أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
قراءة في قصيدة

د. مكي الرماحي

بدءاً أن الشعر لا يحتمل المحاكمة القاسية التي تحصي عليه حتى أنفاسه ليس لخصلة سيئة فيه-, ولكن لأن له قوانينه الخاصة التي تحكمه من جانب وتمكنه من جانب آخر من أن يتقدم بكل أمان وحرية.
لكنني مع ذلك لست ممن يشجع الذين يتخذون من خصوصية الشعر هذه ومؤهلاته التي يمتاز بها عن الأنواع الأدبية الأخرى, وسيلة للتحايل من أجل نسف القوانين التي تحكمه فتفقد كل رونقه وسحره وتتمعن في خرابه فتتحول (الخصوصية هذه إلى حالة ضد قانونه إنما أراها –أي الخصوصية- هي التي تمنحنا حق القراءة الخاصة للشعر والتفحص الخاص له كي نكتشف إلى أي مدى استطاع الشاعر أن يحسن التصرف بما يمنح له من خصوصية وامتيازات.
وإذا كانت المفردة الأدبية هي لبنة البناء في كل أنواع الأدب, فأن اختيارها في البناء الشعري يرتبط هو الآخر بخصوصية فريدة تعتمد على ما يمتلك الشاعر من رهافة حسية تؤهله لتحديد المكان الأصح والأفضل للمفردة الشعرية وهو المكان الذي تستطيع من خلاله أن تفجر أقصى ما يمكنها من طاقة مختزنة فيها.
ومن هذا المنطلق لا غير أتحاور بهدوء مع الشاعر "عدنان الصائغ" من خلال وقفة قصيرة أقفها عند قصيدته "سلاماً يا جسر الكوفة".

يبدأ عدنان الصائغ قصيدته قائلاً:
- "يا جسر الكوفة.. اذكرني
    إن مرّت محبوبة قلبي
     تسأل عني النهر.. وأشجار النارنج
     وكل عصافير حديقتنا
     في عينيها الضاحكتين.. قرأت قصائد حبي الأولى"
هنا أسأل الشاعر عن أي الشيئين لديه أجمل وأبهى وأكثر وقعاً في النفس [القصائد الأولى أم الحب الأول] ولا أعتقد انه سيتردد أو يتمعن في التفكير قبل أن يختار العبارة الثانية الحب الأول لأنه فيض غزير من القصائد الساحرة له بداية وليست له نهاية سحر يخطف الألباب ويؤسر الأنفس ترى ما الذي دعاه أن يقول في عينيها الضاحكتين.. قرأت قصائد حبي الأولى؟
ولم يقل قصائد حبي الأول-؟
ثم ألا يتفق معي الصائغ أن لا أفضلية بين أن تكون قصائد الحب قصائد حب أولى أو أخيرة طالما هي جميعها قصائد حب يكتبها قلب عاشق وتلفظها جوانح متلهفة؟
وأعتقد أن الصائغ يمتلك من رهافة الحس ما يجعله لا يخطئ في تفضيل قصائد حبه الأولي على قصائد حبه الأول – لما بين الحالتين من فرق شاسع لا يقبل النقاش في أي اتجاه.
*  *  *

