أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
التنور... غربة الذات في الوطن المقموع

غالب الشابندر

معنى البطولة المسرحية

(التنور) عمل مسرحي متميّز يستوجب قابلية متقدمة بغية تحليله وتفكيك مكوناته، سواء على صعيد  خشبة العرض، أو  على صعيد الإخراج والإداء، أو على صعيد التقنية، فضلاً عن النص الذي كان خليطاً من ثلاث قصائد للشاعر العراقي عدنان الصائغ.
وأنا أتابع العرَض بدقة وشوق  سألت نفسي عن معنى البطولة المسرحية، وهل تتماهي مع مفهوم البطل المسرحي، أم هما مفهومان لكل منهما فضاؤه الخاص به؟
لم يكن السؤال نابعاً من فراغ، بل هو جاء نتيجة لانشدادي الكلي لمجموع المقتربات التي كنتُ أراقبها واتفاعل معها خلال العرض، لم أكن اقرأ حركة ممثل مسرحي يجيد دوره بمهارة  فنية تستحوذ على الفكر والشعور، بل كنت أقرا نصَّاً غائراً في أوجاعي وأنا اليائس من كل ما يحيط بي على الاطلاق، وكنت أعيش مع  إداء تجاوز التمثيل والتقمص ليدخل عالم التجسيد الحي، وكنت منغمساً  بموسيقى واعية بحركة الممثل ومضمون النص، وهناك الخشبة التي كانت تصرخ من شدة تماهيها الرائع  مع كل عناصر العمل.
فما معنى البطولة المسرحية؟
هل هي إداء ناجح؟
هذا هو  الذي يتبادر إلى الإذهان في سياق الحديث التقليدي عن المسرح، وبالتالي نختصر البطولة المسرحية  في شخص من لحم ودم، فيما المسرح  معنى مركّب من كل هذه العناصر، من الممثل والأكسسوار والخشبة والنص والموسيقى والضوء والظل والصوت والصمت...
البطولة المسرحية في تصوري المتواضع هي هذا الإنجاز المُتمَّخّضْ عن إلتقاء كل هذه العناصر شريطة توازيها في الإبداع والجدّة، ليست البطولة المسرحية إداءً تمثيليِّاً متميّزاً، مهما كانت درجة الإنصهار في الدور، ومهما كانت حالة التماهي  مع الدور، نحن هنا بين يدي بطل مسرحي، وهي قيمة سامقة بحدّ ذاتها، ولكن لسنا بين يدي بطولة مسرحية، وبكل صراحة، قد نصادف بطلاً مسرحيّاً، ولكن ليس بالضرورة نلتقي في الوقت ذاته ببطولة مسرحية، ولذلك أنعي كثيراً على الممثل المجيد قبوله نصّاً هابطاً، أو يتسامح مع تقنية متخلّفة لا تستجيب لقابلياته الإبداعية أو متخلّفة عن سمو النص وعمقه وجماله.
لقد عشتُ مع (بطولة مسرحيّة) وليس مع (بطل مسرحي)، كنتُ مشدودَ الحس والشعور والعقل والإرادة والفكر، فقد كان هناك نصّ رغم صراحته ولكنّه يخفي الكثير، وموسيقى كانت قادرة على الكشف عن المختبي ما بين السطور، و تقنية تشرّبت روح الفكرة، وسنغرافيا تشكيلية تشابكت مع النص والدور والموسيقى، ثم، كنت مع ممثل إنعدمت الثنائية في إدائه، لم يكن هناك ممثل وشخصية بل هناك حقيقة تتحرك بكل طاقتها الواقعية على خشبة مسرح خال، لأن الخواء الإنساني كان هو المسيطر على المشهد كله.

التمثيل / الممثل /النص

ليس التمثيل حركة على خشبة المسرح، مهما كان العنوان الذي يصدق على تلك الحركة، بل التمثيل في مستواه الرائع المتقدم هو تجسيد النص، ولكن لماذا لا نقول هو العبور إلى ما بعد النص، هو تجسيد فلسفة النص المختبئة في (لاشعور)  الكلمات والجمل والايقاع، نعم، فأنّي أعتقد أنّ هناك عالماً (لاشعوريّاً)   في النص، تماماً كما أنّ هناك منطقة تُسمّى بـ (اللاشعور) في الذات الإنسانية، والتمثيل الرائد هو الذي ينفذ إلى هذا القاع المحتشد بالتجربة والخبرة والمقموع ليجسده على شكل حركة.
أليست الكلمة ضمن سياق عبارة عن حمولة من الإستعمالات والتجارب؟ ثم أليست الكلمة حبيسة المضمون الذي أُختزن في أحشائها عبر تلك الحمولة المثقلة بالهموم والافراح؟ وهل السياق إلاّ  فرصة الكلمة لأخراج هذا المختبي في  أحشائها؟ هنا يأتي دور الممثل المجيد كي يترجم هذه المعاناة الشاقة، معاناة الكلمة المقهورة، وذلك بالتواصل مع السياق، ومع الموسيقى، ومع الخشبة، ومع الالوان والاضواء والمشاهد.
الممثل المسرحي حسن هادي تجاوز النص، إنغمس في الخلفية التي تكمن وراء النص، لم يكن يمثل، بل كان يعلن عن حضور النص في حامله حقيقة، ومن هنا كنت أشك أن الرجل سوف يعود إلى حالته الطبيعية بعد إنتهاء العرض، ولكنّه للاسف عاد!
لقد أصيب بالجنون وهو يقول:

