أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
خطوات في الغربة

قراءة في ديوان الشاعر عدنان الصائغ
(2 – 2)

ياسين النصير
- هولندا -

يسعى الصائغ في كل قصائده – وهذا ما نلمس قربه إلى الذاكرة – إلى تأكيد البنية الحكائية فيها, فيولي متنها اهتماماً. ثمة تعامل مع الزمن الصباح – المساء – الليل, الظهيرة, وثمة تعامل مع الحالات: الانتظار الوحدة الفقدان, الغياب, - وهذه أزمنة نفسية – وعماد هذا المتن سردية شعرية تعكس وبوضوح قتامة الواقع النفسي. وكأن الشاعر في هذه الحكاية ينطلق من الوعي بالصور المتراكمة, ثمة تشابهات متكررة أولاها الشاعر اهتماماً, هي نتيجة للحرب وما تفرزه من تكرار الواحد, فقد أصبح الإعلام حرباً, والأدب حرباً, والحياة اليومية حرباً, وحتى الوفيات من خارج الشهداء نتيجة للحرب حتى لو كان المتوفي شيخاً. هذه البنية المتعددة للواحد تعطي مناخاً قصصياً وحكائياً متشابهاً. إلا أن الشاعر, وهذا ما يميز شاعريته لم يستسلم لمعطي واقعي مباشر لحال الموت, بل راح يبحث عن دلالات الموت في الروح وفي القصيدة مما أعطى للحكاية المنسابة, سردية شعرية ناهضة بخصوصية توحي أن تعاملاً عقلياً صارماً يقف وراء اختيار الحكاية والحدث واللفظ الشعري, وهذا ما جعله يتميز عن أقرانه من شعراء الثمانينات الذين اعتمدوا الاندماج الكلي بالحال, ولم يضعوا فواصل بينهم وبين قصائدهم إلى الحد الذي اقتربوا به إلى الواقع, مما وقع الكثير منهم بالتقليد, أو احتذاء المقولات, أو عكس ما يحدث بدرجة أقل.
بينما تتحول القصيدة عند عدنان إلى رفض للنزعة التقليدية, وتبتعد عن السطح المعاش للظاهرة, معتمداً على تقنية الترادف والتبادل بين محورين داخل النص – الأنثى/ الرجل, طريقة للتداخل بين الواقعي والمتخيل, أي البناء الفعلي مشفوعاً ببناء عاطفي.
وقارئ أشعاره يجدها بعيدة تماماً عن أهم تيارين يتقاسمان الحداثة الثالثة: تيار, الاحالة إلى الماضي والحالات الآفلة والمنزوية والخصوصية, وتيار, الانغمار الكلي بما هو يومي ومألوف وعادي. فعدنان شاعر الموضوع الواحد, الذي يفككه إلى أحداث صغيرة وبمجموعها يرسم لنا في كل ديوان تجربة كبيرة. ولذا لا ينتمي شعر عدنان إلى أية ايديولوجيا, إلا ايديولوجيا ادانة الحرب, والانهيار الشامل, وهذا يعني أن نصه يكمل ما ينقص هذه الايديولوجيا فقط, دونما احالته على أية ايديولوجيا سياسية أخرى

"عائداً
من غبار الحرب
بقلب مجرّح
وذراعين من طبول وذهب
حالماً بشفتي كليمنسترا,
العسليتين
اللتين كانتا في تلك اللحظة
تذوبان على شفتي عشيقها  إيجستوس
       ليلة, ليلة
عندما فتح الباب
رأى في دبق شفتيها
آلاف الجثث التي تركها في العراء
فتذكر
أنه نسي أن يترك جثته هناك"

النص الشعري لا يطابق الواقع, ولا يميله, وإنما يولد في الحال رؤية تتسع للقول المضاف, مما يجعل الشاعر يعتمد الواحد بدلاً من المتعدد, فالكثرة أحياناً, إن لم تكن – وهي كذلك – فراغاً, لأن عدنان لا يعتمد منظوراً ثقافياً – إعلامياً – وهذا ما جعله يكتب عن الحرب ومن داخلها دون أن يكون داعية لها أو لحالاتها – إنما يعتمد بنية مرجعية ووثائقية, وتاريخية تعمق الحال المعاصرة لأنه كان يرى بمنظور أعم من الفردية, أو الجماعية المنتمية لايديولوجيا – وهي أيضاً فردية – لانعدام التمايز بين أصوات ممثليها, فثمة بنى خفية تحكم تطور فاعلية الحرب وتحببها للناس – ما تزال هذه البنى معمول بها إلى اليوم – كان من نتيجتها أن أنتجت أدباً فجاً, والشعراء المعتبرون منهم, تحولوا إلى السرد, الرواية والنقد واليوميات. وهو أسلوب آخر للرفض الثقافي الممنهج.

