أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
فضاء آخر لقصيدة الشاعر...

علي عبد الأمير
- عمان -

"السماء التي ظللت أرضنا
والمنافي التي أرخّت جرحنا..."    
  عدنان الصائغ- من مجموعته "تحت سماء غريبة"

تميل تجربة الشاعر" عدنان الصائغ" إلى الوفرة في التعبير عن مكنوناتها, وهي إذ تجد ذلك فإنما يستند بالأصل إلى روح تكتشف وترى وتنقّب وتتساءل وتمضي في إظهار تلك الحصيلة عبر اللغة الشعرية التي حاولت على الرغم من وفرتها في التوثيق – هي المجموعة الشعرية السادسة التي نحن بصدد الحديث عنها – أن تكوّن محورها الخاص وطريقتها الخاصة في الرسم على الورقة ناهيك عن الإيقاع الخاص والالتقاط المميز للمفردة..
"عدنان الصائغ" يبدو على الرغم من وفرة إنتاجه من الشعراء المقتصدين في اللغة, مفرداته محسوبة ولا يرى بأساً من استخدامها مرات ومرات ولكنها ليست دائمة في سياق ثابت. موضوعاته هي الأخرى تلتم على فكرة واحدة مع أخريات محايثة لها, انه (مغترب) يعاني وحشة المشاهد التي تقلل من دور الإنسان, بل الوقائع التي تقصيه عن فاعليته الإنسانية, هذه الموضوعة تابعها الشاعر بدأب بالغ روضّ القوى التي تنبع منها وتدعوه إلى أقصى الوضوح, حد السهولة وفجاجة المباشرة وتابعها بمران ودأب حتى أمسك بتلابيبها وصارت الفكرة مجموعة مشاهد قد تكون صغيرة لكنها من القوة بحيث تحتفظ بقدرتها على البوح بكامل الموضوعة"
في مجموعته (تحت سماء غريبة – منشورات البزاز/ لندن 1994)  ما نستطيع إثباته من حديثنا أعلاه عبر النصوص .. وهي نصوص (إيقاعية), تختار من (التفعيلة) ما يناسب فكرة النص, فيها أكثر من وسيلة لتنفيذ الشكل.. ثمة نص اللقطة السريعة, ثمة النص المشهدي (مشهد أو سيناريو شعري) وثمة الكثير من الفراغ الذي يوحي به التنقيط (.....) فهناك سطور كثيرة منها, لم تعد تشير إلى (المحذوف) أو (المسكوت) عنه حسب بل أرى إنها تقدم دعوة إلى المتلقي في تكوين محتواها المحذوف..
"عدنان الصائغ" أحد شعراء جيل الثمانينات في العراق وهو عاش فترة أحداث ذلك العقد حرباً حرباً, أزمة أزمة، وضنكاً ضنكاً, من هنا نشطت رؤيته ومن مشاهد ما رأى واختزالها للفكرة بدأت تجربته في وعي (الأزمة) ومن ثم الانفتاح تعبيرياً عنها.. فمن محاولة الإمساك بالهامش الإنساني المتاح أولاً إلى هجاء المشهد كله لاحقاً إلى رثاء الزمن المضيّع هباءً في تلك القسوة التي انبثقت في أرجاء حياته:

       (ما أسرع ما غادرت حدائق اللعب لأبيع السجائر
        ما أسرع ما ضاق عليّ قميص المدرسة, ليعلقني مسمار                              
        الوظيفة
        من ياقتي
       على جدار العائلة)   - غروب –

إزاء كل المشهد المتدفق بالأزمة الإنسانية, كنا نجد الشاعر يدافع عن الهامش المتاح لحريته بروحه المتدفقة الباحثة عن الإيجابي, الجميل, وهذه (الرومانسية) التي كانت تحيق بها الكوابيس ظلت تنتظم كروحية (شعرية) نسجت من خيوطها كل النصوص في المجموعة تقريباً:

          (شمعة ..
              شمعة ....
              ستنطفئ السنوات
              ويلفني السعال والخريف
              فلا أرى سوى بقع الشمع المتجمد
                                               على سريري)     - دموع الشمع -    

هكذا التكرار في بنية النص, فكرة واحدة ثم زوايا نظر متعددة نحوها, ولغة تستمد روحيتها من شفافية واقتنائية واضحة, جعل النص يميل أحياناً إلى (السهولة), لا البساطة التي ميزت مفتتح المجموعة.. البساطة التي تستند إلى أعماق الحادثة والفكرة وتغلفها بالكلام المعتاد المتداول. لا اللغة المقعّرة المغلفة وظلت القصائد القصار في آخر المجموعة مجموعة التقاطات صغيرة تعتمد أسلوب المفارقة الصورية وهذه (الآلية) أنتجت لنا مجموعة كثيرة متشابهة من المواقف التي قولهّا الشاعر من لغته فصارت شعراً:

