أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
أمطار غيمة الصمغ..!

موفق نادر
- دمشق -

قلم مرّ على ورقةْ‏
مرّ وما سلم‏
ما أحنى لمفاتنها عنقهْ‏
لم يعرف ما بين حناياها القلقه‏
من شوق أخاذ للحبِّ‏
ولم تفهم نزقهْ‏
كغريبين معاً، مرّا.. وافترقا..‏
رجلاً يتسكّعُ‏
وامرأةً محترقةْ"‏

مصادفة" سمّاها الشاعر، ولكنّها لم تكن أبداً كذلك، إنها سرّ الوجود الطامح إلى العناق الأصيل، المتجدد، بين القادم المحمّل بالدفق والمنتظر المترع باللهفة الذاهلة والدهشة البكر، التائق لاكتناه عبق المجهول الضائع عبر المدى، بل إنها لحظة اكتمال التلاحم بين المخصب والأرض المضناة باليباس.‏
براعة لا حدّ لها في اقتناص اللحظة الشعرية، ومهارة وتقانة فريدتان في امتلاك الأداة، كلّها تطلّ علينا دفعة واحدة عند قراءتنا الأولى لمجموعة "عدنان الصائغ" الشعرية التي وشمها بالدهشة منذ العنوان "غيمة الصمغ" ليهطل في أجسادنا دبق وكثافة الحاضر المختوم بالغثاثة، المثقل بالبلادة والنكوص والانكفاء.‏
فمع الغيمة تنهض القلوب تستشرف المطر القادم والخصوبة الموعودة، لكن الصمغ المترصّد يقمع بكثافته الحلم، ويكسر كلّ الوعود، فتهبط الأماني مهيضة الجناح، وتغتسل القلوب بالكآبة لتغدو بلا حول أو قوة!‏
يدير عدنان الصائغ ظهره تماماً لمقولة: إن الشعر كشف لعوالم لا حدود لها، ورحيل إلى أرض بتول لم تطأها قدم من قبل، أو افتضاض لمساحات من الغرابة لا يتقن تدجينها إلا الشعراء وحدهم، بل يظل أقرب إلى انتشال البائد من عالم العدم، ونفخ الروح بين أعطافه ليدبّ من جديد صحيحاً معافى.‏
وينبئنا منذ البداية أنك أينما يمّمت وجهك فالشعر حاضر بزخمه الحارق والرائع، فلا تتعب في البحث عنه، لأنه يدقّ أبواب قلبك أبداً ويسكنك في الحضور والغياب ما دمت شاعراً حقاً!‏
إنه ماثل في "المصادفات والسأم والزعل في بريد القنابل، البكاء، أوراق المخبر القديم، إنه في الشقة رقم واحد، وبين شعراء الأمسيات، حتى يكتمل به ديوان يجرح القلب، لا لشيء إلاّ لأنّه حار ومدبب، وجارح بالحقيقة والصدق وكشط الصدأ عن الأشياء المهمّة المهملة التي أنساناها ركضنا اللاهث خلف اللقمة والرضا والراحة عند جدران مسكن نتباهى بامتلاكنا له.‏
الشاعر وحده يخضّ المياه الآسنة المنتنة، ويجرف بانطلاقة روحه البؤر الساكنة المضمحلّة، ليعيد إليها البهاء مرتعشاً مثل ضوء صباح أنيق بعد عتمة داجية، ليرحل عن اللحظات ذلك الممل المنهوك بالتكرار والتواطؤ، ولينبثق ذلك الطريف الزاخر بالروح والوجدان الكامن خلف العيش الباهت، ويبقى الفن العظيم نابعاً من قدرة المبدع على انتهاب اللحظة وبثّها، وقد غدت غزيرة الإيحاء، تلقي تحت جلودنا أشواكها الواخزة، فيقض مضجعنا الإحساسُ أننا اكتشفنا أحزاننا ولحظات الفرح الذاهبة في حناياها.‏
المشهد قديم حديث: مخبر يتسقط ويترصّد، ويبدأ صباحه آملاً أن يظفر بغنيمة! إنه عمله الذي يطعمه خبزاً.. لكن الشاعر لا يعرض هذا المشهد إلاّ بعد تنسيقه على خلفيّات منتقاة بفنيّة عالية، يبدؤها بتحيّته للمخبر -الإنسان- في هذا الصباح الجميل، ويدعوه إلى التمتع بالطبيعة المتدفقة بالزهر والعذوبة بعد أن لمستها يد الربيع، ثم يدور ذلك الحوار الداخلي، حتى يبدو عمل المخبر ليس أكثر من بحث نهم لمعرفة أيهما أكثر زهواً وإشباعاً بالحمرة، دم الإنسان أم الزهور دانية القطاف..؟‏
ويختتم بكلام ليس فيه إلاّ الحبّ، فالشاعر لا يحقد على المخبر -الإنسان- بل لا يرى فيه إلاّ وجهه الإنساني وحده، فيبتسم ويعده وعداً حميماً أنه سيبكّر كل صباح، وينتظر مجيئه بلهفة، ليفتح له النافذة..‏
وعبر هذا الكلام المختصر المكثّف الشفّاف العميق، نرى الشاعر قلباً لا يعرف إلاّ الحب الكبير، فينهي بالبسمة دائماً معركة يعلنها عليه السذّج المأجورون، ليعيدهم بالحب إلى موقع الإنسان الأصيل:‏

