أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
العصافير لا تحب الرصاص:

شاعر لا يملك الادعاء

رشدي العامل

إن قارئاً يمسك مجموعة شعر، ويقرأها ويعيد قراءتها تنم عن اهتمام حقيقي بالقصائد التي يقدمها الشاعر.
أتحدث قارئا، أقرأ مجموعة عدنان الصائغ الأخيرة "العصافير لا تحب الرصاص"..
عدنان الصائغ شاعر لا يملك الإدعاء، على عكس كثير من الشعراء الذين يتوهمون أن القصيدة ينبغي أن تكون احتفالية.
قصائد عدنان الصائغ تجري ببساطة وبسرد ذكي، إلا انه السرد الذي يخفي معاناة الشاعر: الحزن، التطلع بين المدينة والريف.
سنترك الأمثلة فيما بعد. أن الشاعر في أية قصيدة غنائية هو البطل الرئيس. أما بطل عدنان الصائغ في قصائده فهو نفسه، الكائن المضيع، الحالم والخائب أخيراً.
إن قسوة العالم الخارجي تمتص عذوبة الانتظار والأمل. شاعر "العصافير لا تحب الرصاص" ينتقل بين غربته الداخلية إزاء المدينة التي يراها ملوثة بهذا الضباب وبين نقاء الريف الذي عاش فيه..

"الأسرة غربة
والمنافي جوع
وزعتني الأسرة – لا فرق – أو شتتني القصائد
بين المحطات، والكتب المستعارة
بين ثياب النساء القصيرة، والضحكة المستعارة.."

عدنان الصائغ يبحث عن جمال قديم يقول:

".. في زمان قديم
بينما كنت أبحث عن دفتر أبيض للكتابة
عثرت على جثة للقصيدة
مرمية في الطريق"

أي جرح يناغيه هذا الشاعر الذي يردد:

"هل تكفي ما في جعبة العالم من كلمات
كي أكتب عن عينيك وحزني .."

يقول عدنان الصائغ:

"قل ما أوسع أفق العالم
بل قل ما أضيق صدر الإنسان"

إنه شاعر لا يعمم مشاكله قد ما يدع اللحظات الصغيرة توحي بما يعانيه من ألم وبما يحسه من قلق إزاء الصيرورة الكبرى للعالم الذي يعيشه.

"هل تجلس فاتنتي
خمس دقائق أخرى
فالليل طويل أطول من ليل العاشق منتظراً
وجه الفارعة القامة يشرق مشتعلا بالخجل القروي
- كعادته -
حين تمر على دكان أبيه.."

إن أجمل الشعراء في ذهني الشاعر الذي يستطيع أن يعذبني.. ذلك لأن العذاب الذي يمنحه الشعر يظل مستقراً في النفس ومغذياً لها.
عدنان الصائغ عاشق مع نفسه.. يريد المدينة أليفة، وساقية وبستاناً ويريد المرأة جدولاً من الحنان والألق والتشهي، غير أنه يصاب شأن أي ريفي ينتقل إلى المدينة بخيبة أمل.. ومن هنا تنبع شاعرية عدنان الصائغ.

"كما عدت من امرأة..
رأيت النساء فماً واحداً.. وخريف.."

والشاعر الذي يبدو أنه يراوغ نفسه مثقفاً وشاعراً ينتظر: ينتظر ماذا..؟ إنه يحس أنه ينتظر سراباً خلباً ويفاجأ بالحلم الكاذب..

" – هل تحسن الحب..؟
- وانت..؟
- سأنتظر الباص..
لا شيء في أفقك الآن غير المطر.."

ثم يقول لها:

" – الشظايا موزعة في دمي كالرغيف
وعطرك يمضي بدون اتجاه
كقلبي
كلما عدت من سفر أو رصيف
رأيت المسافات تنأى.."

أنا أخشى على عدنان الصائغ أن يطربه ما قيل عنه وأتمنى بكل ما في عروقي من حب أن يواصل مسيرته الشعرية الرائعة وأن يدرك جيداً أن النجاح شيء مؤقت..
وأن النجاح الحقيقي في أن يستطيع أن يواصل هذه المسيرة الشعرية وأن لا يغفل أبداً..
وعلى غير انتباه يقول عدنان الصائغ:

"تلفت.. كنت وحيداً أمام الكتاب الذي بعد لم ينته
وكانت موظفة الاستعارة ترمق ساعتها
ثم ترمقني بارتباك لذيذ.."

إنها إشارة واضحة للاستبصار بين موظفة وشاعر، وهي قضية ثنائية أن عدنان الصائغ وهو يبوح بكل عذاباته ما يزال يجهل القوانين التي تفصل بين الناس.. ويجهل أيضاً ما تفرضه قوانين المدينة اللامرئية على رجل جاء من غابات الريف.
يقول عدنان في قصيدة "ذلك البكاء الجميل"

".. وتبكي على عمرك المتسارع
تبكي لوحدك في آخر العام
ثم..."

ولو كنت معه لأكملت البيت وقلت: ثم انطفأنا.. ملاحظة أخيرة...
بالنسبة لي لم أولع بشيء أكثر من ولعي بالشعر، وأظن أن كل الذين يعرفونني يحسون بأني محب لكل الشعراء الشباب المبدعين بعيداً عن تبجح الغرور.. إلا أني أكره الإدعاء وعندما قرأت مجموعة عدنان الصائغ شعرت بكل فرح أني وجدت شاعراً حقيقياً. كل الذي أتمناه أن يظل عدنان الصائغ يمتلك صوته الخاص وأن لا يغريه أي شيء بعيداً عن الشعر.
فالشعر أحيانا يغدو هو المذهب.
وأنا على قناعة بأن عدنان الصائغ يظل صوتا متميزا إذا استطاع الاحتفاظ بنقاء هذا الصوت وعذوبته. سأكون ممتناً إذا أهداني مجموعة أخرى.


(*) صحيفة "القادسية" – بغداد - 17/8/1987
 
البحث Google Custom Search