أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الداخل الضيّق.. والخارج المتّسع

د. حاتم الصكر
- بغداد -

"للطفولة يُتمي..
ولامراتي، الشعرُ والفقرُ
للحربِ هذا النزيفُ الطويلُ
وللذكرياتِ.. الرماد"
     عدنان الصائغ – "سماء في خوذة" -


ـ 1 ـ

تخرج قصائد عدنان الصائغ من الحرب كما دخلتها: قلقة، عنيدة، مجروحة. إنها تتصل بالحرب ـ موضوعاً لا غرضاً ـ بصلات شعرية. لذا فهي لا تقيم تلك الصلات احتكاماً إلى موروث حماسي (سواء باستلهام غرض الحماسة الحربية أو باستعارة الصوت الغنائي) بل تظل على العكس من ذلك: تقترح صلات ذات وشائج قوية بالحياة (التي تبدو في شعر الصائغ متنأ والحرب هامشاً).
إنه يذكرنا دوماً بأصحابه وصديقاته، بأشجار المدينة ومصاطب حدائقها، بالأمنيات الذاهبة في (جعبة) المقاتل إلى الجبهة، والعائدة في أوراق الشهيد وبقايا المواضع والملاجيء.. وتلك هي أبرز نقاط التماس بين الشاعر وموضوعه.
وقصائد الصائغ لا تهادن موضوعها. إنها تجيء به إلى طقوسها ونظامها ولا تذهب إلى عناوينه أو كلياته. بمعنى أن الوحدة الصغرى (الذات) هي التي تجلب: بالشعر، الوحدة الكبرى (الموضوع) على عكس ما يفعله شعراء
كثيرون يبدأون بالموضوع وبهذا نستطيع تفسير العنوان المحيّر: "سماء في خوذة".
إنها علاقة الخارج بالداخل والواسع بالضيق والموضوع بالذات. فالسماء (أو الأفق المفتوح) هي التي حلت في الأصغر (الخوذة أو الثقب). ومن هذه الخوذة أو الثقب في الجمجمة أو النافذة في غرفة أو الفتحة في موضع.. منها يتصل الشاعر بموضوعه: بالواسع الممتد خارج نفسه.. فيراه وهو في هيأة ضيقة ولا يغريه اتساعه ليتيه أو يحلق. وليس هذا اقتراحاً لإقامة ثنائية مفترضة. فالخارج والداخل المرمّزان بالسماء والخوذة (والأفق والثقب أحياناً) يحتلان الجزء الأكبر من آليات قصائد الصائغ التي ما تزال بسيطة التناول والمفردات.
هذه الصلة المنعكسة: بين الداخل والخارج، والذات والموضوع، سوف تكون سبباً في اقتراح ما يمكن تسميته بالشعرية المنحرفة أو المحرفة، وهنا ـ حيث لن نجد صلة منطقية ـ ستكون للأشياء معانٍ أخرى غير ما نتوقع عند القراءة: معانٍ تولدها الدلالات بالدرجة الأولى.. فنلتقي مثلا، بالموت في ختام إحدى القصائد على هذه الهيأة:

"نظرتُ لموتي المؤجل.. يرمقني ببرود
ويخلع خوذته..
وينام"

ونلتقي بالشاعر وقد فتح دولابه الخشبي متهيئاً للنوم ولكن ماذا سيفعل؟

"أفتح دولابي الخشبي
أعلق ـ في المشجب ـ
.. قلبي
... وأنام"

هذا القلب المعلق في المشجب والموت النائم دون خوذة هما مثالان لما تنتهي إليه ثنائية الخارج والداخل أو الواسع والضيق... وما تنتهي به قصائد الصائغ أيضاً.
فالصائغ ينهي قصائده دائماً بمفاجأة تحرف القصيدة عن سيرها وتلقيها في احتمال لم يكن وارداً أثناء القراءة: احتمال يلغي التوقع ويوجه القراءة مجدداً من حيث بدأت. والدعوة إلى قراءة عنوان الديوان وفق الثنائية الآنفة: لا تقل أهمية عن قراءة نهايات القصائد. فكلاهما ـ العنوان والنهايات ـ يرتبان صلة جديدة بين الداخل والخارج وفق الحصار الذي تعكسه القصائد والثقوب المتاحة في الأفق المتسع, تلك الثقوب التي يرى منها الشاعر أفقه وسماءه فيتلون كل منهما بما يراه الشاعر من زاويته.
في (بريد القنابل) يحدثنا الشاعر عما يفعله حين (يكسره زعل الأصدقاء):

