أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
ماذا لو عدت الى وطني ؟!

عبد الامير الخطيب
هلسنكي - فنلنده

في الخامس من آب هذا العام، وصلت سيارتنا التي تسمى هذه الايام بهبهان على مشارف مدينة النجف، بعد رحلة هادئة جميله سمعنا خلالها " قسرا" باسم الكربلائي في لطمياته الحداثويه التي ناقشت السائق عن تجديد هذا الرجل للطمية الحسينيه وكيف ان العزاء الحسيني بحاجة الى الخروج من اللطمية التقليديه.

كانت حواراتنا تدور بين الحين والاخر عن اخر متطوارت التخلف التي احدثها نظام البعث البائد، كنت امزح معه كثيرا عن اساليب العراقيين في تطوير التخلف وابتكار وسائل ومصطلحات، لايستطيع العقل البشري ان يتصورها مثل الحواسم التي تعني المسروقات، فكان آخر ما توصل اليه العقل السلبي هو سرقة اسلاك الكهرباء وبيعها في سوق الخردة.
كنت امزح معه و كلانا لايدري ما ينتظره في النجف ذلك اليوم، قلت له وكان مزاحي على ما بدا ثقيل بعض الشئ، اخي ان بيننا وبين التخلف 500 سنه، أي اننا لو عملنا من الان كي نكون متخلفين فاننا سنصبح متخلفين بعد 500 سنه . كان السائق رجل وطني دافع عن مشاعره وعن ما يختزن من حب الى العراق باقصى ما استطاع، الحق اني كنت اعني هذا لاني سمعت ان اغلب العراقيين فقدوا هذا الحس.

الشرطه العراقية اوقفتنا على مشارف النجف، مدينتى التي ولدت فيها وتعلمت وعملت لها وقضيت معظم حياتي "الثقافية" فيها، مديتني التي علمتني الحب و الكراهيه، التي فارقتها منذ 18 سنه، التي كنت انتظر منها الكثير، التي توقعت ان تستقبلني وتفتح ذراعيها قائلة اهلا ولدي، التي تصورت انها ستعتب على لاني غبت عنها طيلة السنين. لم امن اتوقع ما يحدث لمدينتي في اللحظة التي دخلت فيه او اصبحت على مشارفها.

عيارات ناريه اطلقها الشرطة في الهواء كي يوقفوا سيارتنا التي كان من المفروض ان ندخل بها النجف، صباح يوم 5 آب 2004، بدأت حرب ضروس يبن مليشيا جيش المهدي وبين القوات المحتلة للعراق، صرخ احد الشرطة قال : ارجعوا من حيث اتيتم لقد احرقها مقتدى، النجف تحترق لا احد يستطيع ان يدخل الان، ولكن الى اين نرجع، هل سنأخذ فندقا في كربلاء ام نذهب الى بغداد ام ماذا نفعل؟

سأل سائق السيارة احد اصدقائه الشرطه عن الطرق الريفية وعن امكانية الدخول الى النجف خفية، اجاب الشرطي الصديق، نعم اذهبوا على الطريق الريفي وستدخلون الكوفة ومن ثم ستستطيعون الدخول الى النجف، فعلا ذهبنا وبعد رحلة متعبة ومريبة وصلنا الى بيت اختي الكائن في حي الغدير وهو احد الاحياء البعيدة عن مركز المدينة القدية التي دار فيها القتال.

ثلاثة ايام لم نستطع الخروج من البيت، حتى اعلنت الهدنة الؤقتة بين جيش المهدي والامريكان، خرجنا الى المدينة، شاهدت بعض من اصدقائي بكيت كثيرا على ما اصاب النجف من دمار قليل في حينها، والحق اني اصبت بالذهول، لم اصدق ما اشاهد، ما اسمع ما يحدث حولي، هل اني في حلم ام ان حظي العاثر هو الذي جلبني يو 5 آب الى النجف بالذات، واسئلة كثيرة لم استطع ان اكّون ولو صورة واحدة عن الذي يحدث، اعرف ان زوجتي هنا في فنلنده تتابع الاخبار، قلقة عليّ ولكنها لا تعرف انني لا استطيع ان اخرج كي اتصل بها، اصدقائي هنا في فنلنده كذلك لا يعرفوا أي شيء، الهي ما الذي يمكن فعلة وانا الان في قبضة الموت.

ذهبت الى بغداد لارى بعض من اصدقائي هناك، الى اتحاد الادباء، سألت عن صديقي الكاتب شاكر الانباري الذي لم يكن موجود حينها في الاتحاد ، التقيت بعض من اصدقائي القدامى من المسرحيين مثل محمد صقر، ميمون الخالدي، عزيز خيون وآخرين كثيرين، قابلني الكل بالعواطف حد البكاء، استقبلني الكل تقريبا بالروح العراقية الاصيلة، بالحب و العتاب، استطعت ان استرجع بعض من املي في العراق، اقول هذا لاني كنت قد فقدت الامل في الثلاثة ايام التي قضيتها في النجف.

هدأت بعض الشيء وازددت اطمأنان بان بغداد كما هي تستعيد عافيتها وتستعيد قوتها الروحية لان فيها من الروح ما يكفي ان تحيا وتبدأ نشاطها من جديد، تذكرت صديقي الشاعر عدنان الصائغ هناك، تذكرته بعد رحلته الى العراق العام الماضي، تذكرته وهو يعيد الامل الى بغداد التي فقدت الكثير والتي امامها الكثير من البناء واعادة الثقة. و اصبحت واثقا من ان العراق ليس بالبلد السهل الذي يعطي كل ما عنده ويسلّم نفسه الى التخلف او أي انسان يحاول عرقلة مسيرته في البناء و الاعمار.

