، وليس الإسراف، هو ما يمكن أن ننعت به النشيد من ناحية وفرة الغرابة التي تحاول تعويض النقص الوفير أيضاً والمتمثل بالحذف والصمت اللذين يشيعان فيه. وها هنا تكون ثمة مدلولات إيحائية لا وجود لدوال تشير إليها ولو بإيحاء، الدوال الوحيدة المتوفرة في هذه الحالة هي الفراغات والبياضات بين السطور السود. وما يتيح إمكانية هذا الأمر هو كون النشيد خطاباً شعرياً، والخطاب هو الذي يبرز هذه الحقيقة: "كل أشكال ‘الحذف’ مليئة بالإشارات إلى هذه الحقيقة القائلة: إنه في الخطاب وليس في اللغة، توجد مدلولات دون وجود دوال لها" (اللغة العليا –جان كوهن- ص 52).

III

هل يمجّد نشيد أوروك الحياة حين يحكي المهزلة، حين يمجّد التفاهة ليكون النقيض المأساوي لفرح أوروك بعظمتها الغابرة؟ حقاً إنه نشيد، ولكنه لا يقتصر على أوروك، إنه ينطلق من حب الحياة والاستغراق فيها بقدر ما ينطلق من آلامها وغربتها وفقدانها. أصواته تصدح نشيداً جذلاً، وتغمغم حزناً:

"ما بين موت وموت نشيد طويل
نكرّسه لمديح الحياة"
(النشيد، ص 25)

