أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
تحول الفاعلية

قراءة في قصيدة "وحدة" لعدنان الصائغ

ياسين النصير

1 - دائماً...
2 - عند كشك المحطاتِ
3 - أبتاع تذكرتين
4 - دائماً، كنت أرنو لمقعدها الفارغِ
5 - للحكايا التي كنت أعدّدتُها للطريق الطويلْ
6 - دائماً، كنتُ أجلس ملتصقاً قربَ نافذةٍ
7 - في القطار المسافر، وحدي
8 - وأتركُ فوق رصيف المحطة...
9 - ... تذكرة ذابلة!

- 1 -

في العراق نعيش الإبداعات المتكررة، شاعر ما يكتشف بقعة خلاقة لأحلامه، فيوطنها زنوجاً غريبين فيفسد مناخها بالبذاءات، وشاعر آخر يكتشف بقعته الخلاقة فيوطنها أوربيين طارئين فيفسدون تجربتها ويوطنها أقوالاً في اللامعقول، وشاعر آخر يكتشف بقعته الخلاقة فيسف بها، وينحت من صخرها تراباً، ويذوّب في مياهها أصص البلاغة، وألوان قوس قزح، فيكتب الديوان والديوانين ثم لا يكتب إلاّ ما كتبه في قصيدة أو اثنتين.
عدنان الصائغ، ليس من هؤلاء جميعاً، شاعر لم يكتشف بقعته الخلاقة بعد، وأن كتب دواوين ثلاثة، أنه ما يزال يبحث وهذه ميزة له، شاعر أنتج عشرات القصائد، ولكنه وما يزال لم يشب عن طوق الممارسة الفاعلة، والفلك الصغير، لعل يوميته، ومألوفية حالاته جعلت الآخرين يُنضجون له تجربة لم تنضج بعد عنده، وجعلوه شاعرا أكبر من شاعريته، رغم أن شاعريته كبيرة قياساً لآخرين وليس كبيرة قياساً له، مازال يختمر الرعود، ومازال يوحي بالمطر المدرار، وما تزال القصيدة عنده فتاة بعينين زرقاوين لم تقل له بعد كلمة حب حقيقة.

- 2 -

أسوق هذه المقدمة للقول اللاحق في شاعرية نحبها جميعاً وتقربنا من منطق المألوف واليومي الصعب الاداء، أنه الشاعر الذي وقف أمامنا ليقول لنا عبر بضع صور، أن القصيدة لا تبدأ بالأحزان، ولا بالعواطف المجانية، ولا بالتأويلات، ولا بالندب على ما فات، بل القول فيها مرهون بالحال المنبثقة من التجربة، وبالصور التي تجسد أفعالها بيسر، شاعر لغته المنسابة مألوفة، وصوره المجسدة معبرة عن قلق شاعر يريد القول بأيسر الكلمات من حالات كبيرة، لكنه وهو يفعل ذلك تنساب من بين أنامله المياه، فلا يدري أقاصد هو لذلك أم أنها انسابت بدون دراية. لعلنا نضع أصبعنا على أولى المهمات الصعبة التي يعايش شاعر اليومي والمألوف فيها ظاهرة معقدة، تلك هي البناء الشعبي للصور، والحالات اليسيرة للتجسيد، وكأننا أمام شاعر لا يقول بالكلمة  الكلمة الكفاية، بل يقول بالكلمة ما تراه مألوفاً لعواطفنا السهلة.
هي إذن إحدى محن الحداثة المعتمدة على التجارب الذاتية، - وهي أصيلة بل وأكثر أصالة من تلك التجارب التي تعتمد على القراءات للثقافة الأجنبية – محنة الحداثة لدى الشاعر الحديث، تكمن في أدواته البسيطة التي يريد بها إنهاض القيم الكبيرة. إذن لا عيب أن يعتمد الشاعر تجاربه الذاتية ويقدمها بإطار الحداثة، لكن العيب أن يسقط هذه التجارب في العادي من الصور والعادي من المجاز، حتى كأننا لم نقرأ إلاّ لقطات عابرة يمكن تكرارها والنسج على منوالها في حين أن معايشة اليومي والمألوف تحول اللغة الشعرية من غنائية ذاتية إلى غنائية درامية، بمعنى أن الشاعر في هذا الحقل من التجارب ينهض مألوف الحياة النثري فيجعل منه شعراً حديثاً، والفواصل المعرفية بين ماهو نثري وماهو شعري من المألوف لاترى إلاّ لعين باصرة ومدربة.

