أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
رحلة في أجواء عدنان الصائغ الشعرية

بعد تقديمه لنتاج الشاعر خزعل الماجدي الشعري، يقدم علي عبد الأمير قراءة جديدة لنتاج الشاعر عدنان الصائغ، انطلاقاً من ديوانه الصادر حديثاً في بغداد بعنوان "العصافير لا تحب الرصاص"..
السفر على متن نسمة

علي عبد الأمير
بغداد

انبرى الشاعر "عدنان الصائغ" لتأكيد بطلان شبه نظرة نقدية عن سمة أساسية للجيل الثالث في حركة الشعر العراقي المعاصر، تلك التي أكدت تفوق قوة التنظير عند الشعراء وضعف النماذج المنجزة.. فمضى في إضاءة تلك الجوانب من المشهد الذي شكله ذاتيا (ظهوره المسرحي) على حد تعبير الناقد حاتم الصكر، وظهر منكباً على اتمام مساره الشعري دون الالتفات، أو التوقف بعض الشيء لأخذ نفساً عميقاً (وقفة تأني)، فهو يجد في وفرته الشعرية كل بيانه، وكل قوته التنظيرية، بل أنه لا يريد لنفسه هذه المهمة بالمرة، أنه يبدأ بالعفوية والبساطة (الشعر مرفأ أخضر حيث الأمل والشواطئ البعيدة)، أنه كمن يرحل على متن نسمة، لا يخجل من رومانسيته ولوعته يرفعها شاهد إثبات بوجه كل خرابات العالم!، عدنان الصائغ، شاعر لا يتساءل، وسبق لي أن قدمت عنه قراءة حملت عنوان "قصائد تتأمل قليلاً" وتأمله القليل، يأتي من رؤيته للمهمة الشعرية، فهي استرقاق الفجيعة ورفعها إلى مستوى الحياتي، فمدارك الشاعر يومية حد النخاع، واضطراباته هي نتاج علاقة مأزومة مع وقائع لا تنفك تديم مأزقها مع روحانية مجردة يبتهل إليها الشاعر، لذا فهو في حالة اقتناع كامل بصعوبة ادراجه ضمن منظومة علائق يستقبلها بالفزع:
"فهذا الزمن الآتي... لا يأتي – قلْ عني متشائم – إلاّ بشجون أخرى"
من قصيدة (تداعيات رجل في ليلة 9 آب 1983).
ويستجير "الصائغ" بالفرات وجسر الكوفة "أغنيات على جسر الكوفة" مجموعته الشعرية الثانية، وهنا إشكالية لا بد من إدراكٍ كنهها جيداً، كمدخل لوعي تجربة الشاعر، فهو دائماً لصيق الذاكرة يستحضر كل عوالمها، إذن هناك (ذاكرة)، لا (مخيلة) والفارق بديهي، هنا في الذاكرة استعادةٍ، والمخيلة خلق وافتراض بنى. إنّه يعود للذاكرة تحسباً من الايقاعات السريعة والطارئة لزمن قد لا يدرك منه وثوق الرؤى وتداخل السبل بشكل قد يقوده إلى معضلة الاغتراب، غير أنه لم يزل يرى في طفولة ظلت تعتمر في روحه (الشاعر هو الإنسان الوحيد الذي تردعه الطفولة)، خير ما ينازل به اضطراب أيامه بل أنها نبعه الصافي.
والشاعر لا تمضي قصائده في خط تصاعدي، بناؤها يكاد يرتبك بين انموذج وآخر وهاك مثلاً:
"فالغابة الآن... مطفاة/ والبنادق محشوة/ في انتظارك..." "من يمنحني الليلة... / أقلاماً، أشواقاً، أوراقاً / كي أصبح شاعر..."
(من مجموعة – "انتظريني...").
قدم "عدنان الصائغ" أنضج نماذج في القصيدة اليومية، عبر ما توسمه من لمسات في حياة المقاتلين وما توضحت به من انفعال صادق دون إطناب، ونمت ببساطة وما سقطت في فجاجة الكلام،
إن ديوان الشاعر الأول "انتظريني تحت نصب الحرية"، ظل يحمل قصدية اختيار الشاعر لنمطه في الأداء، وتراوحت الأساليب بين سحر التجربة الأولى، والكشف الهادئ للأشياء، غير أن تعميق تلك التجربة وتجوال الشاعر في منافي الروح، ومحاولته لاقامة التوازن ما بين السكون وذلك الاضطراب الشامل في مكنونات الوعي ستقوده بالتأكيد لنزع هذا الرداء (الناضح الوضوح)... وفي قصائده التالية ما ينبيء عن عمق بدأت الموجة تستقر إليه وبدأ الشعر عنده يتنازل عن سهولة تقترب من سبل (تقريرية).
"عدنان الصائغ" شاعر (مكان) نموذجي، يجد فيه موضوعاً وحواراً وطقساً أننا نتحسس مسرحاً للأحداث يمسك بشاعريته ويصعّدها أحياناً، ثمة عواطف وفيرة تنهمر على ضفاف الفرات، أغنيات الطفولة على جسر الكوفة، الأزقة، شوارع القضاء القديم، الهجرة العسيرة للعاصمة، حيث (المكتبة) كطقس فكري يجد فيه الشاعر ما يشبه الخلاص من أزمته اليومية. مع فيض انكساراته... وفي ذلك لا بأس أن نشير لتلك الشكوى السهلة من الجوع، ولا شاعرية (المطاعم) التي كانت في القصائد كثيرة الحضور، كما أن (الفنادق) أخذت دورها الكامل في تجسيد الغربة... موضوعاً وفكرة...