( حيث الوطن
يبدأ من خطاب الرئيس...
وينتهي بخطاب الرئيس..
مروراً بشوارع الرئيس، وأغاني الرئيس، ومتاحف الرئيس، ومكارم الرئيس، وأشجار الرئيس، ومعامل الرئيس، وصحف الرئيس...)

كيف كان التجسيد؟
تجسيد الرفض بحركة عفوية لا يمكن السيطرة عليها ولا التحكّم بها، اليدان كانتا ترسمان خارطة العبث الوجودي على جدار صامد بلا معنى!
كيف كان التجسيد وليس التمثيل؟
كانت الكلمة الأولى للذراعين الطويلين  النحيفين، يمتدان خلف الجسد المنحول باستطالة تعبر عن أصالة الألم العميق، لقد تخلّى الوجه في كثير من الاحيان عن دوره البارز في تحقيق هوية الجسد.

(أنينُ القطار يثير شجن الأنفاق ْ
  هادراً عى سكة الذكريات الطويلة
وأنا مسمّر الى النافذة
بنصف قلب
تاركاً نصفه الآخر على الطاولة
يلعب البوكر مع فتاة حسيرة الفخذين
تسالني بألم وذهول
لماذا أصابعي متهرئة
كخشب التوابيت المستهلكة......)

كانت المشهد  حركة  تعتصر نفسها من الألم ببطي وقسوة، لأنّ هناك  لعنة اللغة المُضطهدة، تستعيد الذكريات المخزونة، وحقُ لغةٍ كهذه، جسد يتمطّى داخله الوجع، يتمطّى في كل الاتجاهات، فيتلوى الجسد وهو يتنازع مركز ثقل ضائع!
موسيقى تترجم المخفي، تترجم المخفي داخل النص، والمخفي داخل الجسد، والمخفي داخل المشاهد، والمخفي داخل الخشبة... ثمّ  المخفي داخل التنور!
في مقطع (تأليه الرئيس) خرج الممثل من كامل تاريخه ودخل تاريخاً جديداً، كان ينازع نفسه في البداية بهدوء ليزيح من (جوانيّته) الهوية التي تسجل تاريخه الرسمي، ولكن بالتدريج تراصف مع الدور حتى إنصهر نهائيا في هذا المقطع الرهيب... كان هو... كان هو... أي ذاك الذي استنبته النص بكل أبعاده الخارجية والداخلية.
الإزدواج هو جوهر التمثيل المسرحي لدى الكثير من النقاد، ولكن في لحظات الإبداع الحقيقي تنعدم المسافة بين الممثل والشخصية، ينسى الممثل اسمه وتاريخه وحاضره، ويتقمص ماض الشخصية ولحظتها الحاضرة ومستقبلها الذي ينتظرها، و(حسن هادي) في لحظات عديدة كان هو غيره تماما.
طغت حركة الذراعين على المشهد ، كان لهما دور الريادة... يمتدّان ويتقلّصان...  يتوتران ويتراخيان... كانا يصرخان ويستغيثان... كلُّ ذلك  حسب نبرة النص وموقع النص من جسد الفكرة، فهل لذلك علاقة بالتنور الخاوي؟ علاقة بهذا القهر الشمولي الذي نعاني منه في الشرق؟ علاقة بهذا الحرمان الذي إمتد حتى لداخلنا فجعلنا نخاف من كل شي حتى الهسة السريّة؟
مركز الثقل في الجسم فقدَ كلَّ مبرراته، ليس هناك شرعية بايلوجية ولا شرعية منطقية لهذا المركز، ليس هناك مركز ثقل، هناك فوضى جسدية توزّعتها المحنة القاهرة، فاخلّت بهويتها البايولوجية ونسقها المنطقي الحاكم على داخل الذات عن وعي وعن لا وعي.
كان مجنونا لأن القهر الذي نعاني منه يفرض الجنون بطريقة منظّمة، حركته الهادئة تشي عن ذلك التواضع الخفي  مع الشكوى، وحركته الصاخبة تشي عن ذلك التواضع السرّي مع الياس. هناك صحراء قاحلة تلفُّ الوجود، هناك يأس، تمرّد ولكنّه تمرّد محكوم بنفسه لأنّه لا  يجد صدى... أبداً... أبداً...

