أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
انتظريني تحت نصب الحرية..

طراد الكبيسي

شاعر آخر، لم يعلن أنه ينحو منحى كتابة القصيدة اليومية، أو القصيدة ذات اللغة اليومية، لكن شعره، يكشف عن ذلك، بتقنية مختلفة. أنه يمازج بين ثلاثة طرق من التعبير: المباشرة، الصور، القص، مستخدما، في الغالب، طرق التعبير هذه، كلاً في موضعها الملائم. فهو عندما يقول في قصيدة (طفولة) مثلاً:

"تجذرتُ – منذ الطفولة –
أعرف أن هواه
يفيض بقلبي... حنينا
ونسغاً.. تصاعد، من لهفتي
رائعاً.. عاشقاً.. كالنهر"

يكون قد استخدم الطريق المباشر، لكنه ينتقل إلى الصور عندما يقول:

"وكان المطر
يبلّلُ ثوبي،
وأفرحُ.. أركضُ.. أركضُ.. أركضُ
أفتحُ.. كلَّ ذراعي
علّي أمسكُ شعرَ المطر"

ثم يلجأ إلى القص عندما يقول:
"وكلّ صباحٍ
نمرُّ ببستان عبود
للآن.. أذكر ثقلَ السوابيط.. والرزاقي
وحين تسلقتُ يوما ..
لأسرقَ رمانةً.. روادتني
ترددت ساعتها
ورجعت لمدرستي.. راكضاً
خوف أن يغضب الله مني..
ويزعل مني.. الوطن".

طبعا هذا التنوع في طرق التعبير يكاد يتكرر في كل قصيدة، وحظ كل طريقة من حيث القوة أو الضعف يختلف أيضا من موضع إلى أخر. فالصورة في قصيدة (صباح الخير أيها المعسكر) عن طلوع الشمس وانتشار أشعتها، تعد من جميل الصور وأكثرها انثيالاً في المخيلة:

"نفلُّ ضفائر حلوتنا – الشمس –
ننثرها.. خصلةً.. خصلة للرياح"

ولا أظن أن ثمة حاجة إلى المبالغة في القول (بأن صوراً شعرية كهذه الصورة في شعر الصائغ، لا تصدر عن شاعر من العالم الثالث) كما جاء في مقدمة الديوان وحسبما ذهب الصديقان يوسف نمر ذياب ومدني صالح، فهذه الصورة في تقديري – إذا تركنا جانبا مسألة الانتقاص من شعراء العالم الثالث إزاء شعر الغرب، التي لا مبرر لها وأن شعراء العالم الثالث منذ عشرات من السنين، هم فتنة الغرب! أقول: إن هذه الصورة في تقديري لن يأتي بها إلاّ شاعر أو فلاح أو عامل من مشرق الشمس يفلُّ كلَّ بكور يوم، ضفائر الشمس أو جدائلها.. أما أولئك الذين لم يروا الشمس إلاّ سويعات من الأيام.. فأن للشمس منحى آخر وصورة أخرى بطعم مختلف، هي صورة (الفنتازي) كما هو التعبير المعتاد عن البهجة بكل يوم مشمس. لذا فأني لا أرى هذه الصورة مقتبسة أو مستعارة من مصدر أجنبي، وقد وردت الصورة هذه وما شابهها، كثيرا في الشعر العربي.
على أية حال، لعل الصديق يوسف على حق في تقديره وإعجابه بهذه القصيدة، فهي تكاد تجمع جلّ فضائل شعر الصائغ في القصّ وتكوين الصور، والاستعارات، والمباشرة أيضاً، أعني لغة الحديث اليومي، حيث يمكن أن نضيف إلى الصورة السابقة عن الشمس المشرقة لتوها، الصورة التالية للشمس أيضاً، وهي:

"تمشطُ في صفحة الماء.. خصلتها الذهبية
هنا نجمةٌ.. سقطتْ من غدائرها
هنا زهرةٌ.. نبتتْ
بين وقع الخطى.. والصباح."
أما الحديث اليومي الذي لا يمكن لشاعر تفاديه، فهو في مثل قوله:

"وقاسم مازال يقرأ أشعاره
كلما عشش الوجد في مقلتيه
يذكرنا بالطفولة والرازقي
وضحكة جارتنا، وطيور الحباري"

ومثل هذه القصيدة، قصيدة (أشياء عن علوان الحارس) في اقترابها الشديد، ونموذجيتها، من اللغة المحكية، وتطويع هذه اللغة للتعبير عن نماذج بشرية مألوفة ولكنها متوهجة.
ويحسن أن نلاحظ أن ثمة تلميحات أحسن الشاعر عرضها، إلى الموروث الأسطوري أو الشعري القريب، تذكر منها على سبيل المثال، تلميحة إلى مقتل أدونيس – أو تموز – بناب الخنزير البري حيث نبتت من دمه، زهرة حمراء، في هذا المقطع من قصيدة (ميم وقصيدة الأرض) ..
ولهذا لن نستغرب إذا وجدنا قسطا غير قليل من قصائد الديوان مخصصة لحب الحبيبة (ميم).. وهل في الحب غرابة! فضلا عن أن الحبيبة امتزجت بالوطن – الأرض .. بل (هي الأرض..) بكل مالها وعليها من أزهار، بساتين، فراشات، ندى، قمر، عشب، أغان، أبناء، أحفاد، مقاتلين، وشهداء ..
يعني لم يعد من السهولة التمييز بين الحب (الخالص) وبين حب الأرض وما تعنيه وتوحيه، رغم أن لكل ساقيته، فكل السواقي راحت تصب في النهر العظيم، العراق.
وبهذا المعنى – فيما أرى، ينبغي أن نرى ونفهم (غرور) الشاعر في قوله: (ويكفي غروري.. بأنك لي.. وكل قصائد شعري إليك)، فالبوح هو نفسه، والدلالة هي نفسها.
تبقى أخيرا بعض الهنات والملاحظات التي ما كنت أود الوقوف عندها لولا خشية أن يقال ما يقال عادة في "عين الرضا.." أو أننا لم نر كل ما ينبغي أن نرى، أذكر منها:
1. قوله (وكنت أطارد.. خلف الفراشات) ص 19 ولا حاجة لـ (خلف) لأن المطاردة لا تكون إلاّ وراء شيء.. فضلاّ عن أن (خلف) أضعفت العبارة.
2. قوله: (وكان الندى، يقبل فوق شفاه الزهور.. افترار الندى) ص 42 عبارة مرتبكة غير واضحة المعنى.
3. ثم لست أدري لماذا يكثر الشعراء الشباب من أمثال هذه التعابير الاكليشيهية (كل المخافر.. تعرف وجهي) ونعت القمر (بالغجري) ص 145 جرياً وراء لوركا، وهم يعلمون أن قمرنا ليس قمراً غجرياً، كما أن غجرنا – عمرهم ما كانوا مثل غجر أوربا!
4. أما دعوى أن خليل انتحر (برصاصة شعر) ص 55 فهي دعوى باطلة، والتعبير يستفز، فالشعر عمره ما كان رصاصاً ولا قاتلاً، وإذا كان (الشعر.. سلاح الفقراء) فهو سلاح المحبة والدفاع عن النفس ضد الهمجية والتخريب وتشويه الذات، أن الرصاصة التي قتلت (أو انتحر بها) خليل حامي لم تكن رصاصة شعر، بل رصاصة عدوه، رصاصة صهيونية بمعنى ما.. حتى مع أنها انطلقت من مسدس بيد خليل حاوي نفسه، أن الهجمة الهمجية الصهيونية على لبنان هي التي قتلت خليل حاوي ولا أحد غيرها.. وكل ما في الأمر أن خليلا قتل نفسه بيده مفضلا ذلك على ألاّ يقتل بيد الصهاينة، ولا فرق أن تقتل شخصا بنفسك أو أن تدفعه لأن يقتل نفسه بنفسه، ونحن نعرف خليلا جيداً، وأرجو أن يفهم هذا الكلام!


(*) من مقالة نشرت في صحيفة "الثورة" (صفحة ثقافة) بغداد 18/4/1985
 
البحث Google Custom Search