ثم يستمر الصائغ في قصيدته فيقول:
    - "ورأيت مروج بلادي تضحك تحت الشمس
      وكتبنا يا لله – معاً..  
      فوق جذوع نخيل الكوفة..
      اسمينا المرتعشين" –
أعتقد أن اختيار كلمة المرتعشين – لم يكن اختياراً موفقاً في التعبير عن الحالة التي أراد الشاعر وصفها, هذا من ناحية, ومن ناحية ثانية فأن في المقطع تناقضاً في غير صالح القصيدة, إذ أن النخيل يوصف دوماً بالثبات والاستقرار فكيف يكتب فوق جذوعه اسمان مرتعشان وما الفائدة الفنية التي توخاها الشاعر من استخدام مثل هذا التناقض.
ولو قال اسمينا مرتعشين بجعلها (حالاً) لكانت أجمل وأعذب في إذن السامع ففي الحالة الثانية تصبح الارتعاشة تعبيراً عن وجل عذب يتذوق طعم شهده العشاق وأعتقد أن الفرق واضح بين القولين مثلما أعتقد أن الشاعر الصائغ وهذا مجرد اعتقاد استدرجت إليه من الانسيابية العامة للقصيدة قد أراد المعنى الثاني الذي اقترحته عليه لكنه ضاع في عجالة التعبير والدهشة في تصوير هذا الموقف المملوء بالإثارة والنشوة.
ويستمر الصائغ في قصيدته فيقول:
- "هل تذكر يا نخل الكوفة موعدنا الأول"
وهنا أعود بشاعرنا الصائغ إلى ملاحظتي عن قوله السابق
    "... قرأت قصائد حبي الأولى"
فأقول أن عبارتك موعدنا الأول تكافئ عبارة قصائد حبي الأول التي اقترحتها من قبل كبديل عن قولك قصائد حبي الأولى لأن الحب الأول, والموعد الأول صوان يحملان كل ما يثير الترقب, في النفس الولهى بالحب أكثر مما تستطيع حمله بقية التفاصيل الصغيرة كالقصائد الأولى.
ونستمر مع الشاعر الصائغ في قراءة قصيدته إذ يقول مخاطباً نخيل الكوفة:
- "هل تذكر أشعار السياب.. وعينيها الماطرتين
  .. وقلبي
  هل تذكرني..!
  كنت صبياً
  أجلس تحت ظلال التوت"
هنا أضع نفسي موضعاً حذراً خشية أن يعد الصائغ أنني ألتقط عليه الأشياء الصغيرة حين أقترح استبدال - تحت ظلال التوت - بـ - عند ظلال التوت خصوصاً وأني أشرت في مقدمة كلامي إلى أن الشعر لا يحتمل المحاكمات القاسية.
ولكن كيف يريد الصائغ أن أصمت وأنا أسمعه يقول – أجلس (تحت) ظلال التوت؟
صحيح أن المعنى الذي أردته واضح من الإطار العام للعبارة ولكن الشعر لا يؤخذ في كل الأحيان بإطاره العام ويترك التفاصيل وإلا لفقد الشعر عند ذاك كل كبريائه وتنازل عن عرشه ونحن نتوخى من الشعر دوماً أن يستخدم العبارة الأصح كلما أمكن إلى ذلك من سبيل حين لا يسرق هذا الاستخدام شيئاً من جمالية الصورة وألوانها فالظل هو الفيء المتكون على الأرض من خلال احتجاب أشعة الشمس بواسطة أشجار التوت فأين سيكون مكانك – بالضبط وأنت تجلس (تحت) هذا الظل المتكون (على) الأرض؟
ويتابع عدنان الصائغ قصيدته إلى أن يقول:
                "يا جسر الكوفة
        خبرني عن محبوبة قلبي
        احمل كالريح – سلامي
        املأ عيني – بظلال ضفائرها"
وهنا أعترض على قوله املأ عيني – وأقترح أن يتحدث بصيغة المثنى بدل المفرد فيقول املأ عينيّ "مثنى" لأن القول بالمفرد يشير إلى فتور في الشوق وهبوط في التلهف إلى لقاء المحبوبة التي من أجلها "يبوس نخيل الكوفة جذعاً.. جذعاً.. ويذوب عناق".
وان كنا لا نختلف على أن الشعر يحتاج المبالغة أكثر من غيره من أنواع الأدب الأخرى للحد الذي أوصل إلى قول أكذب الشعر أعذبه – فأن الأمر الآخر الذي لا يمكن الاختلاف عليه هو أن القول بالمفرد – (في حالات كهذه) يشكل خللاً داخلياً بليغاً في الحسابات البيانية لخارطة القصيدة أولاً, وهو عيب من عيوب القصيدة ثانياً يعير له النقاد اهتماماً كبيراً لدى تقويمهم لأية قصيدة وتراثنا النقدي حافل بمفردات كثيرة لنقد مثل هذه الاستخدامات الشعرية.
وهناك ملاحظة أخرى يجب التنبه لها. ففي المقطع نفسه أرى أن قوله بظلال ضفائرها قول يندرج تحت نفس الحالة التي أشرت إليها تواً.
فالصائغ يعرف جيداً أن (ظل الشيء) لا يكفي الشيء ذاته ولا يحمل من الشيء الأصلي غير الشكل الخارجي فلماذا اختار شاعرنا أمنية أن يملأ عينه بـ (ظلال ضفائرها) وليست بالضفائر ذاتها؟
