أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
"غيمة الصمغ" و"تحت سماء غريبة" لعدنان الصائغ

الانشغال عن الشعر، بالتدوين

شكر خلخال

واحدة من الحوادث التي تأثر بها – كما يروي – عدنان الصائغ، وقعت في مدينة النجف خلال أيام الانتفاضة العراقية.. إذ صحبه بعضهم إلى زنزانة أُقتحمت تواً وأُطلق سراح المعتقلين الذين ضمتهم لسنين عديدة...
يقول: وفي غمرة الدهشة التي ارتسمت على وجوه زوار هذه الزنزانة الغريبة، حضر أحدهم لاهثاً ليروي للجمع قصة معاناة استمرت لسنوات طويلة قضاها في هذا المكان الذي لا يطيق الإنسان النظر إليه. قال، غير أن أحداً لم يعبأ بأمر هذا الرجل، بل أن ما أثارهم أكثر هو المكان ذاته بلا واقعيته ولا منطقيته... وعبثاً حاول الرجل لفت انتباه الناس إليه وهو يمثل كيف أنه كان ينام ويأكل ويتبول في هذا المكان الخرافي... وهكذا انفض الجمع مخلفاً الرجل وقد اعترته دهشة عظيمة، لأن "تاريخه الكبير" من المعاناة لم يُثر أحداً، وأن حياة كاملة أنفقها هنا، لم تعن أحداً.
بدا لي هنا، أن هذه الحادثة تتيح لي تتبع وتفحص المناخ الشعري الذي يغلف قصائد الصائغ في مجموعته "تحت سماء غريبة و"غيمة الصمغ"، إذ يبدو الصائغ – في انهماكه بتدوين هذا الكم من الأحداث والوقائع اليومية – وكأنه يكتب ليجعل الحياة التي عاش، تعني الآخرين.
وعدنان الصائغ واحد من شعراء الجيل الثمانيني الناشط، الذي شهد واحدة من أقسى الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، شهد عن كثب حياة الدم والحطام، تلك التي أحدثت فورة داخل الجيل الذي أحدث هو الآخر فورة داخل الشعر العراقي.
والقصيدة اليومية، قصيدة التفصيلات الحياتية، المعيوشة، مع أنها كانت من مميزات القصيدة الثمانينية – لا أعني الجيل الثمانيني وحده – فأنها تحتل لدى الصائغ مطلق مساحته الشعرية، فهي مشروعه في كتابة الحياة التي عاش.
على أن "القصيدة اليومية" هذه تختلف لدى الصائغ عن باقي مجايليه، فهي تتسم بالبساطة، سواء في التركيب البلاغي للعبارة أم في سياقها النحوي.. وهذه التقنيات الأسلوبية شهدت لدى باقي شعراء الجيل تطوراً هاماً، فيما بقيت لدى الصائغ مألوفة ويسيرة تقترب إلى حد ما من تقنيات القصيدة الستينية، فيما القاموس اللغوي لدى الصائغ هو الآخر يختلف عن قاموس القصيدة الثمانينية. فمفرداته، مع أنها محدودة – كماً – فأنما تصعب إحالتها إلى مرحلة شعرية معينة، فثمت المفردة الخمسينية والستينية والسبعينية والثمانينية... ويحدث تجاوز هذه المفردات داخل القصيدة الواحدة، إرباكاً في منطق القصيدة وتفاوتاً في كثافتها.. فمفردات من قبيل "الحقول، الفراشات، البساتين، الياسمين، الرحيل، الحنين، الحنايا.. الخ" ذات البعد الوجداني – الرومانسي الخالص تتجاور مع مفردات من قبيل "الانتظار، الغياب، الندم، الكلام، الرغبة، الذاكرة.. الخ" تلك التي أكسبها الشعراء الثمانينيون – شعرياً – دلالات جديدة حولتها داخل النص إلى "بؤر معرفية"... فيما تتجاور هذه المفردات أيضاً مع أخرى مستمدة من قاموس "الشعر المقاوم" من قبيل "التحقيق والسجان والمخبر وأحذية الجند والمقصلة والزنزانة والجلجلة... الخ".
وبالتأكيد فإن القاموس اللغوي لا يمثل بحد ذاته معياراً لحداثة العبارة أو شعريتها، والصائغ حين يقول: "ويا زورق العمر امخر عباب انتظاري" (ص 32 غيمة الصمغ) فأنه يجرد مفردة "الانتظار" من أي مضمون معرفي أو دلالي أكسبها إياه النص الثمانيني، ويحافظ فقط على دلالتها المعجمية.. فثمة أيضاً، التقنيات الأسلوبية، البلاغية، النحوية، التي "تصنع" العبارة وتمنحها طاقتها الشعرية، وحيزها الشعري.
قصيدة الصائغ لا تُعنى بهذه التفاصيل قدر عنايتها بتفاصيل الحياة اليومية المعيوشة. ولما كانت الحياة العراقية في فترة العقدين الأخيرين تتسم بالغرابة واللامألوف، وتحكمها المصادفات والمفارقات المدهشة أو المميتة... فإن الصائغ يعتقد أن هذه الحياة هي بحد ذاتها عبارة عن سلسلة من التراكيب والصور الشعرية فيما أحداثها وتفصيلاتها، تمتلك هي الأخرى خزيناً شعرياً، وهو إذا ما شرع بكتابة القصيدة فانه لا يحتاج إلى أكثر من رصد هذه الوقائع وتدوينها.
ولكن الصائغ غالباً ما يخفق في اختيار الحدث أو الواقعة المتضمنين لخزين شعري، بل يثقل قصائده بالكثير من التفاصيل والأحداث والمشاهد غير المؤثرة والخالية من بؤر التوتر، بل والخالية أحياناً من أي مضامين أو إيحاءات الشعر... ولما كانت هذه التفاصيل والأحاديث – المكتوبة على شكل قصائد – غير "مشغولة" شعراً، فإنها تتحول إلى مجرد كلام عادي مصوغ بلغة محكية دون أي عمق في المضمون أو سعة في الرؤية أو جدة في التركيب، ولنأخذ على سبيل المثال قصيدة "في المكتبة" ولنتتبع من خلالها أسلوب الصائغ في سرد الحادثة أو الواقعة التي ينتقيها للشعر:

