أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
بهدوء رجاءً

البناء التحتي لإبداعنا

عبد الستار ناصر

لم يبق أمامنا غير الاحتفاظ بما بقي من رموزنا الكبيرة في الرواية والمسرح والغناء والقصة القصيرة والنحت والموسيقي والفن التشكيلي بعد أن خسرنا البنية التحتية لبلادنا المغلوبة علي أمرها.
دعونا نتذكر كبار مبدعينا الذين ارتبط إبداعهم بالعراق وأسمه وسمعته ومجده وتأريخه وحضارته، وأن نقول فيهم كلمة حق قبل أن يسدل الستار علي حقبة من الزمن لا ندري ــ فعلاً ــ ما سيأتي بعدها من ويلات وكوارث وزلازل وانقلابات وحروق.
فقد كان من حسن الحظ، أنني حضرت حفلة عزف علي العود للفنان العراقي الكبير (نصير شمه) في القلعة الأثرية في عمان، وكدت لولا بقية من حياء أن أقطع أوردتي وشرايين جسدي تصفيقاً لهذا المبدع الخطير الذي جمع الأوجاع كلها في أوتار العود الشرقي الذي بكي وشكي وناح وتألم وتوجع وأرغم الحضور علي الوقوف إجلالاً وتحية وتقديراً واعتزازاً لهذا الفن الرفيع الذي وصل به (نصير شمه) إلي مرتبة المطر ومكانة العشق وسيادة الوجد وأخذنا معه صوب الإحساس بما عشناه من حروب وقروح ومتاعب منذ أول رصاصة (هلهلت) فوق سطوحنا ومنذ أول شهيد أخذناه إلي مثواه الأخير.
وهناك عزف علي الرواية ينبغي الانتباه إليه، يشارك فيه أجمل مبدعينا كم تمنيت والله أن تصل أعمالهم إلي كل بيت، حتي يكتشف الناس أية موهبة جاءت من العراق وتناثرت في المنافي، فهذا فاضل العزاوي الذي كتب (الأسلاف) وذاك إبراهيم احمد الذي أبدع (طفل C.N.N) ومثلهما جنان جاسم علاوي وسليم مطر ونجم والي وعبد الخالق الركابي الذي يعيش منفياً علي عكازته منذ عشرين سنة بزعم أنه ما زال في بغداد.
وفي الغناء يتسابق كاظم الساهر مع (مافيا) الفيديو كليب ويظهر في عموم الفضائيات بعد ان كسر الطوق المفروض علي الأغنية العراقية، وسوف نرفض نسيان (حسين نعمة) والياس خضر ومن قبلهما المرحوم داخل حسن الذي صار صوته علامة فارقة للحنين والوجع العراقي في كل شبر من المهجر المجروح بإنسانيته المعذبة.
في المسرح ما تزال بصمات خليل شوقي وناهدة الرماح وجواد الأسدي وقاسم حول وعوني كروني إشارة إبداع تشير إلي مستقبل يعمل علي إشعال الذاكرة منذ(النخلة والجيران) حتي آخر نخلة أحرقوها في الجنوب.
العالم قد ينسي ما عندنا من مواهب كبري، لكن إصرارنا علي التذكير هو الذي يثير الأسئلة عما حلّ بنا من فواجع وأخطاء وجرائم كانت أصغرها تكفي لتحطيم كل شيء في أيّ بلد آخر مهما كانت أساسيات حجارته وشعبه ومبدعيه.
في القصة القصيرة لم تزل المسافة شاسعة ومحترمة بين مبدعيها وبين الشرخ المهول الذي أصاب عصب الحياة في عراقنا المسكين، عشرات الأسماء تكتب وتنشر نتاجها شمالاً وشرقاً، وتعرف أنها مقروءة جنوباً وغرباً، وإذا ما قرأنا كبريات المجلات الثقافية (أبواب، الآداب، نزوي، الرافد، فصول، أفكار، العصور الجديدة، المدي، الموقف الأدبي، كتابات معاصرة، والبحرين الثقافية) سنري العراقي يحتل مكانه الصحيح في الزمن الصحيح، وفي بعض تلك المجلات نري نسبة القصائد والقصص والمقالات بأقلام عراقية هي نصف المجلة دون اعتراض من محررها الذي يدري تماماً أن لا مناص من نسبة كهذه ما دام الإبداع لا يعرف التزكية ولا يفهم المجاملات.