نشيد آخر، سلسلة غريبة ترّن حلقاتها طبولاً وسيوفاً، درابك وزغاريد، حطباً وأشعاراً قديمة، طلاسم وحجباً ... وحين تنتثر ذرات النشيد في الفضاء، تتحطم حدود الموروثات والأساطير والوقائع والشخصيات والمعتقدات الشعبية، لتصبح "كوفة الجند الحمراء" كوفة الجند السوداء، وليصبح الحسين مسيحاً والعكس بالعكس، وكلاهما تموز، وكذا مع نبوخذ نصر ومعاوية والحجاج والرشيد ... وحين يختلط الدم العبيط بماء الفرات، يحكي النشيد، بتوئدة، مهازلنا الدامية ويدفع بالتأمل إلى مدى أقصى بغية ردم فجواته وحذوفاته وصمته لتتجلى المهزلة كالشمس في رابعة النهار، هي حياتنا التي عشناها بألم "منقطع النظير"، وصبر لا يوصف بـ "الجميل" بقدر ما يوصف بـ "النفاد"؛ لأننا لم نكن نتسلح بالصبر بقدر ما نترع بالخوف، ولقد كان النشيد نافذ البصيرة ونافدَ الصبر.
يصبح النشيد، مرة، منطلقاً للسرد، ولانبعاث الرؤى، وحتى منبعاً لتدقق الذكريات وصياغاتها الحميمة. يصبح النشيد فرصة متاحة لثقب البالون المنتفخ، وفرصة مؤلمة لنكأ الجراحات، ودهس الألغام. يصبح النشيد، مرات ومرات، محفزاً على كتابة نصوص توازيه وتستلهمه، وتستنهض قاماته الكسلى بإفاضات لا حدود لها تفتت نواه، وتنشر ما طواه، وتمد ما اختزله رغم كونه مطولة مديدة. فالنشيد يمد جسوراً ويقطعها، يحدث هذا مراراً وتكراراً، وما بين التواصل والانقطاع ينكتب نص آخر تثريه الاستطرادات المريرة واللغة الموحشة، والتجاوزات القصدية، و"إساءات الفهم الصائبة" …
تقول ملحمة جلجامش (ص213):
- أوروك صنع الآلهة
(ذات) الأسوار العظيمة (التي) تمس السماء
ويقول النشيد (ص193):
- كانوا يحكون أسوار بابل كي يضعوا صور الجنرال على كل طابوقة ضحك الفأر حتى تبدت نواجذه عن مدائن لا تنتهي وأشار بأذنيه نحو الطغاة الذين تلاشوا على سورها المتطاول ...
وتقول ملحمة جلجامش (ص 130):
- (أن جلجامش قد اقتحم) بيت الأمة
(دار) مصائر الناس وحرمة الزوجية وجلب العار إلى المدينة
حطم المدينة (و) خرب ما هو للناس
وتقول نسخة العصر الآشوري المتأخر من الملحمة (ص 141):
- فتح الشيبة أفواههم وقالوا لجلجامش
يا جلجامش لا تثق في زيادة قوتك
لكن ناس أوروك يقولون أيضاً لجلجامش (ص 209):
- أنت الذي تضرب فخذ الحمار (أي تسيّر دفة الأمور)
الذي يمسك حياتها (أي حياة أوروك)
ويقول النشيد (ص 55):
"ماذا صنعت بنا أيها الجنرال المولّه بالتيه ؟
ماذا فعلت بهذي البلاد التي لم تجد شجراً تتوكأه غير سيفك أو مطراً
تستقي زرعها غير بولك".
ثمة تواصل بين الأمس واليوم، وما أشبه اليوم بالبارحة، والنشيد يحفز هذا التواصل بين الأمس واليوم، فهو يمارس الحذف والانقطاع في الوقت الذي يبني فيه شبكة شاملة ينثر عليها المعطيات المباشرة، يسرد تواريخ تخص وتعم، ووقائع يسكت عنها تعليمنا الحديث. يجمع النشيد الشاردة والواردة ليقيمها حفراً سوداً في وجه تاريخنا، هكذا يخربش بها الصفاء الذي حرصنا على تكريسه منذ قرن. الواقع والوقائع، العموم والخصوص، يمثلان في النشيد بلا تزيين أو ترشيح، بلا تنظيم ذروي يفترض وجوده، وهو لا يبالي بمثل هذا التنظيم الذروي الذي قد يخدم الشعر في مطولة مديدة، ويصعدها شيئاً فشيئاً. ومفتاح حل هذه المشكلة يكمن في النشيد نفسه بوصفه هذياناً. وهذا الحسم للمشكلة بهذه البساطة لا يعني أن النشيد يفتقر إلى التصعيد الانفعالي بكل الإيحاءات النفسية لكلمة تصعيد. فإذا ما افترضنا تصعيداً داخل بنية النص نفسه. فمن النادر أن نشير إليه سمة مهيمنة، إنه تصعيد متشظ هنا وهناك، يبرز بين عنصرين في النص – مهما كانت طبيعة هذين العنصرين – ثم سرعان ما يتلاشى، وهو يتلاشى ليبرز بشكل كاسح في علاقة قارئ النص بالنص، والقراءة هنا تتكفل بإحداث تصعيدات عديدة تفصح عن مدى تعاطف القارئ مع النص وانغماسه فيه. من هنا كان النشيد جملاً متنابذة، يبرز ذلك في استطالته: جملة تنبذ أخرى، تتولد منها عن طريق النبذ. فإذا كان هناك حذف فالجمل تتنافر عبر انقطاع يعقبه انقطاع، وإلا فأن تواصل الجمل يمكن وصفه بالطريقة الآتية: تصبح كل جملة ذاكرة ناقصة للجملة التي تليها، فالجملة اللاحقة تستعيد كلمة أساسية في الجملة السابقة لتنبني منها نبذياً، قد يسمى هذا الوصف تكراراً للصدارة، لكن ما هو أساسي هو أن هذه الستراتيجية تخدم غرضاً يربط الجمل بطريقة تدفع الملل المتوقع من أية مطولة:

"أسمع – كلّ صباح – زعيق الجرائد يعلو ...
يغطي نحيب البلاد
ومن شرفة الجنرال الوضيئة
مرّت غيوم الخطابة
مرّ النشيد المجلجل
    مرّ الصباح المكبّلُ
  مرّ المصفّق، مرّ المهرّج
مرّ المزمّر، مرّ المطبلّ
    مرّوا ولا زيت – في البيت – أو بصلُ
هيّئي الآن أرملة الندبِ لحمَ صباكِ المقدّد ...
( النشيد، ص 9)

وهذه السمة أيضاً تفضي إلى الإطناب الممتع بحيث يمكن النظر الى النشيد بوصفه "أطناباً كبيراً" و "ترديداً متصلاً"، هذه الإمكانية كان قد نوّه بها جان كوهن في كتابه (اللغة العليا، ص 24)، وهي من أشد الخصائص المميزة للنشيد، فهو يلحّ على التكرار بأنماط عديدة صوتية وتركيبية ودلالية. وفي تضاعيف هذا "الإطناب الكبير" و "الترديد المتصل" ثمة إيجاز كبير، لكنه إيجاز متشظ هنا وهناك بين الإطنابات والترديدات. كما أن غياب علامات الترقيم أفضى إلى تمييع الحدود نسبياً بين الجمل الشعرية حتى لتبدو لهاثاً محموماً يكرّس بنية الهذيان المتنافرة والناشزة، ووسط هذا اللهاث يقوم الإيقاع، وحده، بتوفير الانسجام عبر تهيئة أفق موسيقي يلفّ التنافر والنشاز بتناغم يتكرّس باستطالات الجمل وامتدادها المنساب على سلمّ الإيقاع المتهدهد كقارب تحدوه الأمواج الهادئة إلى أمواج هادئة من دون أن يلوح، في الأفق، مرسىً قريب. وهنا يمكن استنباط ميزات الإيقاع بشكل عام. إذ يتنزّل الإيقاع تفاعلاً منظّماً ومعقّداً في آن. ففي النشيد نجد ثمة تطوّراً سجالياً لعناصر الإيقاع. نجد مرة نغماً يوقره تواتر التفعيلات (يبدأ النشيد بتفعيلة "فاعلن")، ويتفاعل هذا النغم مع مجموعة من الأصوات المتكررة عبر لعب لفظية ربما تشدد على الجناس بوصفه ستراتيجية تحفّز ركنين متماسكين: ايقاعي ودلالي، وهذان الأخيران يتفاعلان مع تناوب حضور علامات الترقيم وغيابها، ومع الاختزالات  الوفيرة لجمل النص (الجمل الناقصة)، ومعا القوافي القليلة المبثوثة هنا وهناك في النص، ومع التوازيات التركيبية الدلالية، مع الأخذ بالحسبان تلك المقاطع التي تقارب النثر لتكون منحرفة عن اتساق النغم، ومن ثم لتكون مضطلعة بدور وضيفي يتمثّل في كسر الانسيابية النغمية المتواصلة.
ثمة شيء آخر يجعل النشيد يطفح بالحيوية والتنوّع، ذلكم هو كمّ الانتقالات الهائل، الانتقالات الموضوعاتية التي تزاوج بين حقول دلالية جدّ مختلفة، فمن سرد وقائع تاريخية، إلى توظيف أساطير، إلى سرد وصور جنسية محمومة، إلى تركيب أحاجٍ وطلاسم شعبية معروفة، الخ... . هذه الانتقالات تمارس تغطيساً قسرياً لمملكة المعنى العام الذي تتواشج فيه كلُّ تلك الحقول الدلالية على اختلافها. وفي المراوحة بين موضوعة وموضوعة، يتمّ استثمار موارد عديدة ومتنوعة، ومن بينها موارد اللغة العادية حين تندغم في الشعر. فالشعر في النشيد يعي، تماماً، الموارد الغزيرة المنبثّة في اللغة العادية، تلك الموارد التي شدّد عليها بعض نقاد الأدب (ستانلي فش في بعض مقالاته) باعتبار ان اللغة العادية تتضمّن تعقيداً من نوع التعقيد المتضمَّن في اللغة الشعرية، وسنضرب مثالاً على ذلك فيما سيأتي من هذا التجلّي. وتتحدد الانتقالات، مرة، بحسب تغيّر الموضوعة، وتتحدد، مرة اخرى، بحسب تغيّر بنية النص نفسه، لكن المسافة الوهمية التي تفصل مقطعاً عن مقطع لتحيل سطح النص على أوصال متناثرة، ما تلبث أن تختفي، أو تتحول الى مشبك يصل تلك الأوصال. إن هذه الأوصال تبدو مزخرفة بعدد من المشابك البرّاقة والمرنة التي تضطلع بمهمة وصل ما يبدو مقطوعاً، وتزيينه فضلاً عن ذلك. كلّ ذلك من أجل تكوين ذلك الكائن الغريب والمألوف، المتماسك والرجراج. المزدهي والحائل…، من أجل تكوين النشيد.