"فأجمع كل نثاري
وأختار زاوية للحنين
هي الوطن – الكأس – والمرأة الواحدة"

أن الشاعر منسحب إلى (زاوية) مكتفياً بنثاره. ثم مسمياً زاويته التي انسحب إليها : الوطن والكأس والمرأة.
فعلاقة الضيق بالواسع هنا تدعو لتأمل النظرة إلى الوجود, وإلى الحرب بكونها (حالة) يحياها الإنسان, يمر بها ويتوقف عندها. لكنها عابرة كأي شيء آخر...

- 2 -

يحاول الشاعر إسقاط نظرته إلى الوجود, على أبطال قصائده, أولئك الذين يختارهم من يوميات الحياة ثم يجلسهم في قصائده ليتحدثوا بحكمة غريبة.
وتصلح قصيدة [بائعة التذاكر] مثالاً لهذا الإسقاط. فالمرأة تبيع للركاب تذاكر الحافلات : لكنها تتعامل مع العالم وموجوداته من خلال (فتحة الكشك) فترى الناس أكفاً وأصابع:

"غابة من أكفٍ
وهي من فتحة الكشك
من أفق ضيق
تقطّع ساعاتها، سأما وتذاكر:
(أكفٌ بلون التراب، المواعيد
والتبغ، أو كاللهاث
أكفٌ مرابيةٌ أو منمقةٌ
خشنةٌ، لا مباليةٌ، أو مشاكسةٌ
نصفُ مفتوحةٍ، نصفُ جائعةٍ، نصفُ آه..)

فالذي يبدو للمرأة البائعة من فتحة الكشك، وهو صورة العالم بالنسبة لها، أي أنها (كالشاعر) لا ترى من الخارج المتسع إلا ما تسمح به فتحة الكشك الضيقة. وهي العلاقة نفسها التي أقامها الشاعر مع موضوعه أيضاً. في الشهيد يرى الشاعر الوطن كله. وفي ثقب الخوذة الضيقة يرى جراحاً..

"سقطت خوذةٌ
فتلمست في رئتي موضع الثقب منها
امتلأت راحتي بالرماد
سقطت خوذة
فتلمست في وطني موضع الثقب منه
شرقنا معا بالدم المتدفق"

أن الحرب لم تعد في عيني الشاعر إلا امتداداً لخيط الدم الطالع من ثقب في خوذة شهيد. فهي ليست زعيقاً حاداً أو صورة هائلة التفاصيل لجيش يتقدم وآخر ينكسر. هي خيط دم آدمي ينتشر من ثقب ليصبغ الأفق.
إنها - وببساطة – تبدأ من أقرب اللقطات لتنفتح على المشهد الواسع. تبدأ من ثقب خوذة لتستوعب سماء الوطن كله. وهذا ما عبر عنه العنوان تعبيراً بليغاً فكان عنصراً توصيلياً ناجحاً إذ اختصر مقولة (الواسع في الضيق) وانبثاق الأفق من عين يحاصرها ثقب صغير ترى منه العالم فتجد أماكن رؤية (سماء في خوذة) شيئاً منطقياً.

- 3 -

تلك الثقوب التي يصنعها الرصاص أو تتركها الشظايا تتكرر في الأشياء المختلفة. فنجد لدى الصائغ (سنوات مثقوبة) و (سماء مثقوبة) وكذلك الخبز والجورب والوطن.. بل هو زمان الثقوب كما يلخص الشاعر. لكن الإنسان يصنع من هذه الثقوب عالماً جديداً.
إنه لا يستسلم للموت بل ينتصر عليه بالشعر أيضاً.
فالشاعر يغني الوطن "من شقوق المواضع والقلب". أي أن الداخل المشقق : المكان والقلب معاً, يفيض ليؤلف أغنية الوطن الواسع.
إن الشاعر يقيم صلته بالعالم على أساس هذه الثنائية, فالفضاء والأفق والسماء هي الأبعد دائماً : والذات هي الأقرب.
يقول الشاعر مصوراً الانتظار:

"أهش ذباب الدقائق عن صحن وجهي الدبق"

وهو يلخص بإيجاز بليغ صلته بالخارج حيث الزمن يطمع بوجهه وهو يهش عن صحن وجهه الدبق ذباب الزمن.. فهو متحصن بزاويته أو صحنه أو موضعه أو مصطبته وبينما تحتشد حوله عناصر الخارج بسعتها.
وهكذا رأى الشاعر الحرب فجاءت قصائده مختلفة عما كتبه سواه.
في الحرب لا يجد الصائغ مادة ملحمية فينساق إلى إيقاعها, أو يجد حالات (مجاورة) فيمد بصره إليها ثم يخسر ذاته وصوته وحالته.
إنه يلتقي بالحرب في منتصف المسافة بين القصيدة ونفسه ويمر بها لا ليقيم فيها بل ليعبرها إلى متن الحياة. وتلك ميزة صعلوكية وجدتها في شعر "كزار حنتوش" القريب بمكوناته من الصائغ, ولدى جواد الحطاب بصورة أقل.

"أوصلتني القصيدة للفقر"
يقول الصائغ موجهاً الخطاب (إلى شاعر برجوازي) ويسأله:
"هل أوصلتك القصيدة للفقر؟
هل أسلمتك إلى حارس السجن
أو للتشرد أو للجنون؟"

ولـه في صحبة القصيدة الفقيرة صحب مثله يتحدث عنهم في قصيدته (شقة رقم 1). وإذا كان هذا بعض ما فعلته القصيدة بالشاعر, فهو راضٍ بما وصل إليه, غير شاك, بل انه مزدهِ بذلك متباه أشد المباهات, جاعلاً ذلك امتيازه على الشاعر (البرجوازي). فالصائغ يجد نفسه بعد عشرين عاماً من الشعر لا يملك:

"إلا نظافة قلبه وجيبه وحلمه القتيل"

فهو لا يريد من الشعر سوى ما وصل إليه, وهذا شأن الصعاليك في تراث العرب الشعري, يحكون عن قوت يقتسمونه وأموال ينفقونها وأعمال معروف يصنعونها.. ولهذا نرى الشاعر مصدوماً بحلمه على الدوام.. فالأرض أضيق مما يتصور, أي انه قد يراها أحياناً واسعة فتغريه بالخروج من زاويته ولكنها سرعان ما تكشف عن ضيقها وبخلها معاً :

"الأرض أضيق مما تصورتُ
أضيق من كف كهل بخيل"

ويمثل هذا تدعيماً لنسبة النظر إلى اتساع الخارج. فالشاعر يرى الأرض أضيق من كف البخيل. أي انه يستفيد من معنوية البخيل ومادية الكف ليؤلف صورة بليغة في معناها : صورة الكف الضيقة بالبخل وليس بالسعة فالأكف واحدة, ولكن كف البخيل بسبب شحته وبخله تبدو أضيق من سواها (ولا معنى هنا لإسناد الكف إلى الكهل. فالبخيل ألصق بمعنى الضيق من الكهل, ولا فرق بين أن يكون البخيل شاباً أو كهلاً بعد ذلك).
لقد رأى الشاعر الأرض غير ما تصورها. وهذه إحدى صدمات الحلم في تجربة الشاعر : صدمة ما بين التصور والحقيقة أو المثال والواقع. في (مرثية حزن كلاسيكية) يتحدث الشاعر إلى فتاة عرفها يوم كان فتى لاهياً ثم أصبح مثقلاً بالزمن:

"الفتى اللاهي الذي قد تذكرين
صار أبْ
وله طفلان أو ذنبان, آه
وديون.. , ووظيفة
سرقت منه أراجيح الحنين
وأغاني الدرب,
         والأمطار
والوجه الدفين"

الزمن الضيق إذن, والفتى اللاهي يراه الآن – كما يرى الأرض – قيداً ومتاعب لا تنتهي, وتلك صدمة أخرى بالطبع.

