أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
إهداءات الكتب

عبد الستار ناصر

سألني عن كمية الكتب التي صارت بحوزتي، فقلت إنها لا تزيد علي أربعين كتاباً، فقال وقد استغرب الأمر (لكنك أحوج الناس إلي المزيد منها) فقلت له:
ــ إنني أحتفظ بها في ذاكرتي، ذلك أن الكتب كما تعلم هي أثقل ما ننقله معنا من سكن هنا إلي بيت هناك، وفي الغربة التي مضي عليها ثلاثة أعوام انتقلت أكثر من عشر مرات بين شعاب العاصمة (عمان) وفروعها وشوارعها الخلفية، ثم إنني أقرأ الكتاب وقد أكتب عنه، وبعدها أعطيه لمن يحتاج إليه، وأرجوك ان تتذكر بأنني أيام كنت في وطني كانت عندي مكتبة عامرة يزيد عدد الكتب التي فيها عما يملكه (ماجد السامرائي) وهو المهووس بجمعها منذ كان في بطن أمه.
وهذا الموضوع أعادني إلي حكاية جمع الكتب واقتناء النادر منها، بل تذكرت فوراً ذاك التاجر الذي يعمل في الخردوات كيف أنه اشتري مني جميع مجلدات (ديستويفسكي) وجميع أعمال (غارسيا ماركيز) و(عبد الرحمن منيف) وموسوعة المعرفة إلي جانب روايات همنغواي وألبير كامي ووليم فوكنر وألبرتو مورافيا، وكنت مذهولاً أمام هذا الرجل الذي أشتري اكثر من مائة كتاب في ساعة واحدة ، وحين مضيت في زيارة إلي بيته الكبير ورأيت أمهات الكتب تملأ رفوف صالة الضيوف أيقنت بعد وقت قصير أن تاجر الخردوات هذا لم يقرأ أي كتاب مما يشتري، بل كانت مجرد ديكور للزينة والتباهي!
وقبل أيام أهداني أحد الشعراء ديوانه الثالث، وعندما رأيته قد أوشك علي كتابة الإهداء، قلت له (أرجو أن تعرف بأنني سأقرأ الديوان كاملاً لكنني لن احتفظ به) حكيت له أسباب ذلك طبعاً، ثم قرأت القصائد فعلاً وكتبت عنها مقالة في (الزمان) وبعدها أعطيت الكتاب إلي زميل آخر بعد ان رفعت الإهداء واحتفظت به في أرشيف خاص.
فوجئت بالكتب المهداة إليّ والتي أهديتها إلي من يستحق التمتع بما جاء بها، ثلاثة أعوام كانت الحصيلة فيها ستمائة كتاب لو أنني احتفظت بها حتي اليوم لما تمكنت من البحث عن سكن أفضل أو مكان قريب من الجريدة التي أكتب فيها.
فهل ينبغي الاعتذار من مؤلفيها؟ لا أظن ذلك ، فها أنا أقرأ ما كتبوه لي علي أول صفحة من كل كتاب جاء في هدية منهم، فهذا يقول (من خراب الروح إلي خراب البصرة نواصل نشيجنا المر ونشيدنا العالي ضد البرابرة وخفافيش الظلام الذين سرقوا الوطن وبهاء الروح وخضرة الأمل وأحلام الحياة وفرح الكتب والأصدقاء، أحييك من أقصي الأرض أيها الروح البيضاء) ..والثاني كتب لي (أضع دموع جنائز قلبي بين يديك ، لأنني طالما توضأت بدموع أبطالك) بينما يقول الثالث (هذه سيرة رجل كان من الممكن أن يكون جلاداً أو محارباً فاسداً لكنه اعتصم داخل براءته في زمن لا ينتج إلا الوشاية والكذب والكوليرا) وسأكتفي بما ذهب إليه الرابع إذ يقول (يا أخي وصاحبي الذي يقاسمني حراسة غابة الإبداع والمحبة والجنون أهديك طواويس خرابنا الجميل).
نعم، أنا احتفظ بإهداءاتهم في أرشيف اعتز به كثيراً، أما عن الكتب فهي تجلس في شرايين رأسي ولن تفارقني أبداً.. ذلك أن المهم هو أن نقرأ ما يصل إلينا، وبعدها ينتقل الكتاب من بيت إلي بيت، ومن قارئ إلي قارئ، وهكذا يطول العمر بكتاب كهذا، أما أن نبقيه في مكتباتنا علي مدي السنين فقد حكمنا عليه بالموت.