"صباحاً جميلاً‏
صباح البنفسج يا صاحبي‏
ألم تبصر اللوز أزهر؟‏
مالك مرتبكاً؟ خلف سور الحديقة..‏
ترقب نافذتي‏
وتمايز ما بين دمي، وهذي الأزاهير دانية القطف..‏
صباحاً‏
سأفتح نافذتي‏
لأراك".‏

ومرّة أخرى يتواشج المشهد من حضور الإنسان وحركته، وكأن عدنان الصائغ يعرف في نفسه هذه القدرة على بثّ الدرامي الآسر في حنايا قصيدته، فيروح يعنى بتصعيد الحدث عبر ضربات سريعة عنيفة، ليعلو الصراع ويحتدم.‏
فإذا كانت قصائد مشهورة زاد خلبها، وعلت فتنتها بسبب تلك القفلة الفنيّة التي تترك الذهن منفتحاً على مدى بهيّ عذب بشكل مفاجئ وغير وارد في الحسبان أبداً أي ما دعاه "تشيخوف" بالمنعطف، فإن قصيدة عدنان الصائغ تبدأ بالمفاجأة والانعطاف نحو الفني الباهر منذ أول عبارة فيها لتتسرب نحو نهاية طريفة تغادرك مسكوناً بالقلق والتساؤلات الكبيرة.‏
هذه أمسية شعرية من تلك الأمسيات الكثيرة التي تحتشد وتكتظ بجمهور من ربطات العنق والأحذية اللامعة، يحيها الشعراء الرسميون! وما أكثرهم! حيث كل شيء وافر، أنيق، ولامع لكن الشعر وحده يظلّ ممنوعاً من الدخول إلى هذه الأجواء الآبقة المشبوهة، فإذاً كم من جريمة تقترف باسمك أيها الشعر؟؟ هاهي القصيدة بكلماتها الخمس عشرة:‏

"دخل الشعراء الرسميّون إلى القاعة‏
واكتظ الحفل‏
لكن الشعر، غريباً‏
ظلّ أمام الباب‏
يمنعه البوّاب "

وقصائد المجموعة كلّها تقريباً تميل إلى مثل هذا القصر والتكثيف، يسعف الشاعر في تحقيق هذه الغاية لغة دسمة منتقاة بعناية فائقة، مفردات وجملاً، لا تفوح منها رائحة المعاجم ولا الكتب الصفراء، إنما مقياسها القدرة الفريدة على صدم الشعور، وخلب الحسّ، من خلال وضع يد القلب على اليانع الطافح بالبشرى لخلق إحساس غامر بالفرح، وتكريس بؤرة الانطلاق نحو الحرية، والنجاة -ولو لحظة- من الخامد المتآكل المرصود بالموت والعدم المحتوم في أرواحنا حتى وهو ينشغل برصد حتميّة التلاشي والزوال القابعة في بؤرة وعينا!‏
وعبر هذه اللغة الملغّمة أعدّ الشاعر مشاهده مستعيراً من فن القصّ عناصره وخصائصه العليا، فإذا قصائده تتوغل عميقاً في نفس القارئ ببساطة تشكيلها وزخم حضورها، حتى أنك كلما أعدت قراءتها تجدها غير قابلة أن تبهت بالتكرار، بل تظل تحمل القدرة على التوهج والألق مثل أي إبداع حقيقي.‏
ومرة أخرى يسكن الإنسان العادي اللوحة، مثقلاً بدبق الحاجات اليومية، وضحالة الحرفة والكسب، وخمود الواقع المتباعد عن الروحاني الثرّ، المقصيّ عن المخيلة البشرية، وهما ينبوعا الشعر الأصيل بلا مراء، مهما اختلفت الأزمنة، وتقاطرت الدهور، وتحذلقت الثقافات.‏
واعذروني إذا اضطررت، مرّة أخرى، أن أثبت القصيدة كلها شاهداً فهي ومضة ولوحة معاً، وهي مضغوطة إلى درجة أن اجتزاءها يخلّ بذلك الصعود اللاهث الذي يؤطر حدودها، ويسبغ عليها حضورها الخاص.‏
ها نحن مع الشاعر "في المكتبة" وبين اختلاس النظرات الثاقبة للصمت تنسرب عواطف منهوبة، تعود محكومة بالوقت المتصرّم عبر دقات الساعة الملحاح، بينما "أمينة" المكتبة لا يشفع لنا عندها أن الكتاب لم ينتهِ، فالكتب تعني لها ساعات محدودة من الدوام الوظيفي، ومرتبّاً تتقاضاه آخر الشهر، والقارئ في النهاية ليس سوى زبون عابر يجب -مثل أي شيء آيل إلى رحيل وزوال- أن يرحل ويزول:‏

