أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
واو الصائغ مشاكس يصفي أبجديتنا من العنف

الشاعر يلتحف القصيدة بلا مكان

أحمد محمّد أمين

 

عدنانُ الصائغ شاعرٌ بلا مكان، بيته الترحالُ، ومدينته الفاضلة هباءٌ زمرّديٌّ لم يعد لها وجودُ. مُغامرٌ يركب متون تطلعاته، ولا تضيّفه المرافيء ولا الضفاف... ليظلّ، إذاً، موجُه الهبائي يجتاب الأفضية والآفاق. حتي يبحّ صراخُه... واوُهُ المتمرّدُ وجودي، سرياليّ، جدليّ، عابثٌ وجاد، ساخرٌ ورصين..... حالمٌ واقعي، سارقُ دهشتنا، قاطعُ طريق ٍ لا يتربص بنا في الظلام، بل يتصدّى لنا وسط الطريق والنهار. هو أيضاً هدّامٌ صِدَاميّ، يهدّ القبيح المتنافر ليؤسّسَ مملكة الحبّ والجمال. واوهُ، يتنكر لمجمل شعره وكتاباته من: "انتظريني تحت نصب الحرية"، حتى "تأبط َ منفى"، وما يلي ذلك من انجازات نثرية. انه هنا يُشيّد بنية جديدة للشعر شكلاً وموضوعاً. يرسمُ بواواته بوابةً اُخرى للقصيدة، يتلاعب في ملامحها وهواجسها، ظاهرها ومضمرها، حلمها وشططها. فحرّرها من كتلها التقليدية. إذْ استحالت عنده لوحاتٍ تشكيليةً تغترف من كلّ المدارس الفنية. وتتمترس في ذات الآن بين الإقدام علي المغامرة في المجهول والإحجام عن التوسل بماضي القصيدة وحاضره النمطيين. هي شظايا صور، خربشة طفل لا يشيخ ولا يفني. لجْ معي قصيدته "طواف" ص 202 ترَ تشظي القصيدة ِ إلي أشلاء، كلُّ شلو حياةٌ لا تنفصلُ عن سواها ولا تتمزّقُ، فيها روحٌ وقلبٌ ينبضان: 
أطوفُ 
بالبيت 
ولا بيتُ 
الّاي، هل حولي أنا طُفتُ؟.
....................... 
ولنسْمعْه أيضاً:
وهو بَناني بيتَه
كيف لي
أن اسكنَ المسكون؟

....... لكنّ المفارقة أنّ الصائغ بناها علي مَروية عن أبي يزيد البسطامي حين قال له أعرابي: اعطني دراهمك وطُفْ حولي. الكعبةُ بيتُ الله بناه وتركه. وبَناني وسكن فيّ، قلبي هو بيتُ الله.
وبصرف النظر عن صدق الرواية وعدم صدقيتها. فالإنسان في نظري أجملُ الخلائق، هو القطبُ واللولبُ، والمركزُ والثبات والحقيقة، هو مَنْ يترَكّزُ فيه نبضُ الله شئنا أم أبينا. وما عدا ذلك فشكلياتٌ ابتكرناها وعظمناها وصيّرناها بديلاً نُؤلِهه. هذه القصيدةُ اُمُ قصائد الديوان، انْ جاز القولُ، فقد زجّ فيها الصائغ كلّ ثقله الإبداعي، من تصوّف، وحلم، وصحو، وجدل مادي، ونفَسٍ واقعي وسريالي. كما أن شكلها غرائبيّ، تُمكنُ قراءتها علي أوجه.....
الصائغ في ( و.. ) يتمرّد على بنية القصيدة الشعرية الحداثية بوضعها الراهن. رَسَمَها بوضع تكعيبي (قصيدة العراق، ص 13 حصراً)، لكنه جعل الكلمات أطلاقاتِ رصاص جاءت زخاتٍ تميل يُمنة ويسرة، تضربُ يوافيخَنا المتورّمة... والجملُ الفعلية فيها شحيحة ما عدا أربع مرّات. والفاعل متوارٍ في ثلاثة افعال منها خلف الضمير المستتر: 
عندما الأرضُ؛ كوّرها الربُّ، بين يديهِ 
ووزّعَ فيها 
(فاستحالَ الفعلُ/ وزّع / فوهة َ بندقية رمتْ رشيشاً من الصُراخ):
اللغاتِ
النباتَ
الطغاةَ
الغزاةَ
الحروبَ
الطيوبَ
الخطوطَ
الحظوظَ
اللقا...
والفراقْ
 