لا تعني الانتقالات المفاجئة انقطاعاً بحتاً، فثمة حسٍّ بالتواصل الخفّي، بل ثمة إمعان في تواصل مكشوف يتبدّى حين تكون خطوة الانتقال التالية متوجهة صوب السرد، والحكي الانتهاكي. حينها لا يعدو أن يكون الانتقال مجرد لعبة، مجرد تحوّل للانتهاك من مستوى الى آخر، وهكذا يمكن القول ان الانتهاك ما هو إلا سلك ينتظم تعارض موضوعات مختلفة جذرياً. ومع ذلك، قد تستبطن الانتقالات المفاجئة انقطاعات تفقد النص حُبكة مألوفة وواضحة، لكن هذا الفقدان يتحول الى ملمح ايجابي بطريقة ما، فهو الذي يستثير الأثر الجمالي من وجهة نظر معينة (وجهة نظر تتعلق بالقراءة والتلقي). ولنتذكّرْ هنا مفارقة النشيد لإرثه الحديث من مطوّلات الشعر العربي. فالقفزات حين تهرّئ الحُبكة تقدم لنا، في الوقت نفسه، رؤية سلبية لموصوفها، وتنشّط ذاكرتنا بالوقائع أيضاً، ولكن على نحو يبنيها بناءً خاصاً، بناء يتوخى كشف اهترائها الداخلي رغم القشرة الصلدة التي تغلّفها. وهكذا لا يمعن النص فقط في دكِّ تضاريس هذه القشرة، بقدر ما يتوخى لبَّها المتعفن. إن النص، بهذا المعنى، يقيم اتصالاً وانفصالاً في آن. بل هو يؤسس الانفصال عبر الاتصال، يلتحم بالوقائع وصفاً، سرداً، تقريراً، إيحاءً …إلخ، ويخلق فينا فراغاً قاحلاً حين يطغى الرفض موقفاً، وتمتد المسافة رؤية لتفصلنا عن المعمعة، وتقدمها لنا ببعد جديد، بعد الرؤية المتشظية التي أفرزتها غمغمة الهذيان، وطيش البناء العام، والقفزات القردية التي تشيع على أغصان شجرة النشيد الملتفّة. إن هذه المراوغات والتلاعبات بمجملها توقظ فينا تلك الطريقة القديمة الجديدة، قدم الشعر وجدّته، لمحاولة تلمّس الإحساس بالحرية عبر التمرّد والهرب لتصبح اللغة كائناً ملاذياً وحيدا ًنؤسس فيه مهربنا وتمرّدنا، ومن تشنّجات هذا الكائن ومحاولاته  الاستعصائية وأنين مفاصله تتولّد فينا لذتنا السادية بالنصر المرير الذي نستشعره ونحن نمارس عملياتنا التشريحية على جسده الطريّ والصلب.
ومن هنا، لا يمكن، مع النشيد، فحص الشعر من وجهة نظر قطعية وجازمة، لا يمكن النظر إلى الشعر كونه يتمتع بامتيازات الشذوذ والانزياح ومقارعة المألوفية على الدوام. ومن هنا أيضاً، لابدّ من النظر إلى اعتيادية اللغة في مواضع كثيرة من النشيد على إنها تنطوي على درجة تعقيد معينة، ما دامت تندرج ضمن الاستخدام الواعي للغة الذي يحاول إن يستثمر الأنماط اللغوية، ويصهر في أتون النشيد مواقف وآفاقاً تسوّغ للناقد تجاوز سلطة الثنائية المتحكمة: إي اللغة الشعرية – اللغة العادية، تلك الثنائية التي لم يقرّها نقاد عديدون. ولنلاحظ هنا كيفية توظيف المزاوجة بين لغة شعرية ينبثُّ في داخلها سرد معلّم بعلامات خاصة تشير إليه بشكل واضح:

"… الليل يركض، يعبرنا عاشقان ويبتسمان… شفاهك مترعة بالصهيل. دلفنا الى البار ملتصقيْن، أشدّك نحوي فينفلت الوتر. الراقصون يغيمون في لهب الدانس ( أسمع وقع ارتطام الخطى في الممر الى الانفرادي، خشخشة القفل والباب يُفتح … يسحبني حارس أهوج من ذراعي) ذراعكِ تسحبني من كتابي وتغزلني في المرايا خيوط اشتهاء تقاطعها النظرات اللصيقة .. يشتعل الرقص أكثر تلتصقين بصدري فأنعس حتى إذا نعس الضوء ما بين غرفتها ( والممر رأيتُ العريف يقهقه من كد "مات" ي ويسألني أن ألمّ ثيابي على عو "رتي") والفوانيس بلهاء أكثر عرياً من البحر…".
(النشيد، ص 25 – 26)

فالنثرية التي تشيع في المطوّلة لا ينبغي أن تُدرَك بوصفها نثرية ساقطة أو حتى فجّة، بل هي نثرية ممتنعة، وينبغي أن تُدرَك بوصفها ذات وظيفة محددة تتمخّض عن علاقة تناوب ضرورية يقتضيها عمل يتوخّى سرد وقائع معيشة تؤرخ أحداثاً حقيقية. إن النثرية تبرز في النشيد كتقنية يستدعيها واقعان: واقع القصيدة بوصفها مطوّلة، وواقع أحد أهدافها بوصفه تاريخاً، فالوقائع المسرودة تتنزّل معطىً يفرض طرائقَ تركيبية محددة، ولهذا، نجد النشيد ينساق الى النثرية بوصفها مكوّناً أساسياً ولا مفرَّ منه. وربما يحمّلنا مسؤولية فرز هذه النثرية:

"النثر كيس اللغات الذي طشّه عابر: إفرزوه بأنفسكم…"
(النشيد، ص 171)

النثر، هنا، مفروز سلفاً من الشاعر نفسه حين يستعمل ما توفره اللغة من علامات تفصل بين الجمل، وتقوم بتعيين نوعها، وللنظر إلى هذا المقطع:

"- النساء خوابٍ من الخمر عتّقها الربُّ فأثملْ كما شئتَ (- لكنني لستُ أصلح زوجاً أأشغلُ عمري بتأثيث قبري …) .. _ طلى شفتيّ يذوب بكأس النواسيّ وهو يتمتمني: حامل الهوى تَعِبُ.. والصبْيةُ الجائعون وراء المحطة يحتطبون الجريدَ ولا … (_ منذ يوم خرجتُ من السجن هل ترتضيني عشيقك لكنني لستُ أملك … تصفق في وجهه البابَ .. ما بالهم كلما خرجوا من سجون الحكومة جاءوا إليّ) رأيت لوجهك يطفو على الكأس أرشفه ثملاً غير أني أرى في مراياك وجهي يشحب بين الزجاجات فارغة. فأحدّثها عن خرابي، القرى حرثتْها القنابل ( يضحك حين أحدّثه عن كريستيان ديور…) كف أبي وهي تذبل فوق المناجل، كفّ أبي في السرير المؤجَّر يخفق في دمه المصلُ: هذا العتاد المهرَّب في عتمة النخل، أدركه صوت مفرزة: قفْ .. (تقرّبْ إلى بستان صدري أزهرها الإشتهاء) تداهمني الكاشفات على الجرف، منبطحاً: أين عبّود؟… أكبو وحُوذي شهوتها يلبط السوط في جسديّ) وهو يعرج من طعنة أدركت ساقه فلففناه بالخرق الباليات (- ألا تسمع الآن هذا الصهيل الذي يتآكلني في سرير التوحّش. اهبطْ إليه، ألا تلحظ الآن رجفته يتصاعد منه حُميّا الحنين اشتهاء إلى….) …
(النشيد، ص13-14)

لعل هذا المقطع من النشيد هو أمثل مقطع يتجلّى فيه التزاوج بين الشعر والسرد، هذه المزاوجة لا تهدف، بطبيعة الحال، إلى مصالحتيهما، أي إلى تطويع النثر الى بنية الشعر، وإنما هي ترمي، على العكس، إلى الكشف عن موارد اللغة العادية الغنية في ذاتها، ومن هنا نجد أن النص يعيننا على تأشير الجمل السردية بشكل واضح من خلال استعمال علامات تسمها بميسم لا لبس فيه. والغالب على هذا النوع من الجمل النثرية انه يحكي وقائع، ويصف حالات تمسّ الواقع بشكل مباشر.
وهكذا لا يمكن مطالبة النص دائماً بإقصاء هذا النوع من الجمل، ما دام النشيد مطوّلة، ومادام النثر يضفي على الشعر حسّاسية متطلَّبة وممتنعة، وهكذا، أيضاً، يبدي الشاعر تصوّراً خاصاً بصدد هذه المسألة، فيعكس ما اشتهر من قول المتصوّف محمد بن عبد الجبار النفّري في كتابه الشهير (المواقف والمخاطبات): "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، لينسجم مع تصوّره الخاص للمطوّلة:

"على قدر المعنى يتسع المبنى"
(النشيد، ص64)  

وعلى وفق هذا التصوّر لن نشدّد على احتراز الشاعر الآتي:

"لماذا يا ابن الصائغ تكتب أشعاراً واضحة يفهمها عمال الطابوق، البسطاء، القرويات، لماذا أنزلتَ الشعرَ من الأبراج العاجية نحو الحارات الشعبية"
(النشيد، ص 64)