- 3 -

في هذه القصيدة الغنائية، لا تجد عمقاً معرفياً كبيراً فيها إذا ما أخذناها بمعيار نقدي عادي، أي معايشة أجوائها المعلنة، وهو الإنتظار والفراغ الذي يحيط بهذا الانتظار، وقد استهلك شعراء الخمسينات هذا النمط من القصائد والحالات، وعُدّ في ذلك الوقت تجاوزا على مألوف الشعر ولكنه في مرحلة لاحقة لا يصبح مثل هذا كذلك.
بالنسبة لرؤيتنا لمثل هذا الشعر لا نحتكم إلاّ للبنية العميقة – لا كما يعرفها جومسكي – في القصيدة، ونعني هنا بالبنية العميقة المكونات الأولى للقصيدة، ومكوناتها الأساس هنا، هي "القطار الفارغ: فالمكان الفارغ يفرض أخلاقياته، ومعارفه، وعاداته، ولغته، ويولد كذلك نحوه وتراكيب جمله.
وسنجد أنفسنا إن نحن فهمنا العلاقة الجدلية بين اللغة والمكان أمام مستويات عديدة لبنية الجملة الشعرية. ونأخذ هذا البيت من القصيدة التي نحن بصدد دراستها.
"دائماً كنتُ أرنو لمقعدها الفارغ"
فالفاعلية في هذا البيت تتحول من الأنا "كنتُ أرنو" إلى (الفراغ). فالفراغ هو الذي ولد فعل أرنو، وهو الذي جعل البطل كائناً في الديمومة (دائماً) وهو الذي صير هذه الكلمات شعراً – الحال النفسية للشخصية – وتتحرك هذه الفاعلية تبعاً لطبيعة المكان، فلو كانت الحال في باص مصلحة، أو في سيارة للأجرة، أو في حافلة عمومية، أو في لوري، أو في قطار للألعاب، أو في شاحنة مسافرة إلى مدينة بعيدة.. الخ. سنجد أن المكان الفارغ في كل موقع يفرض فاعلية غيرها الفاعلية التي يفرضها في الموقع الآخر، الشعرية هنا، هي الإحالات المسترة لفاعليه المكان وقوتها وهيمنتها، وبالتالي فكل كلمة من كلمات تلك الجملة تكتسب معنى اضافياً من الجهة الثانية، وبخصوصية الحركة التي يولدها المكان من مشاعر وعواطف في نفس الشخص الفاعل ثالثاً.
والأمثلة كثيرة: لقد كتب الشاعر حسين مردان مقالات عن المدن، فكان فيها فاعلاً من خلال فاعليات المدن فيه، وكتب محمد خضير قصة (الحجاج) فكان المكان الموصل إلى الحج، فاعلا في الحجاج قبل أن يكون الفاعل هو الوصول إلى بيت الله الحرام. وكتب غسان كنفاني عن بطل فلسطيني يهاجر إلى الكويت، فاتخذ (تانكر) الشاحنة مأوى له، فمات فيه فكان المكان المحاصر هو الفاعل في البطولة، فنقل إلينا الحصار الاجتماعي للشعب الفلسطيني – مكانا – إلى الحصار الجزئي للبطل الفلسطيني.. للمكان بلاغته الجديدة.
في هذه القصيدة أو سواها يفتح المكان المهيمن، المكان البؤرة، أفقاً أوسع لفهم دلالة الصور الشعرية، وكي تتوضح هذه الأبعاد الجديدة للصورة الشعرية، علينا تأكيدها في مقال مستقل آخر.