"هدأت قاعة المكتبة‏
والضجيج المهذّب، والهمهمات‏
الفتاة التي ابتسمت، إذ دخلتُ‏
وكانت تبادلني النظرات.... غادرت‏
هاهو كرسيها فارغ مثل روحي /....‏
والمقاعد ما عاد يربكها الازدحام الجميل‏
وهمس التلاميذ من خلل الصفحات/...‏
تلفّتّ... كنت وحيداً‏
أمام الكتاب الذي بعد لم ينتهِ‏
وكانت "موظفة الاستعارة" ترمق ساعتها‏
ثم ترمقني بارتباك لذيذ"‏

أمّا الطبيعة فلها حضورها الكبير في قصائد المجموعة، حيث يدعم وجودَ الإنسان المضني والباحث عن الفرح في معارج الصعود، فيكتمل الكون وتضيء خلفيات الزمان، لكن كيف تكون الطبيعة عند شاعر حزين؟ فنحن نحسّ منذ البداية أنه يعلن بملء فمه:‏
أنا حزين، إذاً أنا موجود! فيكتب قصائده بنبض القلب المتعب، مغتنماً الفرصة ليغرّد ما وسعه التغريد قبل أن تنشر الروح شراعها فلا يظلّ من الشاعر إلا صدى كلماته الراعفة، تدقّ صمت الوجود، لكن ما الذي يتبقى من البلبل حين تخمده طلقة الصيّاد فيسكت عن الغناء؟‏
إنه عدم الجسد وانفثاء الروح والحركة، ليظلّ الخلود للكلمة الشاعرة وحدها:‏

"يهبط الغصن ثانية ثم يصعد‏
والبلبل المتأرجح منشغل بالغناء‏
طلقة... جثّة‏
تصمت -في الغالب- كلّ البلابل‏
يقف الغصن مرتجفاً..‏
لحظة.. ثم يسكن‏"

إن قصر الجملة التي لا تزيد غالباً عن مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل يعني -بلغة اللغويين- نفي الفضيلة من الكلام، وإبقاء العمدة فحسب، يعكس لهفة الشاعر للاختزال ونفوره من المداورة والتهريج، واثقاً أنّ للقصيدة حضوراً أكبر من تشكيلها اللغوي، فكأنه يأبى دائماً تلك اللغة الفضفاضة التي تتحوّل إلى بهلوانيات لفظيّة، تذوب في متاهاتها الشاعرية الحقة التي تسكن القلب والذهن من غير إذن، فإذا استعمل الشاعر الصفات في جملته، نراها لا تزيد عن كونها إضاءة سريعة لزاوية ذاهلة الإيحاء، فلا تتراصف هذه الصفات ولا أشباه الجمل كما يحدث عند غيره ممن نقرأ لهم، مما يذيب حينها ألق اللغة الشعرية، وتنفلت من الشاعر مهارة إحكام هذه الأداة الرائعة للإبداع المكتوب، كلّ ذلك عبر إيقاع غير مبالغ في تنوّعه، حيث تطغى على القصائد نبرة "فعولن" طغياناً كبيراً، وأحياناً تأتي "فعلن" بما فيها من خفة ورشاقة، تعززان البساطة المبثوثة في حنايا الجملة الشعرية، ولا يسعنا أن نرى في ذلك إلاّ وضعاً للأشياء في نصابها الأمثل فلا تصير الوسائل غايات لذاتها!‏
وأختتم بالقول: إن عدنان الصائغ شاعر قال شيئاً مهمّاً، فإذا كانت قصائده هذه حصاد قريحته الشاعرة عبر الثمانينات -كما لحظنا- فالقلب يتّجه إلى إبداعات جديدة تقال اليوم أو غداً، عارفين بثقة أنه شاعر أحسن امتلاك أدوات الإبداع في زمن صار فيه الشعر مهنة من لا مهنة لهم، مع شهادتنا أن كل قصيدة تضمّنها ديوانه الصغير بحجمه، الكبير بقيمته وفنّه، ستجعله يتحدّى ويصمد، ولن تقهره السلعيّة المتفشيّة أو ينتصر عليه في واجهة المكتبات أي "دليل للطبخ" كما توقع:‏

"قد تتصفّح إحداهن أغانيك على عجل‏
يتقافز قلبك بين أناملها‏
ها هي -كالحظّ- تقطّب في وجهكَ‏
تبتاع (دليل الطبخ) وتمضي..‏ "

كل الاقتباسات من "غيمة الصمغ" إصدار اتحاد الكتاب العرب. عام 1994.‏


(*) جريدة "الاسبوع الأدبي" العدد 827 تاريخ  5/10/2002
 
البحث Google Custom Search