المُمَّثل الصامت

كل شي فوق خشبة المسرح يمارس مفارقة الذات، بما في ذلك الأشياء الجامدة، فأنّ الهوية الأولى أو الوظيفة الأولى (لأني هجرت كلمة الهوية منذ زمن بعيد ولا أستخدمها إلاّ صدفة أو سهواً... ) لأي جزء أو عنصر أو أداة  تفقد عنوانها الرسمي أو الشرعي  أو العرفي أو العلمي لتمارس وظيفة جديدة، فعالم التمثيل قائم في ذاته، هناك تحوّل مستمر، فأنَّ وظيفة (سماعة الطبيب) في العيادة الرسمية غير وظيفتها على خشبة المسرح، هناك مُستمدّة من الصنعة أو الوظيفة الرسمية أو أي منبع آخر، فيما هنا مُستمدَّة من وظيفة جديدة  لها عالمها الجديد، مُستمدة من عالم غير مُفترض كما يتصور بعض الناس، ولا واقعي ساذج  كما يتخيل بعض المشاهدين، ولا مُفتعل كما يقول دعاة التهكم بالفن،  وأنّما من عالم يتمتع بواقعية خاصّة به، واقعية خفية مستترة، واقعية مطمورة، لا تستطيع التعبير عن نفسها إلاّ بتجسيد حيوي، قد يعلن عن المضمون صراحةً أو تلميحاً أو خليطاً من هذا وذاك.
وفي الحقيقة من الظلم أن يكون الحديث  عن الأشياء الجامدة على خشبة المسرح كآليات توصليّة وحسب، أو كتقنيات  جمالية فقط، أو كوجودات عارضة تتطلبها عملية (تكميل) المشهد وليس صناعته، أنّ بعض هذه الأشياء قد تؤدي دور البطل، دور المؤسس للحدث، بطولة صامتة، وهي في لحظات قد تفوق في تعبيرها وتجسيدها للواقع المُراد تظهيره البطولة الحية، بطولة الممثل البشري، أن الشيء الجامد على خشبة المسرح بطل صامت، يؤدي دوراً صامتا، وبالتالي هو ممثل صامت.
لم أجد الوقت الكافي للإسهاب بهذه النقطة بالذات، ولكني وضعت بذرتها لكي أتحدث عن بطل صامت في العمل المسرحي الذي نحن في صدده...
ذلك هو (التنور)!
بدأ العمل بـ (التنور) وانتهى بـ (التنور)!
أُستُجلِبَ بداية وأُخرِج َنهاية، وبين البداية والنهاية كان هناك جدب، كان هناك عطل، لم يستكمل المقهور صناعة التنور، وكأنه ينتظر الفراغ منذ البداية، وكيف لا، والرئيس هو المتسيِّد على الوجود؟ كان التنور ينتظر وظيفته في الحياة، ولكن بقي صامتاً، لا يتكلم، رغم أن الوهج في داخله كان يصرخ، كان يشتعل، وكم هو النور موجعاً لمّا يعدم الرائين!
كان التنور في مقدمة المسرح المفتوح يهتف للتاريخ بأنّه هنا، يريد أن يُطعم الجائعين، الانسان، ولكن بلا نتيجة، كان هناك صمت وحسب، كان أسيراً، كنت أحدق بالتنور لعلّ أملاً  ينبع من هناك، يواسي يأسي، ويوازن صرخاتي الداخلية التي أُماهي بها حركة الممثل المجروح، ولكن ليس هناك سوى  شعلة تتوقّد فجأة من داخل التنور وتغيب بسرعة جنونية! يا لسخرية الحياة...
هذا هو التنور يتحول الى مطية يتدحرج عليها الجسد المقموع، مهرولاً به إلى عالم الوحشة والضياع، هناك يدلي بشهادة القمع...

(وطني حزين أكثر ممّا يجب
وأغنياتي جامحة وشرسة وخجولة
سأتمدّدُ على أول رصيف أراه في أوربا
رافعاً ساقيّ أمام المارّة
لأريهم فلقات المدارس والمعتقلات
                     التي أوصلتني إلى هنا
ليس ما أحمله في جيوبي جواز سفر
وإنّما تأريخ قهر...)

ومن سخرية القدر أن يكون التنور المسجّى هو وسيلة الإبحار... الإبحار نحو عالم الضياع والغربة والإستهلاك والموت...

اليائس: غالب حسن الشابندر
السويد: المنفى القهري والطوعي.


(*) نشرت في موقع "إيلاف" الأحد 25 أبريل 2004 وفي موقع "مسرحيون" س2 في 3- 5- 2004
 
البحث Google Custom Search