أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
العصف يستبد بالذاكرة... أيضا!!

علي حيدر الرماحي

فقالت له فتاة الحانة, قالت لجلجامش
إذا كنت جلجامش الذي قتل حارس الغابة
إذا كنت من صرع خمبابا, ساكن غابة الأرز
وذبح الآساد في مسالك الجبال
وأمسك بثور السماء وقتله
فلماذا ضمرت وجنتاك واكتأب قلبك؟  
ملحمة كلكامش

على قاعة ونستون تشرشل كانت العاصفة!
العمل المسرحي الكبير لفرقة مسرح الغربة.. العمل الذي جرجر ذاكرتي إلى بغداد المسرح.. تجارب معهد الفنون الجميلة وأكاديمية الفنون الجميلة ومنتدى المسرح.. كآبات مسرحية حاول فنانوها التمرّد على القالب السلطوي المعروف هناك.. كأنما حاصرتهم المرايا فهربوا إليها.. كأنما جرجرتهم السلطة إلى اعتماد النصوص المبطنة ذات الأوجه العديدة.. إلى البحث عن الإشراقة في ذاكرة عراقية وهيهات.. وكيف؟ وكل ذاكرة عراقية لا تحفل إلا بالحرب.. التحفز.. الموت فجأة.. الاعتقال.. مفردات دكتاتورية عقدت المكون المسرحي الشبابي في العراق فأبدع رغم قيد الرقابة والوشاية والتنصت إلى الأحلام الخفية.
يبدأ العرض المسرحي لمسرحية (آه.. أيتها العاصفة) ببكائية حزينة على فقد مدينة ما على فقد معبد ما.. ربما كانت تلك المدينة هي الوطن بأسره.. وربما تكون هي الناس أجمعهم.. ثم يدخل (المخرج) يملي على (الممثل) دوره.. يحاصره بطابع الاداء الأكاديمي المعروف إلا أن الممثل يحاول أن يتمرد على مخرجه ليؤدي دوره هو.. لا دوراً يحاول المخرج (أمين الفضلي) أن يمليه عليه.
مداخلات سريعة قد يكون بعضها مهشم الأواصر – ربما لأن المخرج (كريم جثير) أراد ذلك – ثم يحاول المخرج أن يزج بك إلى خراب معين قد يكون هو الوطن، من خلال عاصفة كان قد أعدها كاتب النص الربيعي بشكل مبدع.. ثم يعود بك مرة أخرى إلى أجوائه الأولى ثم يعيدك إلى الخراب ثانية.. إلى الحرب... إلى القتلى.. إلى الأشلاء إلى بكاء عميق عند جثة مهشمة لا شك هي الوطن.. الوطن بأسره.
آه.. أيتها العاصفة.. نص حاول من خلاله عبد الرزاق الربيعي أن يداخل العمق الحضاري العراقي مع ما أوصلتنا إليه الدكتاتورية في العراق وقد تلحظ تركيباً ثلاثياً من دكتاتورية الآلهة (القديمة) ديكاتورية الحاكم+ ديكتاتورية المخرج! هذا الثالوث الظالم كان يمارس مسرحية كتبها الربيعي بكل نضج وتفهم لمغزى هذه المزاوجة بين الأمس البعيد جدا و.. الآن.. و.. الغد، والذي دفع ثمن هذا الظلم المسرحي والواقعي بنفس الوقت هم أبطال هذا العمل آه.. أيتها العاصفة.
قمة المأساة تدور حول مأساوية الدور الذي يمكن أن يؤديه الممثل.. ولكن.. أن يؤدي هذا الممثل دوراً هو في الحقيقة مأساته ومعاناته.. فلابد أنه حين يصرخ على خشبة المسرح لابد له أن تسمع بصرخته تلك كل الضمائر النائمة وهو ينوح على فقد أبنه.. مثلاً.. ولكن.. أن يمارس المخرج (الفضلي) سلطويته ليطلب منك الصراخ.. بهدوء كما يحب هو.. فتلك هي العاصفة المأساة.
آه.. أيتها العاصفة.. إخراجاً.. شاهدنا جثير يجسد ما اختزنته ذاكرته الأكاديمية على خشبة المسرح.. تجريباً مرة.. وواقعيا مرة أخرى.. الرؤية الإخراجية للعمل لا تعود كونها رؤية عراقية بحتة بكل ما تحوي العراقية من هم للإبداع والتجسيد المعاناة والألم.
لا شك أن ما طرح من العمل كان مأساة المخرج (جثير) ذاته.. فقده لأصدقائه في حروب خاسرة.. فقده لوطنه بشكل أجبر عليه.. فقده لأدوات مسرحية كان ينبغي أن يظل معها هناك.. إلا إنها العاصفة التي دمرت كل شيء إلا ذاكرة المخرج فقد أصبحت هماً ثقيلاً وهي تحضر أمامه جثث القتلى.. التوابيت.. الآلهة الظالمة.. الحكومات السلطوية.. الخ.. بين التجريب والواقعية زاوج جثير ليحرك في راس الجمهور تساؤلات كثيرة ليثير علامات استفهام كثيرة.. ليكتب وبخط عريض (لماذا) وعلى الجمهور أن يبحث عن إجابات تماماً كما فعلها عدنان الصائغ عندما كتب (هذيان الذاكرة المر) ليقدم لنا واقعاً مريراً هو واقع الحرب والنفسية العراقية المهشمة.
الأحداث المتلاحقة في المسرحية ربما أربكت الجمهور في القدرة على تجميع الأفكار السريعة والمترادفة تباعاً في العمل.. ربما لأن عامل الوقت حاصر المخرج فلم ينجح في ترتيبها كما يجب.. وربما لأنه قدمها في اليمن بشكل آخر مختلف.
مع ذلك عادت ذاكراتنا إلى أعمال مسرحية طالما استهوتنا في العراق كـ "لو".. لعزيز خيون.. "هي والعصافير" لحمود عبد الرزاق.. "وداعا أيها العالم الغريب" لهادي المهدي.. "تحولات" لهادي المهدي أيضاً.
آه أيتها العاصفة.. أداء.. لعب سعيد كاكايي.. ربما يملك من قدرة على تجسيد دوره المسرحي لعب دوراً مميزاً في تحريك الحس المأساوي في ذاكرة المشاهد.. وحاول وبكل قوته أن يمسك بالمشاهد من رأسه ليجره عنوة إلى خشبة المسرح.. ليصرخ معه.. ليرقص معه.. ليستنزفا معا كل همومها.. وقد أفلح.. ولم يمنعه من كل ذلك تسلط المخرج (الفضلي) من أن يقول كلمته.
تألق أمين الفضلي في أدائه هو الآخر وحاول.. ولكن سعيد كاكايي كان في الحقيقة هو المخرج الذي ظل يفرض على الفضلي أداءً معنياً إلى نهاية العمل.
سهام الخالدي التي لعبت دور الأم العراقية حاولت أن تعطينا انطباعاً عن آلام المأساة، عن آلام الحزن.. وجميعا كاكايي والفضلي وسهام وكريم استنزفوا من أعيننا دمعة.. ودمعة واحدة تكفي لان تقول لهم مبروك لكم العمل الأول في كندا.


(*) نشر في صفحة "كل شيء" ع103 في 26/3/1997
 
البحث Google Custom Search