أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
عدنان الصائغ في هذه النصوص…
الشعر هو العزاء أو العشاء الأخير

نعيم عبد مهلهل

يندرج الشعر في التدرجات الحضارية في خانة الأشياء التي تمت الى الكمال بصلة ، على أساس طبيعة مبحثه . وهو هاجس يتوفر في الطبيعة بشكلين ، المادي والروحي . مثلاً المتنبي العظيم كان يكتب شعراً مادياً ، أما طرفة بن العبد فشعره روحي ، أي أن ألهامه قادم وذاهب الى موطىء لايمت للأرض بصلة لأنه يتحدث عن وجع ذاته الشخصية ولايتطلب ذلك رضى سيف الدولة أو غيره من الملوك .
للشعر مجرى يمشي عليه سياق القول وعلى ضفتيه تتلاعب خيالات المرء التي أراد بها أن يكتشف متعة الوجود وقدرته أن تكون موهبته الروحية هي الصانع لهذا الوجود المصنوع عن طريق الألقاء أو المدونة وعندما تكتمل قصيدة عند شاعر فهذا يعني في التقدير الحضاري لولادة الحدث الأنتهاء من بناء ناطحة سحاب . والشعراء يغتربون بالحدث كي يصنعوا لأرواحهم مؤى يقيهم عاصفة اليوم الذي أرادوا به أن يعيشوا اللحظة بكامل أحاسيسها وعندما يتحقق لهم ذلك تكون الورقة هي المصب الذي ينتهي أليه المجرى الذي تحدثنا عنه قبل ذلك .
هذه مقدمة مفترضة لنصوص أقرأها لشاعر تربطني معه مودة أزلية لأزمنة الخجل والأمتناع عن منادمة الكؤؤس ، ورغم هذا فهو يكتب الشعر بثمالة أبي النؤاس . وكنت قديماً أرى في شعر عدنان الصائغ ضربات على وتر القلب ، وأنها بفهما للذات الداخلة فينا أنما ترينا قدرة الشعر على أحداث المتغير . فكان الشعر لديه مشاهدات لاتنتهي لوجود الألم حتى كاد ينفق مثل طير حرم من الماء لأيام عدة ، مشاهدات كانت الحروب فيها تطل على ذاكرته التي نفت نفسها داخل نفسها فحكم عليها أن تكون شاهد عيان لهدر كوني سببته الشظايا بصفاء المرآة التي صنعها الله في خيال كل شاعر عراقي.هذه المرة أشتعلت عيناي ببهجة قراءة نصوص جديدة لعدنان الصائغ ، ورأيتها كما يراها أبن بطوطة كشفا لأثر جديد لمسيرة الظل المتأسي الذي درجت عليها رؤى عدنان وهو ينحت من جدار قلبه تمثالاً لبوذا آخر يرى في الشعر مصيدة للغزلان والحروب والنكسات التي تحملها لنا تقارير الوطن البعيد حيث فضل هذا الشاعر الذي كانت رقة قصائدة تعبر حواجز النقد ? تترك في الأثر شيئاً من موسقى هادئة ، فضل العيش وأسرته في بلد ربما تكون القيم فيه بقدر الحرية التي يفكر بها الفرد الجرماني أو هكذا يتشكل المجتمع السويدي الذي أختير مهجراً ومنفى للشاعر العراقي عدنان الصائغ الذي أضع أمام طاولتي نصوصاً شعرية حدوثة العهد برؤاه لأقرأ فيها مالذي يريد أن يقوله الصائغ بالضبط ؟ وهي على التوالي نصوص {مقبرث جماعية ، نص دون عنوان برك هكذا …. ، أبواب ، حنين ، العراق ، عابرة ، شاعر، شيزوفرينيا ، رقعة ، وطن ، الحلاج ، العبور الى المنفى ، ريح ، تكوينات ، درس في التأريخ ، رسام ، حساب ، سهم ، خطوط ، شكوى}
هذه النصوص هي بضاعتي التي سأصنع منها مائدتي لعشاء الليلة وأنا أعرف أنها مهمة شاقة أن تبدأ مع القصائد متسلسلاً مثل ذلك الذي يصعد سلم زقورة أور رغبة منه بمنادمة ألهتها فلا يجد سوى مراب الأزمنة وضجيج القاعدة الجوية .