ومن هذا المنطلق، يمكن استكشاف وشائج اخرى تشدّ البنية اللغوية إلى بنية الواقع، والعكس بالعكس. ولنا أن نستجليَ أيضاً طبيعة اللغة منظوراً إليها من ناحية تعبيرها عن "الوجدان" أو التركيبة العقلية، أو النفسية المنبثقة عنها، فالنشيد، حين تحكمه المناوبة بين المألوف واللامألوف وبين اختراق النسق والامتثال له، يعبّر عن وضع قهريّ يستبطن خرقاً، عن أناس عاشوا "ممتثلين" وفي دواخلهم جذوات التحرر تشتعل، وتتطاير شرراً هنا وهناك. ومن المؤكد أن النشيد يترشّح مأساةً، لأنه يرصد مأساة تاريخية، وينسحق عبر استكشاف التفاوت والتناقض بين عالميْن، عالم ذيول السلطة، وعالم ما تحت هذه الذيول، العالم الذي تتحوّل فيه الذيول إلى أسواط تجلد ما تحتها، ومن هنا يتعقد النشيد بفعل تفاقم التناقض. فـ"الغوغائيون" الذين زاحموا غبار آذار رحلوا معه، وبفعل إرثهم المديد لم يحترفوا "فنَّ البقاء"، وفيما بعد بقي محترفوه طافين ورؤوسهم ترفرف وعلى وشك أن تطير. وفيما بعد أيضاً برز المتعلقون بأهداب السلطة، وتراكموا حتى ظلّلوا (ضلّلوا سيّان) عينها الوحيدة بالتذلل الممزوج بإثارة الحفيظة، ومن ثّم هووا نُزُلاً بالأهداب فخلّفوا نظرة صلعاء إلى الشُعْثِ المتجهّمين. ولا نريد هنا أن نعقد مقارنة بين ثورية النشيد كونه شعراً وثورية الواقع الذي عبّر عنه. إذ إن ثمة شرخاً يقع بين المستويين: مستوى اللغة ومستوى الواقع، ومع ذلك ليس ثمة انفصام بين مشروعي تثوير اللغة وتثوير الواقع، والنشيد بتمرده على البعد السلطوي للغة في أحيان كثيرة، ينسجم، على نحو عميق، مع التمرد العيني. لكن هذا المنظور الخاص بعلاقة النص بالواقع لا يجيز لنا، دائماً، أن نرهن التقييم بين طرفي العلاقة. فأمامنا هنا مسافة يصعب، وربما يستحيل، الوثب عليها من أجل حسٍّ طاغٍ بالتقييم، الذي هو كلمة أخيرة يمكن الإيحاء بها في خضمِّ تحليلات متشابكة. والشرخ نفسه يمكن تلمّسه في العلاقة بين السرد والشعر كستراتيجيتين يعتمدهما النشيد اعتماداً كبيراً. فالنص يمارس تحركات انقطاعية تستبطن تواصلاً مؤكداً. إنه يحاول أن يثنيَ حركته باتجاهات مختلفة ، ولذا فالنشيد خطاب discourse ؛ لأن أصل مفردة discourse  إنْ هي إلا الركض باتجاهات مختلفة، بيد أن هذه الاتجاهات تفضي إلى هدف واحد : الجنس (مع التنبيه على أن النشيد لا يقدّم نفسه رائداً للتحلّل كما قد فُهمَ أحياناً)، ووصف العنف، وتعرية الذات، وتضخيمها ….إلخ. ومن هنا تنتظم النشيد ستراتيجية السرد التي تناط بها مهمة تثبيت الوقائع ووصفها على نحو متناوب بفعل انقطاعات تخلخل السرد وتملأه بالفجوات. ومع ذلك، يحاول النص هنا أن يستكشف فضاء لامألوفاً ودموياً عنيفاً من خلال رسائل لسانية عفوية ذات تاريخ معروف، لكنها أيضاً تحاول أن تسبر غور الشعر لتحقق نوعاً من الشفافية. أما ستراتيجية الشعر فهي التي تضطلع بملء الفجوات تلك، بمعنى انها تجهز على تتابع الوقائع بلعب على الكلمات، ولكن هذا اللعب لا يمثّل قطعاً لانسجام النصّ، بل هو مكمن التواصل العميق بوصفه تجلياً للشعور الكليّ بازاء تلك الوقائع، بازاء ما ينتجه السرد، إنه الحصيلة الشعورية للوقائع. فالعلاقة إذن بين السرد والشعر علاقة سببية. وعلى مستوى دلالي، فان العلاقة يمكن تركيبها كالآتي: في السرد تتوتّر المدلولات، وتطفح معلنة عنف الوقائع، فيما تنسّل المدلولات في الشعر إلى مكامن قصيّة تندفن فيها ملامحها. بيد ان قاسماً مشتركاً يجمع بينهما: تلك هي سمة السلاطة، والقذع، والمكشوفية النافرة. إن قمعاً على قمع يتركبان في النشيد: قمع اللغة وقمع الواقع، ويحيلان على بعضهما بعضاً. واللغة، وحدها، هي التي تفصح عن هذين القمعين، وتغلّفهما معاً. وداخل هذه الثنائية المقموعة، يتقاطر النشيد، نغمة فنغمة، ألماً وأملاً، حسرةً وبشرى، ترحاً وفرحاً، أما نحن القرّاء، فالاعتصار محصولنا، يتقاطر أشباحاً ترتسم على صفحة الظلام، مثلما ترتسم على صفحة النور، والأمر سيّان، فإن شئنا الحياة تحت أشعة الشمس، فها هي الأشباح هناك تنسلّ مع خيوطها، وإن شئنا الانزواء في زاوية مظلمة، فها هي الأشباح هناك في الزاوية المقابلة. وسيبقى هذا التناقض هو القدر المقدَّر لمصيرنا، بين شمس وأفولها، شمس أوروك الخالدة، وأفولها المزيّف؛ لأننا لم نعد نميّز بين شمس وشمس؛ ولأن إرثنا المديد أترع بمثل هذه التناقضات منذ "ملحمة جلجامش":
"ليس لفتك أسلحته منافس و
رعيّتُه مجبرة على دخول الشرك
إغتاض أبطال أوروك في أماكنهم
لم يتركْ جلجامش ولداً لأبيه
واستمر ظلمه بالزيادة ليلاً ونهاراً
جلجامش راعي أوروك (ذات) السور
هو راعينا …. القويّ الجميل العارف
لم يترك جلجامش (بنتاً) عذراء الى أمّها
أو ابنة محارب (أو) زوجة بطل
(وظلَّ الآلهة يسمعون) بكاءهنَّ باستمرار.
ملحمة جلجامش
العمود الثاني
ومروراً بالسيّاب:
"وفي العراق جوعْ
وينثر الغلالَ فيه موسمُ الحصادْ
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشوان والشجر
رحى تدور في الحقول … حولها بشرْ
(….)
"وكلَّ عام حين يعشب الثرى نجوعْ
ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوعْ…
انشودة المطر
ووصولاً الى عدنان الصائغ نشيد أوروك:

"أغني لما سيجيء من القمح والجرح والسنة الماحلة
إلى مَ يظلّل نخل العراق عروش الطغاة بأعذاقه المائلة
وينشر أمعاء أطفاله بين كفيّه ضارعتين إلى الله والغيمة الهاطلة
إلى مَ يظلّ بكل العصور يجوع العراق  
وتلك روابيه تطفو على النفط
تلك سوابيطه المثقلة
تتعفن في سفن الشحن رابضة في الخليج
إلى مَ يجفّ الفرات
      وفي كل بنك جداوله تترقرق
      في كلّ صكٍّ نرى دمعة ثاكلة
آه… أحلامنا الذابلة
آه… خيباتنا الماثلة
(النشيد، ص 41 – 42)

يجب أخيراً، أن نردد مع السياب أيضاً في انشودة المطر:
"أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
ويخزن البروق في السهول والجبال
حتى إذا ما فضّ عنها ختمَها الرجال
لم تترك الرياح من ثمود
في الواد من أثر.

* كان الصاحب بن عبّاد يسمّي أبيات المتنبي الملغّزة بـ "رقى العقارب". ورد في "سرّ الفصاحة" – لابن سنان الخفاجي – تحقيق علي فودة – مكتبة الخانجي – القاهرة – ط2 – 1994 – ص 217 .
(1)  هذه هي القبسة التي تتصدر "نشيد أوروك".
(2) ذُكر نصاً فلوبير وكافكا محمود شريح في كتابه: توفيق صايغ، سيرة شاعر ومنفى – رياض الريس للكتب والنشر – لندن – 1989.


(*) نشرت في صحيفة " الزمان" لندن في حلقتين ع 726 في 15/9/2000 و ع730 في 20/9/2000
(*) نشرت في مجلة "ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002 النمسا ( عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search