"هدأت قاعدة المكتبة
والضجيج المهذب، والهمهمات
الفتاة التي ابتسمت – إذ دخلت –
وكانت تبادلني النظرات
غادرت
هاهو كرسيها فارغ مثل روحي
وما عاد ذو النظارتين المكب على الأسطر الصفر،
يسعل
أو يرقب الباب منتظراً حلماً لا يجيء
والمقاعد ما عاد يربكها الازدحام الجميل
وهمس التلاميذ من خلل الصفحات
.........
تلفت .. كنتُ وحيداً
أمام الكتاب الذي بعد لم ينته
وكانت موظفة "الاستعارة" ترمق ساعتها
ثم ترمقني بارتباك لذيذ"
(ص 56 غيمة الصمغ)

"ولنقرأ أيضاً هذا المقطع من قصيدة "كوابيس"
......
"طرقوا الباب
مدت أصابعها المرتعشة
وحين أدارت المقبض صارخة
انفتحت عيون الجيران، تحملق مذهولة
لوجهها الشاحب..
وهي تسألهم بفزع
- ترى أين ذهبوا!؟"
(ص 43 تحت سماء غريبة)

وبين هذه وتلك، يحشد الصائغ عبارات تتحدث عن الجوع والعوز والفقر والفاقة و"مشاكل الحروب"! و"ازدحام الباصات" والتلصص على الحسناوات و "وطن مدجج بالحراس، وامرأة لا تدري كيف تدبر مسواق البيت" إلى آخر هذه التفاصيل التي يعتقد الصائغ أنها تصلح لأن تكون قصائد وهي لما تزل "خامات" دون أن تُعامل بأي من عناصر الشعر.
فالصائغ – فيما يبدو – مشغول عن الشعر بالتدوين، وهو يسعى إلى الوقوع على أكبر قدر ممكن من الوقائع والأحداث الغريبة التي يبدو من خلالها القول بأنه عاش حياة الخرافة أو الأسطورة.

غيمة الصمغ / اتحاد الكتاب العرب / دمشق 1994
تحت سماء غريبة / منشورات البزاز / لندن 1994


(*) صحيفة "المنتدى الثقافي" دمشق 1996
 
البحث Google Custom Search