"معادلة صعبة
أن توزع نفسك بين فتاتين
بين بلادين, من حرس وأناناس
بينهما, أنت ملتصق بالزجاجة
.......
معادلة مرّة
أن تظل كما أنت
ملقى على الرمل
ترسم أفقاً, وتمحوه
.......
معادلة صعبة
أن أبدل حُلماً بوهم
وأنثى.. بأخرى
ومنفى, بمنفى
وأسأل
أين الطريق؟."

تنتمي هذه القصيدة – أجاممنون – إلى "تكوينات" وفي التقديم الذي كتبه الشاعر سعدي يوسف, وجد فيها "تجلٍ لخطوة الحرية المنفتحة" وكان يقصد حرية الشاعر بعد أن حدق في الكابوس طويلاً.. هل تعني حرية الموضوع حرية للشاعر؟ إن مقارنة مثل هذه تحيلنا إلى معادلات صعبة, قد لا يكون الموضوع لوحده مسؤولاً عن تشخيص هذه الحرية, وهنا يبتدئ الشاعر خطوة أكثر صعوبة, فقد لا تكون القصائد الآتية مشبعة بالتحديق بعدما استعار لها التأمل, عندئذ سيكثر عدنان من التحديق في الحرية, حرية "الأنا" لا حرية الشكل.
وعندئذ سيعود ثانية ليكتب المتشابهات ولكن من موقع الحفر على أبواب الحرية بمعناها الواسع: المحتوى والشكل. لعل هذا ما تأمله دعوة سعدي يوسف لعدنان الصائغ, أي الاستمرار بالتحديق حتى ولو كنا في المنفى اختياراً.
إن قارئ قصائد ديوانه "تحت سماء غريبة" يكتشف أن الشاعر قد وقع تحت هيمنة معاني الألفاظ الحارة مثل الوطن, الدم, المطر, البلاد, المنفى, الحرب, القصيدة.. الخ. وهي كما يبدو ألفاظ مرحلة محددة, لعل تواريخ قصائده المتقاربة بين بغداد وعمان تفصح عن واحدية التجربة, مما يعني أن قاموسه الشعري يقع ضمن تأثير هذه الألفاظ فالشعر لا يقيس مرحلة, وإنما يقاس بالمرحلة خاصة إذا كانت مثل المرحلة التي مر العراق بها.
إلا أننا نلاحظ خاصة في القصائد القصار, أن الشاعر يستعير الألفاظ تلك كمسمى له, مما يعني توحداً بين أنا الشاعر واللفظ, وهذه طريقة جديدة في تحولات الرمز.

*"من يغسل للمطر ثيابه اللازوردية؟
إذا اتسخت بغبار المدينة."

أنا الشاعر/ المطر, معاً في مناخ المدينة كلاهما يهبط من موقع, الشاعر يأتيها نقى اللسان, والمطر ينزلها نقى المياه..
  
"حين يموت المطر
ستشيع جنازته الحقول".

*"أيها المطر – يا صديقي المغفل –
حذار من التسكع على أرصفة المدن المعلبة.."

فالشاعر يقف باستمرار أمام المرآة لا يرى إلا وحدته, وفي داخل هذه الوحدة ينمو الإحساس بالانتشار, بالكثرة

*"كلما تعانقت كلمتان
صرخ الشاعر – على الورقة –
آه, كم أنت وحيد أيها القلب."

*"كلما كتب رسالة
إلى الوطن
أعادها إليه ساعي البريد
لخطأ في العنوان".

لمطر الشعر, الوطن, ليست إلا أنا الشاعر إلا أن القارئ, يجد أحياناً ثمة مفارقة بين مناخ الألفاظ, والمناخ الشعري العام الذي يسود الديوان.. فالألفاظ استعيرت كلها من موقع الانتهاك – بما فيها أنا الشاعر – في حين أن المناخ العام للشعر ينشد النهوض. حيث نجد الشاعر يستنهض الحال النفسية ومثيولوجيا الحياة اليومية, واللغة التفاؤلية, وإن تجسيده للحال المأساوية لا يعني الانتماء إليها, أو الاكتفاء برصدها, وإنما هناك حس تفاؤلي يقدم على أنقاض الركام والانتهاك.

"النجوم التي يتأملها العابد, رذاذ ماء الوضوء
على سجادة الكون
النجوم
دموعنا المعلقة
– بالدبابيس –
في ياقة السماء  
ترى أين تختفي
عندما تفتحين نافذتك
في الصباح"

وتتعمق المفارقة أيضاً بالسخرية المرة والأليمة, وكأنها تقترب من النكتة.. لعل المناخ الشبابي للشاعر, ومعايشته الأحداث اليومية للحرب جعلته ينتقص مواقع ساخرة ليست بالعمق المطلوب لمثل هذا النوع من الشعر:

*"الجندي الذي غدا متنزهاً للمدينة
ماذا لو كان قد حلق ذقنه, ذلك الصباح".