في بغداد، اشتريت كتاباً عنوانه (اعترافات مالك بن الريب) وكان من تأليف الشاعر يوسف الصائغ، أهداه إلي المرحوم كامل الدباغ الذي اشتهر ببرنامجه (العلم للجميع) ولما عرف الصائغ بما فعل الدباغ أزعجه الأمر كثيراً، وقال بالحرف الواحد (لو أنه مزق الإهداء فقط) بينما قال كامل الدباغ ان لا علم له بأمر هذا الكتاب أبداً وأنه من النوع الذي يحترم إهداءات الكتب وانه لا يدري كيف جري ما جري وكيف وصل هذا الكتاب إلي (شارع المتنبي)!؟
وإذا بنا نكتشف بعد حين (كاتباً) من نوع غريب، لم نألف هذا النوع من ذي قبل، فهو يحتفظ بالكتب مع إهداءات مؤلفيها، ويشتري منك الكتاب بأي ثمن إذا أبقيت الإهداء عليه، وبعد حين من الدهر قام هذا الكاتب ــ وهو أديب في الوقت نفسه وكاتب نصوص مسرحية جيدة ــ بالإعلان عن معرض للكتب مع إهداءات المؤلفين عليها وكانت بحق فرصة نادرة جداً إذ رأينا عشرات الكتب القديمة لمبدعين ماتوا من زمن بعيد أو قريب ومبدعين ما زالوا علي قيد الحياة وقد كتبوا أجمل الإهداءات إلي أصدقاء لهم أرغمتهم ظروفهم علي بيع الكتب بعد حرب الخليج الثانية ومضوا بعدها إلي الغربة والمنافي.
من بين تلك الإهداءات عثرنا علي ديوان بدر شاكر السياب مهدي بخط يده إلي القاص عبد الملك نوري، وإهداء من علي الوردي إلي سيدة فاضلة باعت كل أملاكها ورحلت إلي أرض الله البعيدة، مع إهداءات نادرة فعلاً لا أدري كيف حصل عليها صديقنا الأديب ــ التاجر احمد الصالح من بينها كتب لنجيب محفوظ، ومحمود درويش، ومؤنس الرزاز، وغسان كنفاني، وميخائيل نعيمة، وغادة السمان، وبلند الحيدري، وفوزي كريم، وعبد الرزاق عبد الواحد، وفؤاد التكرلي، وجمعة اللامي وغيرهم العشرات.
أما أعجب ما حصل عليه في ذاك المعرض العجائبي المختصر علي أقرانه وقلة من القراء وجمهرة من المبدعين فهو إهداء (نادر جداً) بقلم رئيس وزراء العراق (نوري السعيد) وقد أهدي كتاباً عن القانون الدولي إلي وزير العدل آنذاك جاء فيه كما أتذكر (إلي السيد فلان الفلاني.. ولا بأس ان نتعلم منهم، وهذا الكتاب مدرسة، فسيروا وعين الله ترعاكم).
الإهداء قد يمر في ساعتها مرور الكرام، لكنه يعني كثيراً من المعاني، ولهذا السبب تراني احتفظ بإهداءات الأحبة من الأدباء والشعراء في أرشيف لا يفارقني أينما وليت وجهي، ودعوني أخبركم بأجمل إهداء منذ أيام قليلة، إذ يقول علي السوداني علي الصفحة رقم واحد من كتابه (ما تيسّر له):
ــ (قل لزوجتك بأننا سنشرب الليلة في حانة (أبو احمد) وسط البلد، محروسين بالسيدة المصون مارلين مونرو، قل لها بأننا نشرب فرحاً (علي عناد أمريكا) وبعدها ننتصر علي أنفسنا ونقول (يا محلي النصر بعون الله) وهذا كل ما تيسّر لي يا صديقي
واكتفي بما قاله السوداني عن بياض سريرته.

الإهداءات المشار إليها للأدباء (عدنان الصائغ، عبد الرزاق
الربيعي، حمزة حسن، وسعد جاسم) بحسب التسلسل.


(*) نشر في صحيفة "الزمان" العدد 1277 التاريخ 2002 - 8 - 3
 
البحث Google Custom Search