أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
سماء في خوذة

عبد الجبار عباس

لا أرى مصطلح ميكانيكزم "القصيدة" – على شيوعه – دقيقاً في وصف حقيقة العلاقات بين العناصر المكونة للقصيدة، لأن "النبض" الناجم عن أنساق عمل هذه العناصر يختلف في أشياء كثيرة عن "تكتكة" الساعة في (آليات) عملها اختلاف (الحلم) عن شريط "الفيديو".
وقد لا تسعف المصطلحات الموروثة في (النسيج) و(الصياغة) ثوابت في وصف (أغنية) تختلف نشأة وأداء وأصداء عن مراحل وأثار نسج ستارة أو صياغة خاتم..
ولكن (جدل القصيدة) ربما كان أوفى بالغرض في وصف هذه الكينونة الفذة عبر صيرورة فذة تبدأ بجدل الشاعر والقصيدة لتتمخض عبر جدل عناصر البناء عن أثر ذي حيوية لا تنتهي بجدل القارئ والقصيدة.
وفي كل الأحوال يبقى الشاعر المجتهد مطالباً أمام وعيه الفني، قبل كل اعتبار، بانجاز أثر حي منسجم من خليط من المواد أو النقائض تنصهر في (المحترف الصعب) لتخرج منه انجازاً فريداً في تشكيل فني جسد حوار الأضداد في وحدة منسجمة...
ولفرط ما كانت خبرات رواد الحداثة في هذا المحترف الشعري الصعب غنية مشعة بات بالامكان أن يتكفل المراس الشعري والوعي الفني بأن يوفرا القصيدة التي اكتنزت هذه الخبرات دون أثر من صنعة أو ظل من تلفيق، فرأينا من وعي هذه الخبرة بين الشعراء الشباب يتوفرون على العمل في هذا المحترف وقد أمسى سهلاً شائقاً بعد أن كان في طور ريادة التجريب مرهقا أو مرتبكا، ويوفقون دون عناء إلى الوحدة المنسجمة فتبدو تلقائية دون قسر أو رهق مفتضح…
ومن ثمار (جدل القصيدة) أن تتضافر مهارات الشاعر وتتعدد...
"......"
شعرية مركبة تقرن البعد الواقعي (الظاهري) ببعد نفسي (داخلي) وتفتح من كوى الحاضر سبلاً لاسترداد الزمن الهارب، فتواشج في حذق بين اللأنا والأنت، وبين الرصد الموضوعي والاستبطان السيكلوجي، بين مشهد يرى (الآن) صوراً متصلة على تبعثرها، ونثار يستعاد ذكريات أو مواقف حوار قصيرة.. ولا يعود عسيراً أن تتألف صلابة البناء الموضوعي وشفافية الحلم أو رقة الهاجس في (تعادلية) هي العمود الجديد في القصيدة الجديدة.
ومن بين قصائد (سماء في خوذة) للشاعر "عدنان الصائع" تأتي قصيدة (آخر المحطات… أول الجنون) نموذجا لتمثل هذه الخبرة على خير وجه، فهي قصيدة ذات سيناريو ذكي يبدو لفرط ما فيه من تلقائية وكأنه ثمرة مرور التفاصيل بمصفاة من ذوق عصري أمسى عنده حسن الاختيار والترتيب والتركيب غريزة لا تخطئ بعد أن هذبتها التجارب الرائدة في هذه التجربة، وتجربة الشاعر "سعدي يوسف" منها بخاصة: يتألف البوح الغنائي: (في الطريق المؤدي لموتي الأخير انكسرتُ).
والمنلوج الدرامي: (ما الذي صنعت فيك هذي المدينة، أين ستمضي بهذا الخراب الذي هو أنت) والتداعي المفاجئ الحلو: (تتكئ الآن فوق الأريكة ساهمة… ربما ستقلبني كالمجلات) والحوار القصير: (قد تتوهم … أنت تراها بكل النساء – ولكنها – ربما ..) في نقلات لبقة بين مناخي الحب والحرب: (مر المحبون تحت غصون المواعيد ذابلة… مر الجنود المستجدون للحرب… مرت خطى الفتيات فساتينهن القصيرة) تندرج.....
"........."
وذروة.. وهي حقاً آخر محطات الشاعر، لأن ما حولها لا يرقى إليها حساً وتركيبا:
فقصيدة (مفتتح أولي) إذ تستعين بلازمة متكررة: (سقطت خوذة) توحي بأنها ستكون ذات سياق درامي متفايض متصاعد، لكنها من المواجهة "الأولى" مع (موتي المؤجل… يرمقني ببرود… ويخلع خوذته وينام) قنعت بأن تكون هذه المواجهة ضربة أخيرة أو (قفلة) ربما دلت على احترام الشاعر للتركيز والالتئام: فلو أن شاعراً (أكثر عاطفية) بدأ البداية ذاتها لكان ثمة ما يغريه باسترسال يصاعد فيه التوتر دون عائق…
وتعود قصيدة (سماء في خوذة) إلى بلاغة الشعر الحديث والى (التلوين) فيها: السرد الغنائي، والقطع المباغت بما يشبه الجملة الاعتراضية في لحظة مناسبة وموقع مختار (غرفة موحشة – ص 15) و(للطفولة يتمي – ص 21) ثم عودة السياق وقد أضحى السرد منلوجاً دراميا: (وماذا تبقى لك الآن من عمر..) يتخلله الحوار والتعليق: (لا بأس فليكتب المتخمون) وتداعي الذكرى: (في غرفة قبل عشرين كانت ترتق) يجمع بين صحاب راكضة إلى الساتر الأول (نتحدى معا موتنا – أينا سيخبئ يا وطني رأسه… ولنا خوذة واحدة).
وفي (بريد القنابل) من هذه البلاغة قدرة الشاعر بالمجاز والتشبيه على أن يستل من فوضى الشعور أغنية أنيقة مترفة حساً ولغة وصياغة: (سيمر بي العطر يأخذني لتفاصيل جسمك أو لتفاصيل حزني – من سيرتب هذا الصباح القلق – الفناجين باردة كالصداقات..).. وهكذا فأن عزلة الشاعر العاشق تلهمه التهكم الحلو:

(وأبقى وأنت وحيدين فوق رصيف المساءات
ننتظر الباص والراتب المقتطع، والـ…
شقق أو أشعار
للبيع وللايجار
فلماذا أنت بلا مأوى؟)

وتغذي فيه من حسن الوحدة قدرة على تصوير مشروع حب مؤجل في (بائعة التذاكر) عبر لقطة تومئ وتوحي في لباقة وحس درامي يقظ.
وهي أدل قصائد المجموعة على قدرة الشاعر في هذا اللون الجديد من شعر الحب في زمن الحرب.. يتجاوز عن طريق "التكثيف الدرامي" ذلك التزيد العاطفي كأنه حاشية أو هامش في نهاية الجزء الأول من (صورة مرتبكة):
(ستلملم أوراق خيبتها وتغادر باب الحديقة)، فأي جدوى من: (لا...
"........"
ما يخدش قصيدة (مطر النساء) من تكرار غير مجد وعثرات وزن وإلحاح دون سبب على واو العطف في النهاية بدلاً من أن تخلص إلى أن تكون أغنية صافية..
(وأنت وحيد.. تتوزعك الطرقات ويوميات الحرب وضحكتها..) فأي عجب في أن يفتح تكاثر مفردات الحرب المتواشجة مع ما تستتبعه الحرب من حالات نفسية مختلفة باباً واسعاً لابتكار الاستعارة والمجاز من أجوائها… فلولا الحرب لم تنقلب (أراجيح الحنين) إلى (يطغات الحنين المبلل..) أو يمر (الصباح الحديدي فوق زجاج النعاس… فشظى ترقبنا لنهار جديد… لم يغتسل بعد من طمث القصف… فاقتسمنا على طاولات التوابيت خبز البقاء المثقب والشاي) ولما ابتكرت المخيلة مجازاً بليغا يتسع تكويناً وتعدد اتجاهات ايحاء.

(اصبعا، اصبعا، ستقطع كف طفولتنا الحرب
تمضي بنا في غرور المقاول – نحو مساطرها
وتبيع الذي لن نبيع..).

وعبر طفح الانفعال في حركة اللقطة (جائع) وانضباطه الجميل عبر معادل موضوعي في (شقة)، تأتي اللقطة اليومية الساخرة في سمة كاريكتيرية (ناقد – أمسية شعرية) أو عبر حوار: (إلى شاعر برجوازي)، وتطل في (متسولان) لقطة خمسينية كان ينبغي اهداؤها إلى القصاص المجهول الذي كتب القصة القصيرة بهذا الحس الواقعي (الطبيعي)، ويعود من ارث الغنائية لواذ الهاجس العاطفي باداء موروث في (قصيدة  حزن كلاسيكية) كأنها من بعض (أغاني المدينة الميتة) المثقلة بفيض (الوجد الدفين) و(الحلم الضنين).
إن نضج الشاعرية في (سماء في خوذة) لا يتضح في تعمق التجربة خبرة وأدوات فحسب، بل وفي تجنب التهويل والصوت العالي، فالمجموعة تنتسب دون ضجيج إلى هذا اللون الذي رسخت له في شعرنا الحديث أصول وتقاليد: شعر الهمس المتأنق والبوح الأليف تغتني فيه البساطة بالجديد من لغة المجاز فلا تجنح إلى التبسيط: (جمعت عمري في جعبتي ثم قسمته… أهش ذباب الدقائق عن صحن وجهي الدبق… أنت تسيلين فوق المرايا فيشربك العابرون..) ويكون ذلك أول الدوافع إلى إثراء القصيدة الغنائية ذات الصوت الواحد والمنهج الشعري الواحد بما يرقى بها إلى القصيدة ذات البنية الدرامية المركبة منتسبة إلى تراث عراقي لهذه القصيدة كان البدء فيه تأثراً ببنية (أغنية العاشق بروفرك) ومازالت آفاق الإبداع فيه واسعة.


(*) صحيفة "الثورة" – بغداد - ع7090 في 28/10/1989
م: هناك سطور قليلة مثلومة من المقال أشير إلى مكانها بنقاط "......" (مصمم الصفحة)
 
البحث Google Custom Search