- 4 -

أن البحث عن الحرب في ديوان الصائغ, كالبحث عن سماء في خوذة مثقوبة, فنحن لن نجد إلا ظل الموضوع ورموزه. وحالات حولها الشعر إلى شظايا متناثرة ممزقة كأوراق العرافة التي تنثر الإجابة على سائليها في أوراق ممزقة.. عليهم ليعرفوها أن يرتبوا تلك المزق المتناثرة.
وهكذا نستطيع قراءة الديوان لنجد أن الحرب ظل وراء القصائد وإن كانت هي مركز تفجرها واتساعها. وانبثاقها من الذات إلى الخارج يجري في مجراها.
لقد ظل الصائغ محدقاً في الأرض, لا يلاحق فضاءً وهمياً. وهذا هو امتياز قصائده رغم أنه ما يزال – كما هو في دواوينه السابقة – يحمل من غبار الأرض شيئاً كثيراً ليدخله إلى القصيدة فيحجب بذلك جوهرها الشعري.
فما تزال الصفات المجانية ماثلة نجدها في : الولد الصعب والياسمين المشاكس والقمر المتسكع والندم المر والصبي المشاكس وفي الدشداشة المشاكسة (أيضاً).
وما تزال الموضوعات المباشرة تستهويه أحياناً فيكتب قصائد في موضوعات عادية مثل (أمسية شعرية) (ناقد) (إلى شاعر برجوازي) (متسولان) (جائع) وهي بعض الغبار الذي تلمه القصائد عند اقترابها الشديد من حالات الحياة اليومية ومن الانقسام البسيط المرئي بالنظر المجرد.
ولا تزال موسيقى القصائد محدودة. يحددها (المتدارك) هذا البحر الضيق بتفعيلته القصيرة وسكناته الكثيرة.
إلا أن الإيقاع لا يتوفر في أغلب قصائد الصائغ لأنه يخرج كثيراً من هذا البحر الضيق إلى سعة (المتقارب) فتتحول (فعلن) أو (فاعلن) في قصائد كثيرة إلى (فعولن). وهذا خطأ مطرد في الديوان. ويمكن معاينته في قوله:

"فتاة ترش دمانا على الأصص النائمة
فيتثاءب العطرُ بين انحسار القميص
وجوعي
إذن أنت لا تشبه الآخرين
قميصٌ يتيمٌ
وقلبٌ يتيمٌ.."

وفي قصائد أخرى تحصل هذه الانتقالات التي صارت ميزة إيقاعية خاصة بشعر الصائغ لعلها تعكس رغبته الكامنة في الانفلات من الضيق إلى الواسع: من المتدارك إلى المتقارب. وهو لا يتوانى عن كسر القاعدة اللغوية. فيقول (جوراباً) و (تمسح ذلتها) و (حافة) بالتخفيف.. ويصرف أحياناً ماحقة التنوين. أن تلك النواقص الأسلوبية, تغدو جزءاً من شخصية القصيدة ذات الواقع اليومي المألوف لدى عدنان الصائغ.. المؤكدة لشعريتها المنحرفة بانحراف إيقاعها. القصيدة التي تقدم نفسها للقارئ ولا تقدم موضوعها.
القصيدة التي إن تقرأها, تجد ذاتاً لا موضوعاً, وإحساساً لا تصويراً خارجياً, وجرحاً شخصياً لا ملحمة حربية. هنا امتزج الكل في واحد. وكانت ثنائية الداخل والخارج أبرز ما في الديوان : ملاحظين أننا قرأناه بتوجيه العنوان, وبنداء خفي يبعثه النص : يقول لنا بأن ما غيبه كثير, وربما كان بدء القصائد في ذلك العالم الذي تشير إليه من ثقوبها وزواياها. ولا تريد أن تراه بما هو عليه في واقعه. وإلا لماذا كان ثمة شعر؟

بغداد 1988

سماء في خوذة – شعر – عدنان الصائغ – دار الشؤون الثقافية – بغداد – 1988 - .


(*) نشرت في صحيفة "الجمهورية" – بغداد 1988
(*) نشرت في مجلة "ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002   النمسا ( عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search