حضرت الحفل التأبيني في الذكرى الاربعينيه لرحيل الفنان اسماعيل فتاح الترك، لم تكن الفرصة سانحة كي اشارك في الاحتفال بل التقيت فنانين كثيرين، وعرفت الاكثر من ان روح الانسان العراقي لا تزال متألقة تواقة للحفاظ على ما بناه الانسان العراقي عبر تأريخة الثر و الثري.

قاعة حوار التي تقع خلف اكاديمية الفنون الجميله ، او هكذا كنا نسميها ايام كنا في بغداد، قاعة حوار تعج بالفنانين المتحمسين والذين يمتلكون روح الدفاع عن الفن العراقي وعن الثقافة العراقية، الجلسات التي شاهدت في حدائق قاعة حوار و النقاشات التي تدور بين الفنانين هناك تمتلك ذات الروح التي تركتها قبل 18 عام، بل ان لم ابالغ سأقول انها ازدادت تحمسا بالاستمرار وتطوير الحالة الثقافية.

بضعة ايام بقيت في بغداد، وكانت روحي منقبضة لاني سارجع بين الاحراش اسرق نفسي كي ارجع الى مدينتي التي عاد لها القتال الضاري هذه المرة ولا ادرى اذا كنت ساسلم هذه المرة. كنت اتنقل بالخفية لازور بعض الاصدقاء و اقنع اهلي هناك باني مضطر للعودة الى بغداد كي اقضي بعض الحاجات . فعلا ذهبت الى بغداد وكان معي صديقي الموسيقي جلال الذي اصطحبني الى المسرح الوطني والى بعض المؤسسات الثقافية التي ينتظر فيها الجميع انقشاع الغمة كي يمارسوا عملهم بشكل مسالم.

المعركة انتهت في النجف، بكينا اكثر على المشاهد التي شاهدناها من حطام المدينة التي لم يبقى منها أي شيء الا الصحن الشريف والذي تصدع هو الاخر، شوارع المدينة هذه المرة بيد الشرطة والحرس الوطني العراقي، وضعنا هوياتنا عند الحرس الوطني وذهبنا لمشاهدة شوارع المدينة المهجورة والتي تبكي حتى الكافر كما يقال، الهي مالذي حدث لنا؟ مالذي تريدة السماء منّا كي نكون، وكيف نكون، اهالي النجف في ثورة عارمة على ماحدث، القوا اللوم على جيش المهدي الذي جلب الويلات والذي اوقف الحياة ومن ثم قتلها في المدينة التي كان من المفروض ان تحيا على السياحة الدينية.

لم يبق الا ايام و عليّ ان اعود الى منفاي الى فنلنده " هذا البلد الامين كما اسميتة مرة" كانت الايام تسحل بعضها ببطء شديق حين كانت الحرب، لكنها انقضت بسرعة مذهلة وعلي ان ارجع، ذهبت الى اصدقاء اخرين الى اقربائي الذين ام انتهي من دعواتهم للغداء والعشاء، الهي لم اشاهد العراق وعلى ان ارجع الى فنلنده في السابع من ايلول، وكانت المعركة في النجف قد انتهت في الثامن والعشرين من آب، ما هذه الرحله وكيف لي ان ارى بلدي، عرفت ان هذا ليس قدرا بل سوء حساب، واين احسنت الحساب في الحالة العراقية؟ لا ادري ولكن علي ان ارجع وان اكون بحزن اكبر لاني مجبر على العودة الى فنلنده، اجازة الصيف انقضت والذي ينتضرني هنا الكثير من عائلتي، عملى، اصدقائي وكل شيء.

نعم، انها حالة من الحزن ان تمتلك وطنين، ان لا تدري ايهما افضل لك ان تعيش، صدقوني فأنا في حيرة، لاني احب اهلي في العراق، احب العراق لانه طفولتي، لانه انا، لانه تكويني الوجداني الاول والحالي. ولكن كيف لي ان انسى فنلنده، ان اترك بلدي الثاني الذي اعطاني الطمأنينة وسمح لي ان اكمل ما اريد وما احب ان اكون عليه.

العراق ليس ذلك البلد الذي يمكن تناسيه او تجاهله، العراق اجمل مما نراه على شاشات التلفزيون او نسمعه في ابواق الاعلام، العراق ليس حالة بل هو ظاهرة كالشمس والقمر، كالفصول الاربعة التي لايمكن تغيرها، العراق بلد يعلم الحب والكراهية، يعلم البداية والنهاية، يفتح العيون على اللهفة والشوق. العراق بلد يكره الموت ويخلق الموت، كيف لي وانا الضعيف الفقير ان الخّص تجربة البشرية في كلمات.

ساقول لكم اني اعرف سر الحياة في العراق، فالانسان هو السر، ابن بغداد، ابن النجف او أي مدينة عراقية اخرى هو السر في استمرار الحياة في العراق، ساقول لكم اني سمعت اهل النجف وهم يتندرون بالنكات ابان الحرب على النجف، ساروي لكم نكتة تحمل سر الحياة في عراق يحيا الى الابد.

نعرف ان الامريكان يمتلكون جميع انواع السلاح، بين هذا الجميع هناك عربة اسمها "همر" أي المطرقة هذا الهمر كان يجوب شوارع النجف وضواحيها اثناء الحرب واصبح الهمر شيء مألوف لابناء النجف، جاء احدهم وقال لي: هل رأيت ماذا يفعل الامريكان من خداع، قلت له قل، لي قال: لقد كتب الامريكان على الهمر عبارة " يا همر بني هاشم" كي لا يضربها جيش المهدي، نعم هذا هو سر حياة الانسان العراقي، وهل هناك سر آخر؟


(*) موقع كتابات 24/9/2004
 
البحث Google Custom Search