في مقبرة جماعية يرسم الصائغ  {جرنيكته } الخاصة لحدث حتى اللذين هم خارج الحدود شهود عليه . حدث طالما تكرر في القرن الماضي حتى سمي عن جدارة { قرن المقابر الجماعية } مثلما هو قرن السريالية والوجوحية وسينما { ذهب مع الريح وشرقي عدن } وهو قرن قال عنه أحد الثملين دائماً في حسن عجمي { أنه رائع لولا هذه المنغصات ، فلقد أعطانا السياب والبياتي وأودنيس وجان جينيه وفوكنر وسان جون بيرس ومشيما ، وطاغور ونيكازاكي ، وفصائل لاتنتهي من ناظم حكمت وأنتهاءا برعد عبد القادر } لأجل هذا الحزن العشريني الذي مورس في قرن وكشف في آخر أراد عدنان الصائغ أن يمارس حقه في الحفر لا ليبحث عن لقية كما عند رجال الأثار بل مساهمة في كشف العنف الذي كان يمارس بحجة أن السياسة وأمن الوطن كانا مهددين فكانت أفران التراب شاهداً على محرقة تنظم الى طابور طويل من المحارق . لتكون لغة التواصل مع الحفر موثقة بأنامل الشاعر الذي كتب القصيدة :{ منذ عشرة أعوام / تجلس الأم بكامل فجيعتها / على رصيف أعوامها المغبرة / في أنتظار عودته من مقبرته الجماعية } ….
هذا المشهد وغيره من مشاهد القصيدة يحفز لدى ذهن القارىء صورة الحدث المر، بل ويجعله يمشي مع النص خطوة بخطوة ، رغم أنه هنا لم يتحدث عن رؤى غريبة المشهد ، إلا أنه يعكس ما تنقله شاشات التلفزيون بمرآة أخرى . أن مشهد الأم هو مشهد الفجيعة العراقية التي عندما ندونها على لوح أقدارنا سنجدها صفحة سوداء الى جانب الكثير من الصفحات السود . ويمكن أن نفهم من هذه القصيدة : أن لاشيء يفوق توثيق الشعر .
في القصائد الأخرى يشتغل ذات الهم ، وقد أضاف إليها الشاعر ما تريد ذاته أن تصل أليه مجرباً في قصيدة أبواب شيء من معاضل المتصوفة :{ أطرق باباً / أفتحه / أدخل / لاشيء سوى باب آخر / ياربي كم باباً يفصلني عني }
وهذا هو الهم الوليد من هجرة الذاكرة الى القصد الذي تتمناه حلماً جميلاً لكنه لن يكون دون وطن هو الوسادة لولادتك الطبيعية ، وهذا الكشف نجده عند عدنان الصائغ في قصيدة العراق: { العراق الذي يبتعد / كلما أتسعت في المنافي خطاه }. وقد حفل هذا النص بجرأة الصورة البسيطة ذات الدالة العميقة المحملة بعربة من موسيقى الشعر كقوله { والعراق الذي تفتقد / نصف تأريخه أغان وكحل ../ ونصف طغاة }
وهكذا يصبح الشعر عند عدنان الصائغ توثيقاً لحالات لاتنتهي من كشوفات الروح ، أنه يشتغل على مدونات مرئية مصنوعة من ذائقة ثقفت نفسها لتعزف للمتلقى شيئاً من رغبة الشعر ليكون من صنع ربات الشعر لا من صنعنا نحن / لذلك يكون المتحسس الآتي لديه هو صياغات حكيمة لجرأة الروح لتكتب عن مكابداتها في غربتها الطويلة ولكن مكابدات الشعر تقارب مكابدات وقيعة الفلسفة تماما كما في {حنين}:
}وقد بعد الدرب مابيننا والعتاب / وكيف أرى الصحب / من غيبوا في الزنازين أو سلموا للتراب } ، بعد ذلك يدخل الشاعر في معضلة حيرته التي حتى الشعر لم يجد لها حلاً فيقول: { أنها محنة ـ بعد عشرين ـ أن تبصر الجسر غير الذي عبرت / السماوات غير السماوات / والناس مسكونة بالغياب }
في وجدانيات النصوص تأتي { عابرة ، وشاعر ، وشيزوفرينيا ، والحلاج } وهي نصوص توثق هماً مشتركاً ولكن بأشتغالات مختلفة أستطاعت أن تقف عند حدود التمكن لدى الشاعر ليعرض بضاعته وهو بذلك يستطيع أن يتحدث عن المعاضل بشتى أشكالها ، فالعلاقات الإنسانية صانعة الأبداع الجيد وأنها في كل صورها بالنسبة لشاعر كالصائغ تمثل قدراً تمليه علينا رغباتنا لنخرج من جوفنا هذا الكائن الخرافي الذي يسمونه الشعر ، ولكن قصيدة الحلاج تميزت أنها لم تكن وجدان ذات واحدة ، بل هي وجدان شعب بأكمله وهنا تكمن طاقة الشعر القصوى عندما تتحرك صوبنا : { كم دعوات حرى تتصاعد يوميا من أعماق الناس / لكن لا أحد حاول أن يصعد في معناه الى رؤياه……}.