ومع الفن التشكيلي لا نحتاج إلي دليل علي مكانة الفنان العراقي، يكفي ان نذكر ضياء العزاوي وهاشم سمرجي وفيصل لعيبي وصلاح جياد، وبرغم الاعتراض علي أسماء لم تقل كلمتها بعد، لكن نسيانها حالة من الكفر بما أعطت من عطاء وجمال وخصوصية، لا سيما علاء بشير، ومحمد مهر الدين، ورافع الناصري، وسعيد شنين، وعشرات غيرهم.
مشكلة التأريخ عندنا في العراق انه صار دون (تأريخ) حتي نتمكن من أرشفة الأسماء والحالات والحسنات والمثالب، وقد أختلط الصواب مع الخطأ كما اختلط الحابل بالنابل والحضاري بالمتخلف، وليس من أحد يعنيه ما يدور من شوائب وإسفاف وتخبط بين المبدع والدعي، حتي صار بإمكانك ان تسمع بمعرض يقام في (باريس) لشخص لم نسمع به وقد تقرأ عن محاضرة في (مدريد) لأستاذ لم يكن من تلميذ واحد بين يديه طوال حياته!
أننا نسقط في مصيدة افتراضاتنا ولا نعترض، ثم يتكرر الإنزلاق إلي فخ أوهامنا لكننا نترك الحبل علي الغارب ونسكت عن أولي حقوقنا خوف أن يقال بأننا لا نعرف هذا الفنان (العظيم) أو ذاك الأستاذ الجهبذ الكبير!
لكن الشمس ــ كما يقال ــ لا يخفيها أي
غربال، وسوف يبقي الكبير كبيراً، والمبدع مبدعاً، مهما حاول الصغار رسم الخرائط بأسلوبهم المفبرك المعوج الكاذب..وأعني بذلك أن يبقي (نصير شمه) و(فاضل العزاوي) و(كاظم الساهر) و(هاشم سمرجي) و(خليل شوقي) وغيرهم من عمالقة الفن والفكر والأدب حتي إذا حاول البعض كسر شوكتهم أو تحطيم مجدهم بأي كلام يقال وأيّ فعل مدفوع ثمنه مسبقاً!
الحياة كما نعرفها هي مجموعة مفاجآت، بل هي مقامرة غير مأمونة الجانب، لطالما صعد فيها القصير وصار طويلاً، وربما خسفت بالطويل حتي بات قزماً لا يري بالعين المجردة، لكن الحياة علي امتدادها غير قادرة علي إخفاء الحقائق، وسوف يعود الطويل إلي حجمه الذي عاش فيه، ولا بد من رجوع القصير إلي قامته الأولي مهما تمتع بطوله المزيف!
يؤلمني رؤية مواهبنا في العراق وهي تهوي إلي حضيض الكتابات من أجل مكاسب عابرة لا تعني أيّ شيء موازاة مستقبل الكتابة وألق الإبداع، ومهما كانت أعذارهم حول صعوبة الحياة وشظف العيش يبقي الفن الكبير بمنأي عن السوقية والترهل والمباشرة والمديح للتماثيل وجداريات السيراميك ورسم البشر علي هيئة أنبياء، فهذا هو الكفر نفسه بحق إنسانية الإنسان، كما أن الإنسان لا يرحم، ولنا مع تأريخ الكتابة مئات القصص والحكايات التي ما زالت في الذاكرة منذ المتنبي الكبير وحتي آخر شاعر (مخنث) يقول في إحدي قصائده ان الموت من أجل هذا التمثال أحلي ما نبحث عنه في جنة الله، وقول شاعر آخر : لم اعد أجد في القواميس والمعاجم والمناهل وموسوعات الأرض (ما يناسب) مقامكم سيدي العظيم. نعم، يجب الانتباه إلي مبدعينا الكبار وإغفال النوع الذي يعتاش علي الكلام ولا يعيش فيه، فالكلمات هي بداية الخليقة وكانت أنظف بكثير قبل أن تتلوث مع هذا النوع من شعراء المناسبات.
دعونا نسمع عزف نصير شمه ونقرأ فاضل العزاوي ونغفو علي صوت كاظم الساهر ونري ما يرسمه فيصل لعيبي ونمضي إلي قصائد عدنان الصائغ وفوزي كريم ونشاهد ما تبقي من مسرحنا المتميز، ويكفينا أن نحتفظ بأسماء قليلة رابحة تعوض خسائرنا بمن باع أسمه ومستقبله.


(*) جريدة (الزمان) العدد 1272 التاريخ 2002 - 7 - 29
 
البحث Google Custom Search