(تسكتُ البندقيةُ هنيهة لتتنفسَ، ثمّ تنهمرُ الصرخاتُ كرّة اُخرى بعدَ)، 
وقسّمَ فيها: 
السوادَ 
العبادَ
البلادَ
البلايا 
الوصايا
الحواسَ
الجناسَ
الطباقْ
(... ويصمتُ الدويّ، ليترامى إلى الصائغ ما أنجزه، هامساً مع نفسه: نعم حققتُ غايةً، لكنْ، لأرمِ رشة ً أخرى خفيفة بعد فعل):
اعتصرتْ 
روحَهُ 
غصّةٌ
      

فكان....
العراقْ"
العراقُ الجميلُ لن يكون بالدم والمفخخات، بل بالإحتجاج السلمي والحوار والتسامح. وكذا تنحو قصيدته (.......) ص 17 ذات الإتجاه في الرشق الناعم المستغرق في الهدوء والعقلانية:
 
هذهِ المِئذنةْ؛ 
جسدٌ 
ناعِظٌ        (لا أعرفُ معني هذه الكلمة)
من عذاباتنا،    (جمع عذاب أعذبة، لكن الكتاب تداولوها حتي شاعت) 
يتوسلُ
للقبتين 
أو... 
.. الريحِ 
ــح ح 
أن تحضنَهْ"
 
