أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
تجارب ومواهب

(1)
البحث عن الأصالة..

عبد الجبار داود البصري

ديوان عدنان الصائغ: "انتظريني تحت نصب الحرية" ثري ثراء غير اعتيادي بصوره وتجاربه ورؤاه. فهو مساحات لونية شاسعة تلطخ جناحي أي نورس يحط عليها، وهو جنائن لفّاء تقيت ألف مملكة من النحل ولا ينفد رحيقها، يخدعك ازدحام الشخوص فيه وهم نخبة مختارة، وتظنه رومانسياً وهو غائص في أعماق الواقع، يبحث عن جماليات الطفولة والريف فاذا وجدها وظفها في خدمة الحياة والمجتمع، يحبب ما لا يحب، ويتذوق السكر فيما لا سكر فيه، لا تخاصمك قصائده ولا تستفزك ولا تتحداك ولكنها تحرق الأصابع التي تمتد إلى جمرها.
يمكن تقسيم قصائد الديوان لغرض الدراسة فقط إلى خمس فئات: قصائد حب، وقصائد درامية تقدم نماذج بشرية، وقصائد المناسبات السياسية، وقصائد الحرب والمعركة، ثم قصائد المعاناة الإبداعية.. وأفضل أن ابدأ بالحديث عن الفئة الخامسة للأسباب الآتية:
1 – إن الحديث عن المعاناة الإبداعية حديث عن الخلفية والأعماق الأساس الذي ينطلق منه الشاعر.
2 – تشكل قصائد المعاناة الإبداعية دليلاً مرشداً يجيب عن كثير من الأسئلة التي تثيرها تجارب الشاعر في العالم الخارجي.
3 – إن هذه القصائد تحبب نفسها للناقد لأنها أقرب إلى فاعليته من أية فئة أخرى.
وتقع ضمن هذه الفئة القصائد الآنية: تداعيات شاعر من 53 – 55، في انتظار القصيدة ص 133 – 135، من أين تأتي القصيدة ص 139 – 141، حالة خاصة ص 163 – 164.
قصيدة "تداعيات شاعر" مكتوبة أساساً كمرثية لبيروت وخليل حاوي المنتحر برصاصة شعر، وهي دعوة لكتابة القصيدة المقاتلة والمقطع الأول منها يصور لنا بداية شاعريته ومصادر هذه الشاعرية.
أما البداية فليست زمنية محددة، بعمر معين بقدر كونها بداية وعي. فمنذ اللحظات الأولى التي بدأ فيها يحلم ويتذوق جمال الطبيعة بدأ بالبحث عن أزهار الشعر.. وقد اقترن هذا البحث بالبحث عن أعشاب السحر.. وحين نقرأ ما يقوله الصائغ نكتشف أنه كان بحثاً هادفاً لمداواة الحزن والصبابة وليس عبث عابث كما أنه يشخص مضمون قصائده الأولى باعتبارها مسيل دمه.. إنها صورة رائعة لتصوير طفولة شاعر حقيقي:

"كان النهر صديقي منذ نعومة أحلامي
وأنا أتسكع في ضفته الممتدة حتى آخر أطراف القلب
بحثاً عن أعشاب السحر وأزهار الشعر
أداوي فيها أحزاني الأولى وصباباتي الأولى
فتشك الأشواك نعومة كفي وتسيل دمائي في النهر.."

ويمكنك أن ترى في فعل التسكع تواضع البداية وموضوعية الشاعر، ويمكنك أن ترى في امتداد ضفة النهر صدقه وعمق شعوره. ويمكنك أن ترى فيها أكثر من هذا وذاك..
فاذا انتقلنا إلى القسم الآخر من هذا المقطع الذي يتحدث فيه عن مكونات الشاعرية ومصادرها أعجبتنا علميته الجميلة في تحديد هذه المكونات.. ففي مقدمتها تأتي البيئة المحلية والمرأة، ثم التراث الشعري القديم مرموزاً إليه بالمتنبي، والشعر الحديث مرموزاً إليه بالسياب، وأخيراً سيكلوجية الشاعر وما يعتمل في أعماقه من رؤى وأحلام:

"كنتُ كثير اللهو أشاكس جارتنا
وأمر على جسر الكوفة – في الليل – وحيداً محترقاً
أقرأ أشعار المتنبي والسياب
وأنام مع الريح..
فأرى امرأة تنثر أشواق ضفائرها في النهر
وتدعوني أن أهبط..
أجلس.. فوق الدكة..
أرقبها"

وفي قصيدة حالة خاصة يصور لنا معاناته المريرة والمرهقة في العثور على ما هو جيد وجديد ويستخدم في هذا التصوير تكراراً لفظياً ينجح في نقل السأم والجهد المتكرر الذي عاناه:

"وأسافر كالريح وراء الكلمات
بحثاً عن مفردة لم تهتك بدواوين الشعراء
بحثاً عن بحر منسي لم تجدف فيه مراكب صيادي الكلمات
بحثاً عن غابات عيون امرأة
لم يسرق من أشجار مفاتنها عصفور أو شاعر
بحثاً عن شبر من وطني
لم تنبت فيه زهرة قداح أو ثائر
بحثاً عن ساقية ما مر بها عابر
بحثاً عن جذع شجيرة تفاح
لم ينقش فيها
العشاق مواعيدهم الأولى"

إن هذا التكرار ليس احصائية عشوائية وأنما هو تكرار مخطط له فهو بحث عن الكلمة الأصيلة، والصياغة الأصلية، والموسيقى الشعرية الأصيلة، والموضوعات الأصيلة، والمنابع والمصادر الأصيلة.. ولعل هذه المعاناة أدركها أكثر من شاعر منذ قال عنترة: (هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم..) ولكن أياً منهم لم يعبر عن البحث عن الأصالة كما عبر عنه عدنان الصائغ بهذه الأصباغ، وهذه الحرارة، وهذا الوضوح..
وعدنان الصائغ بقدر ما يعاني من بحث عن الأصالة يعاني أضعافاً مضاعفة في الهروب من التبعية والتقليد حيث يقول:

"بحثاً عن مقهى
لم يجلس فيها البياتي وحسين مردان
بحثاً عن أرصفة
لم تعرض زينتها للمارين
بحثاً عن جسر ما مرت منه نسائم أنفاس السياب
بحثاً عن......"

إنه يضع إصبعه على مشكلة من مشاكل الشعر الحديث فالبياتي والسياب يتقاسمان عالم القصيدة الجديدة ويمارسان ضغوطاً عديدة على الشعراء ويلقيان ظلالاً، من الصعوبة التخلص منها..
وبسبب هذه المعاناة نجد الشاعر قليل العطاء:

"يا وطني أتعبني الجوال
فنمت على صدرك أياماً..
من دون قصيدة"

ويصور لنا في قصيدة (في انتظار القصيدة) معاناته في كتابة قصيدة غزلية وتمزقه بين أن يقول كل ما يحس به وبين ما ينبغي أن يقال..
وتأتي صياغاته مثقلة بالاستعارات والكنايات.. التي تجمع عراقة اللغة وجماليات الحداثة حيث يقول:

"في انتظار القصيدة.. أوقدت صبري على بابها
شمعة للترقب
ثم انحنيت على أضلعي خشية أن تفر
طيور الحنين الحبيسة نحوك
أن يفلت القلب.. هذا المبلل بالوجد من قفصي
ويضيع بغابات حبك مستوحداً متعب الجفن
منطفئاً بالغصون"

أما قصيدة "من أين تأتي القصيدة" فتعرفنا بأن الوحي لا يأتي الشاعر كل حين وأن الشاعر نفسه لا يعي أي مكان أنسب لاستقبال الوحي وأي زمان؟ ولا الكيفية التي يأتي بها.. وحين يجيء يخضّ الشاعر خضاً ولا يرتاح حتى بعد أن تولد القصيدة لأن عملية الإبداع الفني لا تنتهي إلا عند المتلقي:

"وأحتار.. كيف تجيء القصيدة
وتضرب كالموج شطآن قلبي بلا موعد
تتكسر فوق رمال الورق
ثم ترحل نحو الضفاف البعيدة
وتتركني والقلق
..... ومن أين تأتي القصيدة؟
ما اسمها؟"

وقد أبدع الشاعر في استبطان ذاته فحين يحس بدعوة الوحي للكتابة يلازمه هذا الهاجس وهو في الشارع، في الحدائق، في المكتبات، في كل مكان..
ولا يعف عنه حتى حين يأوي إلى سريره لينام:

"وكنت أطارد منذ الطفولة خلف أريج ضفائرها
متعباً فتراوغني، ثم تفلت مني مشاكسة
فاللعينة تعرف أني أموت إذا خاصمتني
لذا سوف تتركني هائماً طول عمري
كسير الخطى خلفها
وتذوب بموج الزحام"

إلى أن يقول:

"وحين أعود إلى شقتي متعباً.. خائراً
سوف تنقر نافذتي – هكذا بهدوء –
وتجلس فوق سريري وتتركني والأرق.."

وللشاعر قصائد أخرى تكمل تصويره لهذه المعاناة نشرت بعد تقديم مجموعته للطبع..
سنعود إليها فيما بعد...
ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ يوسف نمر ذياب أول من نبه إلى شاعرية عدنان الصائغ واكتشف أهميته من خلال قصيدة واحدة نشرها في جريدة "الجمهورية" بعنوان – صباح الخير أيها المعسكر – وقد اعتبرها نموذجاً جديداً للقصيدة اليومية الجديدة.. وكان مصيباً.


(*) نشرت الحلقات الثلاث في صحيفة "الجمهورية" – بغداد/ 1985
 
البحث Google Custom Search