في البعد الفني لتجربة هذه القصائد نجد الشاعر أكثر قلقاً فيما يخص الشكل, فهو لم يعتمد نمطاً محدداً من الكتابة, وهذا يعني أن الشكل يتأثر بحجم التجربة وكثافتها, فيروح الشاعر ملتقطاً أبعادها بحالات تتفاوت بنيتها, وهذه القصائد تؤكد مبدأ دلالة الشكل.
ثمة قصائد تجاور في شكلها بين المنطق العقلي شبه الرياضي, والمنطق العاطفي, وهي عندي الأكثر تدقيقاً في التماسك الداخلي, مثل قصائد "أفق, محاولة للنسيان, صورة جانبية, جنوح, أجاممنون, حبل الغسيل.. الخ" فالشاعر في هذا النمط من القصائد أكثر تأنياً وخبرة, ومراثيه لم يتسرب إليها لفظ غريب, ولا صورة نشاز, بل أن السياق العام يتولد من خلال توافق داخلي بين المفردات.. فتشعر أن حجم الشعر فيها أكثر.
وثمة قصائد تتعامل مع حال مفردة, معزولة, فرزتها الحرب, وعمقها الحس المأساوي بالفاجعة إلى الحد الذي أصبحت فيها مقولات يمكن تعميمها, بل ودراستها, حال يتداخل اليومي بالإنساني العام ليؤلف تركيبة شبه شعبية مألوفة منها قصائد "تحت سماء غريبة, بيان أول للحرب, مرثية مبكرة, خسارات, ارتباك.. والكثير من القصائد القصار..
وثمة قصائد يتداخل فيها حس ما خفى بالمثيولوجيا, وحس ما بالفاجعة بحيث يطغى الزمن الخارجي على مفرداتها, مثل قصائد, شاعر, طلقة, تضيق البلاد, ودبابيس.. الخ.
وثمة قصائد يتسرب إليها الكوميدي الناجع, معتمداً السخرية المبطنة أسلوباً للردية, قصيدة "في حديقة الجندي المجهول" وطلقة..الخ.
وهناك قصائد ذاتية صرف, ذات نهج ستيني, توحي بالغربة والكفاية اللغوية, تقترب من اليومي, مثل قصائد ثمالة, وغربة, والكثير من القصائد القصار. أما على مستوى دلالة المعنى, فنجد الديوان يجمع بين نمطين من المعنى, قصائد غنائية شبه طويلة, وقصائد غنائية قصيرة.. وهذه القصائد الأخيرة ليست قصائد الجملة, كما يكتبها عدنان أو سواه, وإنما هي قصائد طوال جرى تكثيفها, وعندي أن ثمة فهم خاص لمثل هذا النمط لدى عدنان, بحيث أصبح نمط القصيدة الغربة, أو القصيدة الجملة, هنا أشبه بأقصوصة, أي أن مبدأ الحكاية ما يزال فاعلاً في النص. وقصائد الجملة, تبتعد عن التكثيف المقصود والاختزال في المعنى والمفردات, وتعمد إلى اختيار الألفاظ الدالة المكتفية بذاتها كما لو كانت لا تحيل إلى مفردة أو صورة أخرى.. لعل قصيدة "ثمالة" أفضل نموذج على ذلك.
وفي النماذج التي أدرجها ضمن "تكوينات" وجدت أنه يميل إلى تقطيع جسد القصيدة, ومن ثم يوزعه إلى مقاطع.. قصيدة "تنويعات" و "قصائد المطر" و "قصائد البحر".. الخ, لعلها تنويعات أكثرهن استقراراً لإحساس كل مقطع منها بالفرادة .
وبعد.. في جعبة عدنان الصائغ مشاريع ومشاريع, لعل ميله أخيراً إلى الدراما, يعد أهم إنجاز شعري له.. فهو يجيد توسيع اللحظة الشعرية المشحونة بالتأويل والتأمل – شاهدت له عرضاً مسرحياً حول المسافة التي تستغرقها طلقة قناص من بندقيته إلى رأس الجندي".. الانثيالات والهذيانات كانت للجندي وهو يتأمل طريق الطلقة إليه.. بمثل هذه الكثافة الموسعة, يعمل الصائغ مع الحداثة.


(*) صحيفة "الوفاق" – لندن - ع355 في 22 تموز 1999 ص ثقافة
 
البحث Google Custom Search