إن الاستدلال بالمكان، لن يكون فيما عرضه علينا الشاعر، من مسميات ومانيفاكتورات بدائية (يضيق الشاعر ذرعاً بنتاجات الحضارة) ويرى فيها: (سيطرة طابع الآلية في السلوك وذلك خلق رغبة في التحرر منه عن طريق الحلم والروح والطبيعة)، وعلاقة المكان في العمل الإبداعي عموماً غدت متشابكة بدرجة توفرت عليها دراسات وفيرة، أصبحت هي ذاتها نمطاً في الكتابة الإبداعية، ومن دلالات المكان المهمة في شعر "الصائغ" ما تحق له في قصيدة "أحلام زرقاء.. في ظهيرة قائظة": "بمحاذاة الجدران المتآكلة الالوان / أسير وحيداً../ أتفيأ هذا الظل المتعرج، منعرجاً/ لشوارع دون ظلال/ وشوارع مغلقة/ وشوارع لا تؤوي الغرباء"
(من مجموعة "أغنيات على جسر الكوفة").
والمكان هنا مدينة كركوك ابتكر دلالاته، تدخل في اختيار المفردة، والصمت كحالة شعورية، في الظهيرة القائظة تجلى في ذلك الانغماس الحسي للشاعر وعنايته في الامساك بتلك الجذوة التي أحياها المكان... ومن تلك المداخلة الحية مع المكان إلى هذه (الوصفية)، التي ظهر بها الشاعر كاستجابة سريعة خلت من عمق روحي كالتي وفرتها لنا الدلالة الأولى: "هلمنَّ صبيات القرية/ واحملنَّ جرار الوجد إلى بيت الشاعر، هذا المنفي/ وحيداً في – طاسلوجة – مغترباً/ يتغنى بضفائر محبوبته "ميم" وجسر الكوفة..." وهنا المكان (قرية في شمال العراق) حضر وفي غير قصيدة بما يؤثث طقسها، مفرداتها، محدودية خيالاتها مقابل شحنة عاطفة شجية.
قاموس الشاعر اللغوي، بسيط، وهذه الخلاصة فيها من وعي الشاعر لمهمته، الشيء الكثير... فهو ليس عن جهل يختط ذلك، بل هو لا يتردد عن نعت مجايليه من (الحداثيين) بصورة ساخرة:
"وأبصر أشعارهم ترتدي بنطلوناً من الجنز طرز بالبنيوية...!" وبساطة الاشتقاق اللغوي تغدو لعبة لم يتمكن منها الشاعر، فانقلبت عليه بما جعلت التوهج الحسي للصورة الشعرية يخفت في أحيان كثيرة فمدخل كهذا:
"لأن المدنينة قد أقفرت/ والمصابيح أنعسها البرد" استباحته السهولة في المفردة وشتت في المشاعر، ركيزتها وقربتها من تفاصيل وجدانية رثائية لا تنتهي: (لا امرأة سوف تؤويك/ لا شقة/ غير بيت صغير... بإحدى القصائد/ تسكنه.../ والجنون"
(المقطعان من قصيدة "الغريب" في مجموعة "أغنيات").
إن الشاعر عموماً يقتل حيادية النص الشعري في لغته، ولا يكون عند الانجاز عبر مهارة توليدية لغوية، بل في جملة احالات للتعبير عن معنى محدد (أزمة إنسانية) وهي في تلك تجهد نفسها، فلا تدرك المحاور البنائية الممكن اقامتها في اللغة...
"وفجر جديد بوسع مجاعات عمرك"، هكذا وبصياغة فيها اختلاف عن اكثر من مستوى، يجئ الشاعر في ديوانه الثالث "العصافير لا تحب الرصاص" بما يشبه تطبيقا لتراكم الخبرة. على الرغم من كون الموضوع ذاته تناوله الشاعر في أكثر من موضع وحالة شعورية، لكن صيغة الاداء اختلفت فتوهجت الرؤيا واغتنت بالمعاني... أن شيئاً من وعي التجربة يقدم عليه "عدنان الصائغ" ويحتسب لشأنه، غير أن هذا لا يعني أن تجربته عموماً صارت تحتكم لذلك التأني، أبداً فكان عليه أن يشذب الكثير من مجموعته مجموعته الثانية، أبداً فكان عليه أن يشذب الكثير من مجموعته الثانية حيث احتوت على نماذج تعد نكوصاً لتجربته، ولا اعتقد أنه أمر بالغ الشأن أن يغدوا لشاعر شاب أكثر من مجموعة شعرية في عام واحد (الثانية والثالثة صدرتا في عام 1986) كما أنني أحسب أن الشاعر يبدو مخلصاً حتى للسطور والأبيات البسيطة التي يكتبها ولا يتردد في ادخالها ضمن مجموعة شعرية.


(*) مجلة "اليوم السابع"  - باريس – 18 أيار مايو 1987
 
البحث Google Custom Search