            ( أكل هذه الثورات
              التي قام بها البحر
                        ولم يعتقله أحد)  - البحر الأحمر –

وهذا النص نجد مجاورات له في نصوص (بحرية) أخرى فهناك (البحر الميت), (الخليج العربي), (البحر العربي), (البحر المتوسط) وأمكنة أخرى.. بينما نجد التماعات حقيقية في أمكنة أخرى, من هذه القصائد القصار إذ هي ابتعدت عن النمطية والانتقائية واكتسبت شعريتها قد اقترابها من التلقائية:

                (بين أصابعنا المتشابكة
                 على الطاولة
                 كثيراً ما ينسج العنكبوت
                 خيوط وحدتي)

عموماً كانت القصائد القصار في المجموعة, تشّكل انتباهة جديدة في أدوات الشاعر, سيما انه عرف بميله إلى تشكيلات المشهد وتفصيلاته اليومية والمألوفة.. وهذه تشكل مدخلاً نحو نص شعري يحتوي على بنية سردية, بينما لا تتطلب القصائد القصار شكلاً كهذا سوى التكثيف في الصورة لا بل تقطير عناصر تلك الصورة, وهذا يتطلب إضافة إلى الاقتصاد في استخدام المفردة, قوة في الاطاحة بالبلاغة الصورية ذاتها من أجل تأكيد المعنى, فكم من علامات القوة الشعرية, أضاعتها السياحة بين المفردات وسطوة تلك المفردان – لا ننسى ميل الشاعر إلى نحت شعريته ضمن مفهوم إيقاعي وموسيقي, بينما تتطلب قصائد كهذه مهارة في الاستطلاع الأفقي للكلام وهذه (صفة نثرية) لا يقر بها الشاعر–.
"عدنان الصائغ" القريب من اليومي وتفصيلاته والذي يقوّل ذلك المشهد في شعره, يبدو في قصائد مجموعته (تحت سماء غريبة) وقد انتبه إلى ثبات ما في ذلك المشهد على الرغم من (حركته), تفصيلاته, فراحت قصائده تغرف من ذهنية ما, لم تك ذات مرة من مرجعيات ولا مصادر قصيدته سابقاً, لكنها هنا ذهنية منفتحة على اليومي وتتصل به, تقيم دلائل فكرية من مكنونات الواقع وتجعله أحياناً يرتفع على مستوى اليومي إلى الرؤيوي غير الغارق في تهويمات صورية.. هذا عائد كما أراه كمتملقٍ إلى إخضاع الشاعر للمشاهد التي يتعامل معها ويتكون ضمنها إلى (مصفاة) بدأت تنشط عنده نتيجة تراكم الخبرة والحياة, فهو لم يعد يعرف ذلك التماهي مع فسحاته التي كانت متاحة أمام الشاعر في أول تجربته, بل تحولت إلى (مناكدة) ذلك الواقع ونقده لاحقاً:

             ( تضيق البلاد ..
                تضيق ..
                تضيق
                وتتسع الورقة
                البلاد التي نصفها حجر  
                والبلاد التي دمعها مطر )     - تضيق البلاد -  

هذا يأتي كتحول في تجربة الشاعر, حيث بدأ ينظر الآن بعين فاحصة لتجربته الشخصية وعموم علاقته بمفهومات (الوطن – اللغة – الآخرون – الحرب – الحرية – الخلاص الجمعي – النجاة من الغرق – الذات – مهمة الشاعر في منفاه – الحنين) . كل هذه ترشح بعلامات أولية عبر مجموعته "تحت سماء غريبة" وهي توميء لأشارات أعمق, أعتقد أن وفرة الشاعر في التعبير شعرياً ستأخذ تلك الاشارات إلى مناطق قول أخرى, قد نكتشف عبرها ومعها علاقات جديدة عن لائحة المفهومات التي باتت تشكل لب وجوهر حياة الشاعر لا وقائعه, بل مشروعه الشخصي الذي يريد له أن يتجدد عبر وثائق نصية تقترب من حساسيتها من بوصلة مرحلة مثيرة وحافلة بالمتغيرات والكوارث شهدها وشهدها معه جيله أيضاً..

             ( أرى مدناً نخرتها الجنود وأخرى رمتني ككلب طريد
                وراء الحدود, وأخرى تعلق – في الحرب – سروالها راية
            - أين نسيت القصيدة
            - لم أنسها
                       كان محض جنوح إلى عزلة الروح
                       تلزمني غابة للصراخ, ومحبرة من دم
                       كي أتم القصيدة )...


(*) صحيفة "القدس العربي" ع  1947-  لندن- 11/8/1995
(*) مجلة " ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002   النمسا ( عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search