- 4 -
المكان البؤرة

لا تعطيك القصيدة إلاّ انطباعاً واحداً، هو هيمنة الفراغ على كل مفردات وصور القصيدة، والفراغ – مكاناً – يؤكد ابتداءً من عنوان القصيدة "وحدة" وحتى آخر بيت فيها "تذكرة ذابلة" كما يؤكد دلالياً من خلال جدل ثنائية الداخل / الخارج، فداخل عربة القطار نجد غياب الآخر، وخارج عربة القطار نجد غياب الزمن. فحركة القطار من نقطة ما إلى أخرى هي توسيع دائرة الفراغ وتعنى كذلك ما أن يحل القطار في محطة حتى يغادرها ليبقى الفراغ مهيمنا على الماضي، لذلك استهل الشاعر قصيدته بـ (دائماً) وهي لفظة زمنية يدلك بها على فراغ الحال المستمر.
وتتأكد سلطة الفراغ الداخلي والخارجي في البيتين الرابع والخامس وهما بيتا المكان البؤرة، في الصورتين (المقعد الفارغ – داخل، والطريق الطويل – خارج) وتتجمع حول هذين الفراغين المشغولين بالحركة الزمنية (دائماً)، مجموعة من الأمكنة المشبعة بالفراغ، (كشك المحطات، وهو المكان الذي يمتلئ فراغاً خارج حركة القطارات. المقعد الفارغ – وهو الآخر الغائب – النافذة، وهي هنا الممر إلى الفراغ الخارجي من خلال فراغ الداخل – القطار المسافر، هو الآخر ممتلئ بالفراغات الدائمة – السفر – رصيف المحطة – هو الآخر المكان الذي لا يشغل بالحركة إلاّ بحضور القطار لدقائق.. وجود الناس فيه تأكيد لسلطة الانتظار..
وبفرض المكان المهيمن – الفراغ – سلطته الكاملة على الحال والصفات فيؤكد حضورها حضوره (دائماً – ملتصقاً – وحدي – ذابلة). وإذْ تأتي ملحقة، لكنها تأخذ خصائص الموصوف، والصفات في أغلب الحالات الشعرية لا تؤكد حال ماسادته، إلاّ متى ما كانت الحال فردية، بمعنى إن درايتها غنائية، ومجالها المحدود لا يفسح طريقاً واسعاً للجماعة كي تشترك في المعاناة. وهذا ما جعل أفعال القصيدة كلها مؤكدة لفراغ "الأنا" فنقرأ فيها أفعالا مثل (أبتاع – أرنو – أعددت – أجلس – أترك) وكلها مضارعة، ذاتية الدائرة، مفردة الإيقاع، وحالها لا تجسد إلاّ الحاضر القلق، وأفعال هذه دائرتها قد لا تعطي مناخاً شعرياً ثرياً، وهو كذلك فالقصيدة ليست إلاّ لقطة ماضية مستمرة في الحاضرة لذلك جاء الحال، دائماً تكراراً زمنياً دلل الشاعر فيه على تناسل الحدث وقدمه. واستهلال هذه مدياته أكد أن الشاعر لم يكتب عن لحظة عابرة. ولا عن حال مصادفة سريعة الحضور وإنما عن تكوين نفسي غائر في الأعماق، وعن بنية مركبة من المشاعر والعواطف، وأكد الشاعر ديمومة هذه الحال (دائماً) بسلطة أخرى هي أيضاً من مشتقات الفراغ تلك هي (الحكايا). والحكايا لفظة ودلالة تعني تكراراً في الزمنية ورتابة في الموضوع، ودوراناً في فلك الحضور الغياب، والماضي / الحاضر. لأن الحكاية لا تجد ثقلها الزمني إلاّ من خلال التصاقها أثناء فعل الحكي بالحاضر، أي تداخل (الدائماً) في صياغة اللحظة المحتدة من الماضي إلى الحاضر، ولما كان الآخر غائباً، فالحكايا لا تروي. إن الذي تتوجه إليه الحكايا غائب، ومكانه فارغ، أي تجميد الماضي في الحاضر، وتصبح المسافة بين فعل الحكاية المؤجلة، والمقعد الفارغ، مليئة بالفراغ الزمني أي – فعل الحكي – المؤجلة – هنا نجد تداخلا بين فعل الغياب / الحضور فالبطل حاضر ولكنه غائب، لأن الفراغ قد هيمن حتى على حضوره وهذا ما تؤكده أفعال القصيدة كلها (ابتاع – أرنو – أجلس – أترك..) أفعال لا تؤكد قوة ( الحضور، بل تؤكد قوة الغياب، ولنلاحظ صورة (التذكرة الذابلة) والتذكرة المشغولة. فالمشغولة التي هي (الأنا) لا تحضر كذلك، في القصيدة، بينما التذكرة الذابلة، يفرد لها الشاعر صورة مستقلة، ونلاحظ كذلك النقاط الست التي أعقب ثلاث منها البيت الثامن، وتقدمت الثلاث الأخرى البيت التاسع، وكأنها تعبر عن المسافة الفارغة بين فعل (أترك، والصفة – الذبول) وكلاهما متوحدان في الفراغ الكلي المهيمن على القصيدة.
الفراغ مكانا، هو احتواء للخلاء، هو تحديد للمرئي، وللمعيش ما خلفه لا يمكن إلاّ العدم وما فيه لا تكمن إلاّ الحياة، هو المسافة بين الشيء والشيء، وهو الدوران حول الأشياء، ضغوطه المكانية أقوى بكثير من ضغوط الأشياء، لا يحده حد، ولا يسبر غوره الشىء، هو المحيط الذي لا يحدد بخطوط. هو المسافات التي لا تسمى بأسماء، كيانه العضوي هو التراكم الزمني على الحالات المعاشة، لذلك يتحول الفراغ من الخارج إلى الداخل ومن المادي إلى الروحي، ما علانا فارغ، وما تحتنا فراغ، وأما انحلال الإنسان، حياة أو موتا في الفراغ ليس إلاّ تاكيد لسلطته القوية.
في القصيدة استعارة ضمنية له، هو الفراغ الذي جسده مكان مشغول به، والشاعر الذي أحس بقوة الفراغ أحس بأشياء أخرى غائبة فيه، وعبثاً يمتلئ الفراغ بشخص ما أو بفكره ما أو بتكوين ما، لأن الفراغ في مثل هذه الحال لا يمتلئ ولا يشغل، ولا يشخص إلاّ بالفراغ نفسه في مرات عديدة يشغلني الفراغ فراغ الأفق، فارغ السماء، فراغ السطوح، فراغ الأفرشة البيض، فراغ اللغة من معنى، فراغ المادة نفسها، وأحيانا أحيل نفسي إلى فراغ كوني أشمل، فأجد الحياة فيه، في تلك الأصقاع الفارغة الهائلة، المتشكلة من أشياء لا تعرفها بعد، وأن مددنا إليها أسباب قوتنا قهرتنا، سلطة الفراغ. السلطة نهائية، قوية، وعبثا نفترض لها حدوداً، ومعارف، وعبثا نشخص فيها حالة أو حالات، بل هي من القوة ما تمد وعينا بتصورات كبيرة عن الأشياء المحيطة بنا.
تصوروا لو أن الشيء الذي أمامنا الآن يمتد ويمتد بحيث يصبح لا حدود له لألغى المساحات التي بيننا وبين العالم، معنى هذا أن الفراغ يصنع أحياناً من خلال تحديدنا لا مكانتنا بالعمل، بالوجود.
عدم سارتر، ليس فراغاً، وجحيم دانتي ليس فراغاً وآخرة أبي العلاء ليس فراغاً، الفراغ الأسود الذي شخصه هؤلاء، هو امتلاء الحياة بما هو مناقض لطبيعة الفراغ ذاته.
في الشعر لم يدخل الفراغ الأخير الذاكرة، والذاكرة المرتبطة بحدث، أو بموقف، أو بعاطفة، الفراغ الذي نشغله نحن كائن في أعماقنا قبل أن يكون في المحيط الذي نشغله أو الحيز الذي نملاً جوانبه. الفراغ المشغول، معمول في حواسنا، وليس في أحاسيسنا الخفية المختبئة وراء الكلمات.