هذه الحالة هي جزء من الحالات التي يعاب استخدامها في الشعر وتؤخذ عليه مأخذاً كبيراً حين يراد تقويم الشعر بصورة دقيقة.
ويتابع الصائغ قصيدته فيقول:
         - "دعني - يا جسر – أعبُّ أريج المشمش والرمان
           خبرني.. إن مرت فوق الجسر
           تحيي الجند المارين
           وتسألهم عني
           ……"
هنا أسأل الشاعر عدنان الصائغ عن مغزى قوله (فوق الجسر) طالما ابتدأ حديثه يناجي الجسر ذاته "دعني يا جسر..", فلو انك استعملت صيغة النداء في البيت الثاني مثلما استعملتها في البيت الأول لما حصل هذا "النشاز" الواضح في البيت الثاني فماذا ستفقد "الصورة الشعرية" التي تريد رسمها لو قلت مثلاً:
- "خبرني إن مرت "يا جسر"
تحيي الجند المارين
......"
ترى فهل لتلك الصيغة التي أبحتها لنفسك من سابقة سبقك إليها أحد؟ فأن كنت في البيت الأول قد خاطبت الجسر – دعني يا جسر – فمن الذي تقصده بمخاطبتك في البيت الثاني حين تقول "خبرني" فالذي يقرأ البيت يحس أنك تخاطب زميلاً لك كي يخبرك حين تمر حبيبة قلبك "فوق الجسر" بينما الذي يبدو لي هو انك ما زلت تتحدث "مع الجسر" استمراراً مع البيت الأول
دعني..
خبرني..
لكن الذي حصل هو أن لهفة شاعرنا وشغفه بلقاء حبيبته وانشداده بكل تفكيره لذلك اللقاء أضاع منه فرصة اختيار العبارة الأدق في هذا المجال حتى غاب عنه في زحمة التفكير من انه ما زال يتحدث مع الجسر – الذي ستمر عليه حبيبة قلبه حينما انتقل في قصيدته إلى البيت الثاني ناقلاً معه كل شحنة الحب التي في جوانحه.
ويستمر عدنان الصائغ في قصيدته "سلاماً يا جسر الكوفة" – إلى أن يقول عن حبيبته:
- "......
فأرى عينيها الشاعرتين
تنهمران سنى من فرط الوجد"
فهنا تبرز مهارة شاعرنا الصائغ في صياغة العبارة وحسن الاختيار, فقوله – عينيها الشاعرتين – هو دليل وليس الدليل الأوحد على رهافة حس ودقة في الاختيار يمتلكهما الصائغ والتي راهنت عليها في مقدمة حديثي.
رهافة الحس الشعري هنا تكمن في انه لم يقل فأرى عينيها الشاعريتين – فيقلل عند ذاك من تأثيرهما السحري في نفسه والفرق واضح بين القولين ففي القول الأول فأرى عينيها الشاعرتين يصبح الشعر كله جزءاً صغيراً مما تفيض به عينا حبيبته, فصير عيون حبيبته شاعرتين فأعطاهما "الصفة الكلية" ليبرز تأثيرهما في قلبه ونسخ عنهما "الصفة الجزئية" التي لا تليق بهما.
أما حين يقول فأرى عينيها الشاعريتين – فأنه في هذه الحالة سينسب (عيني حبيبته) إلى "الشعر" أي تصبحان "جزءاً" من كل, وهذا ما لا يرتضيه الشاعر لا  لنفسه ولا لحبيبته.
ويستمر عدنان الصائغ في قصيدته فيقول:
- "فلماذا – يا جسر الكوفة.. لا ترحمني عيناها
     في البعد
     ولماذا حين تمر الريح بليل ضفائرها
     يرتعش العطر الجوري.. في سندانة قلبي
     ويشب الورد"
وهنا أعترض على قوله "يرتعش العطر الجوري" لأن العطر شيء محسوس وغير ملموس بينما الارتعاشة عبارة عن حركة والحركة ميزة الأشياء الحية الملموسة فلا يمكن أن تتفق الصفة والموصوف في هذا الإطار واعتقد لو انك قلت "يشب العطر الجوري.. في سندانة قلبي ويرتعش الورد" لكان أجمل وأصح وأدق تعبيراً عما تريد قوله.
فحينما (يشب) العطر الجوري بمعنى تفوح رائحته الزكية يكون هذا الوصف أكثر دقة من أن نصف (العطر) بالارتعاشة التي لا تتفق وصفات"العطر".
كذلك الأمر حين نستبدل عبارة (ويشب الورد) ونضع بدلها ويرتعش الورد فالارتعاشة حركة (والورد) شيء حي فتنطبق الصفة هنا على الموصوف.
أقترح هذا رغم علمي أن قولنا (ويرتعش الورد) فيه خلل موسيقي لا يمكن انكاره إلا أنني أقترح ذلك من جانب (نحوي) فقط ولك أن تستبدل كلمة (ويرتعش) بأية كلمة تلبي الحاجة الشعرية وموسيقاه دون أن تشكل خللاً وتناقضاً بين الصفة والموصوف.
أخيراً.. لا بد أن أقول أن لشاعرنا الصائغ – معذرة فأن ملاحظاتي هي مجرد "آراء" قابلة للدحض والمناقشة وأنها ليست غير مقترحات لا أدعي فيها غير وجهة نظر قارئ عبّر عن رأيه فيما يحب أن يقرأ ويسمع من شعر.
  

(*) نشرت في صحيفة "القادسية" – بغداد 22/1/1988
 
البحث Google Custom Search