وكأني بالصائغ يتوسلُ بالريح أن تحضن المئذنة وتُطفيء سخونتها مما عراها من أعذبة.... المئذنةُ هي الحياةُ المحفوفة بخطر الحرائق والإحتراب والخلاف. انّه يستقدمُ ريحَ العقل لتُعيدنا إلى التوافق والمحبة والسلام.
أمّا قصيدته الطويلة "أمينة..." ص 51 فهي ليست أمرأةً هام بها الصائغ. إنها... العراقُ أطيافاً أطيافاً. حارةً حارةً، اُمنيةً فاُمنية، هي كلّ ما يُحبّ وما يتمنى، ظلُّ أمان منشود يجري في دروب العراق مثلَ النسائم الرقراقة وخرير أنهاره:
"أمينةٌ.... ببهائها الأكثر دهشة ً من البحر.. بغنجها، المرأةُ التي ليلُها أرخبيلاتٌ ونُعاسٌ، تتركُ نجومَها علي جفوني وترحلُ.... / هي تطشُّ الوردَ والموسيقى على شرفات حياتي / .... أمينةٌ بخبلها تنحني على قميصي /... ماذا افعلُ لذراعيَّ / وهما يطوقانكِ / رغماً عني..". 
الصائغُ عاشق هائمٌ يطوف حول الوطن وفوقه، من أجله يُمارسُ وجْدَه بلا ضجّة ولا شعارات ولا دجلٍ.
في هذه القصيدة يتلاعبُ في شكل القصيدة حدَّ التماهي. ويبلغ ذروتها في ص 56.. فالحياةُ التي تتجسّد في هيئة أمينة مَجهلٌ يُحاصره من كلّ جهة، يكاد يُحطمُ عظامه، يتيه فيه، ويختنقُ. وعلى الرغم ممّا يحيطُ به من خطر، فبودّه لو يترسّب في قاعه ويكون شظية من خلائقه العجيبة. إلّا أن القاريء عابرُ سبيل فلا بدّ له من الخروج.. وقبلَ أن تسكتَ القصيدة ُ، تقولُ بأسي : "يا لحياتنا؛ أبوابٌ تُصطفقُ، وأصدقاءٌ يغيبون".. 
اذاً، أمينةُ هي مرقدُ وسائدنا، عيبُه الوحيد أن أصدقاءنا فيه يغيبون، الواحد بعد الآخر.
وفي قصيدة "غربة 4" يستغرقُ الصائغ في زعزعة بنية الشكل عبر تشظيّها وتكرار الكلمة: كم غصّصتنا/ وكم رغّبتنا / وكم شرّدتنا / وكم..../ مْ ، لكنه ترك أسئلته عن قصدٍ بلا علامة أستفهام.. فلا أحدَ يسمعُه ويُصغي اليه،، ربّما كان يتكلم مع نفسه أو يمزحُ معنا. ثمّ يقومُ بتكرار الحرف الأخير من الكلمة / الي أينَ تنأي ي ي / أفي كلّ يوم ٍ مٍ مٍ مٍ/ وكذا : العمرُ أقصرُ ممّا تُعاندُ د ُدُ دُ دُ/ أبخسُ ممّا تُكابدُ دُ دُ دُ دُ دُ / فهذا التشكيل أيضاً هو تحايلٌ علي الآخر الذي يُغمض اذنيه عن سماعه، فكأني بالصائغ يَطرقُ علي مسمعه ليوصله رسالته... 
أمّا قصيدتُه : نصوصٌ مشاكسة قليلاً، ص 177فهي تشاكسُنا بقوة وعنفوان وجرأة. فيها حدّة ٌوصراحة جارحة. لنسمعْ ما يقولُ: يالناطقُ، باسم الله/ لمَ حذف ألفَ الناطق؟ /......لتُرهبني / ثمة َ كلمة ٌ محذوفة عمداً، يستطيع القاريْ أن يضعها في الفراغ./ ربّي، لم يحتجْ سيفَك كي يُقنعني / الأفضل لم تحتجْ سيفَك. والا لن يستقيم المعني. وما أجملَ قولَه هنا:/ لم نرَ وجهَك، الا بالنصل وبالدم، وأنا اُبصره في الكلمة، في النغمة، في زرقة عينيها،.....واليم / وكذا : كيفَ رأينا الله بنسغ الشجرة، وتركناه، نِسيناه، لكي نتقاتلَ من أجل الثمرة / هنا ينزعُ الصائغ نزعة حلاجية، قشيرية، نِفَرية. يُعيدُهم الي أيامنا، ليُسهموا معنا في الإنشغال بالله صدقأ لا باطلاً، نُريقُ حول اسمه قرعَ الطبول، نُطيلُ في العويل. القصيدة ُبكلّ تفاصيلها دعوة ٌ الي تكريس العقل والوعي والتسامع، فالله ليس شعاراً نعلقه علي الجدران. هو فينا، في سلوكنا، في ضمائرنا. هذه اللوحةُ الشامخة التي رسمها الصائغ بحذقه الإبداعي تصلح أن تكون جدارية تُعلقُ في ساحات مدائننا. هي دعوةٌ الى الإنفتاح لا الي التحجّر، الي الإلتقاء والتلاحم برغم خلافنا واختلافنا. الى التواضع لا الى الجبروت والقمع وكتم الأنفاس. 
وفي المقطع الأخير / رسولة / كم من حرف ال "س" الداكن والباهت فيه ؟جاء سبعاً وثلاثين مرة. أجهلُ كنهَ اصطفاف هذه / السينات/ ربّتما يُريد منا أن نسكتَ ونتقبل كلّ شيء من دون احتجاج أو مناقشة. أواستعارَ شفتي أبكمَ منطوٍ علي الصمت، أوقامع ٍ يُملي علينا ارادته علي الرغم منا. وفي الديوان قصائدُ بحجم الوطن وأمانيه، فصعاليكُ حسن عجمي تُعيد بنا الي أيامَ فتوتنا ونزقنا وشططنا وعبثنا وجِدّنا وهزلنا وأصدقائنا، واسماء الأعلام الفنية التي أحببنا، ولا معني لبغدادِنا من دونها أيامئذ ٍ. هذه القصيدةُ تحتقنُ بخزين ِالذكريات التي لا تفني أبداً.....هي حياتنا التي ضاءتْ حيناً هناك، وضاعت في دروب الزمن..
نعم / واوُ/ الصائع استثناءٌ شعري خرج من جُبّة المعتاد والمستهلك، بلْ صفارةُ حَذَر أيقظتْ كسلنا المترهلَ وخجلنا المتبلدَ، ورمتنا الى سديم التراث نلتقطُ من أحجاره الثمينة ما ينفعنا وما يُغني حاضرنا، وتأخذنا أيضاً الي مديات ابداعية أبعد، نغترف من متونها عُدتنا الكتابية بما يُعزّزُ إيقاعَ منجزنا الأبداعي علي اصعدة الفنون كافة.. تري ما الذي ينطوي عليه هذا الـ" و " المكتنز لحماً وعقلاً، فلم يمنحنا الصائغ منه سوى هذا النذر اليسير؟ 
 
ــــــــــــــــــــــــــ
(*) صحيفة الزمان 2011/09/26
 
البحث Google Custom Search