- 5 -
القصيدة الملغاة

يكتب الشاعر القصيدة عندما تكون هناك حاجة ما لكتابتها والحاجة التي نعنيها هنا، هي سيرورة الكلمات تشكيلاً لكيان مادي عضوي هو القصيدة، وفي داخل هذا التشكيل تتراكب بقية الصور، وتخلف نسغها ولونها، ولغتها، وبنيتها، لذا فما يلقى من القصيدة، ليس الفكر المناقض لفكرة القصيدة، ولا نثر الحال التي ولدت حاجتها، وإنما ما يلقى بالقصيدة هو نفايات العالم التي لم تستطع التكوين، واعتقاداً مني أن العالم ما خلق هكذا إلاّ وألفي ما يعادله مئات المرات من النفايات التي لم تأتلف في سيرورة ما.
يلغي عدنان الصائغ فكرة اللقاء، فلو تم اللقاء لما أحسسنا بقيمه الفراغ. فالامتلاء نهاية للحاجات الباحثة عن قرينها، والعلة الفلسفية لمثل هذه الحال لا تكمن في التآلف والانسجام فالشوق يسكن باللقاء وجدل الحياة يلغى عندما تتصالح المتناقضات، ولذلك فالشعر شأنه شأن الفلسفة، يخلق أسئلته من الواقع، ثم يرتفع بها إلى مصاف التجريد ثم يطبقها ثانية على الواقع، القصيدة الناجحة، هي تساؤل دائم، وشك مستديم، وقلق لم يألفه العادي، لو كان عدنان الصائغ غير شاعر لوجدنا نهايات منطقية للحدث، ولأصبحت القصيدة بدلا من "وحدة" إلى "امتلاء" ولأصبحت التذكرتان مشغولتين، ليس ثمة مقعد فارغ ولا نافذة ولحكى كل واحد منهما الحكايات المؤجلة.. القصيدة لا تكتب إلاّ على أنقاض عالم منهار، لتبني هي العالم الجديد، ولكن بحجارة الروح المتألق.


(*) نشرت في صحيفة الجمهورية – بغداد - 1986
 
البحث Google Custom Search