{العبور الى المنفى} قصيدة تعي ما تقوله تماماً ، هي مشاهد لومضات كثيرة ، وهي أنفعالات لذات تتشظى في قنابل الشعر ، وهي أيضاً خطاب عام سيسه المنفى فكاد يأخذ من جرف الشعر كثيراً لولا كاميرة الشاعر الذكية التي خلصته من إحراجات كثيرة في وصف الرئيس كما في خربف البطريق لماركيز . غير أن المشاهد الأخرى في هذه القصيدة أعانته كثيراً ليعود الى هيبته مثل قوله { وطني حزين أكثر مما يجب / وأغنياتي جامحة وشرسة وخجولة}
يمشي الشعر عند عدنان الصائغ بعكازين من ذهب وهو من اللذين يتحسسون وقيعة وجودهم بالإكتتاب العام ولكن في ساحة المدينة الافلاطونية ، أي أنه في التاليات من القصائد يشتغل على تنويعات جديدة فيها صور لا تحصى من هم المنفى اليومي ، وهي مشاهد رائعة من شعر حقيقي كقوله { في تكوينات } : { العصفور يصدح داخل قفصه / أنا أرنو إليه / وكذلك قطة البيت / كلانا يفترس أيامه } و { النصل الذي يلمع في العتمة / أضاء لي وجه قاتلي } و { أعرف الحياة من قفاها / لكثرة ما أدارت لي وجهها } . بعض هذه المشاهد حفلت برومانسية عالية الأتقاد ، رومانسية غارقة بهم الشاعر المضطرب كما بيت الطين في الزلزال ، ولأنه وليد تراث محمل بالمشاهد الغارقة في العشب ، كانت رومانسية الوصف لديه ليست ذكية أيضا بل وجميلة مثل هذه :{ عندما لم يرني البحر/ ترك لي عنوانه: زرقة عينييك / وغادرني} أو { يلعق المطر جسدك / ياه ../ كيف لايغار العاشق } وهكذا تذهب الى ذات الروح قصائد كثيرة وكأنها متأثرة بمثل هذا الشكل في الشعر الياباني في عصوره الوسيطة .
ثمة ملاحظة فيما يخص شعر عدنان الصائغ الذي كنت أقرأ له منذ ثمانينات القرن الماضي ، هو ذاته عدنان بقي ضمن سياقات المشهد وأن تغيرت عصوره . أي أن التحديث لدى عدنان شمل الفكرة فقط . أما نمطية الجملة وأحساسها فهي أزلية لاتفارقه أبداً . وقد يقال أن أدوات الشاعر ينبغي أن تتطور ، فهذا ليس ملزماً . فمتى أيقنت أنك صرت شاعراً ، فالتطور يأتي مع مسببات أجتهاد الشاعر في أرساء البنية الداخلية لمشروعه أولاً . وعدنان يعي هذا التفكير جيداً .
نأتي الى ما تبقى من النصوص . لقد ظلت تتحدث بكامل عفويتها لتكون شجناً يرتقي الى لحظة الوصول الى ضمير المفردة ، أي أنها لم تستسلم لتكرار ، أو حدث هامشي . كان الوطن معه ، حتى في الجيب المخفي لقطع النقد المعدنية ، وكانت الحركة في القصائد حافلة بالمتغير على صعيد الرؤية الواضحة ولكن من خلال كلام الشعر ، وقد أرتقى في قصيدة { درس في التأريخ } الى مستوى وعي الشاعر بوجوده الحضاري ليكون شاهد عصر حقيقي والفاهم الأول للذات التي ترى من أستلابها لحظة من بريق قمر سيطل على ذاكرة الكهول اللذين صنعوا نصف الدنيا في يوم ما ، وهذه مدونة القصيدة تكشف ما أتحدث عنه تماما : { أطرق مدرس التأريخ العجوز / ماسحاً غبار المعارك والطباشير عن نظارتيه / ثم أبتسم لتلاميذه الصغار بمرارة : ما أجحد قلب التأريخ ! / أكل هذا العمر الجميل الذي سفحته على أوراقه المصفرة / وسوف لايذكرني بسطر واحد. } . أما قصيدة { حساب } فهي درس مفيد للكشف عن حقيقة رسالة الشاعر ، ومدى ثقافته التي ترتبط بالميتافيزيقيا التي ولد منها الشعر ، وانا أجدها خاتمة مناسبة للتوقف عند تلك النصوص التي رأت العالم من خلال قلب الشاعر لا من خلال عينيه ، وهو بذلك يشيد لمأساته حصنا لا يخترقه إلا الضوء ، وهو بندائه الى الرب ، أنما ينادي عشاق العالم وجياعه كلهم ، وربما يضيف أليهم شهداء حروب بلاده الألف ، والمتقاعدين منذ عهد سلالة سومر الثالثة حيث عاش الشاعر بمجد يشبه مجد الملوك كما تقول المدونات :
{أيها الرب ..
إفرش دفاترك
وسأفرش أمعائي
وتعال نتحاسب!}
الآن أكلت أخر رغيف من هذا العشاء . وأظنه عشاء أخير، فذات يوم سيأتي لي عدنان الصائغ بنصوص أخرى ، وحتماً سأجلس قربها وأحضر لجوعي مائدة جديدة…..


(*) موقع "عراقيون" على الأنترنيت 15/5/2004
 
البحث Google Custom Search