أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
"ديوان صراخ بحجم وطن" للشاعر عدنان الصائغ نموذجاً

انتفاضة الشعب العراقي في شعر التسعينات

د. قاسم البريسم
- لندن -

لم تكن انتفاضة الشعب العراقي ضد نظام صدام حسين حدثاً عابراً في حياة العراقيين, بل كانت ثورة شعبية, وصرخة جماعية بوجه النظام, لم يشهد مثلها تاريخ العراق المعاصر. لقد هزت الانتفاضة أركان النظام, وانتهت أسطورة النظام الحديدي وتركته يلعق جراحه ومخاوفه في الحفر والخنادق, كما أنها حررت العراقي من عقدة الخوف (الفوبيا) التي افترست نفسه وعطلت إرادة الثورة فيه, في ظل الأجهزة الأمنية التي زرعها النظام.
في الانتفاضة ثار الإنسان العراقي على سجّانه الأول (الذات) وتمرد على قانون الخوف والتردد, ومزق كفن تحنيطه, وفجر انهزاميته مع نفسه أولاً. ثار العراقي في ظل الانتفاضة بالكلمة وتحررت عقدة لسانه, قبل أن يثور بالبندقية, فاتحد الشعور بالبندقية, فكانت الانتفاضة العظيمة.
لقد وضعت الانتفاضة الشعب العراقي في طريق المقاومة العلنية والمواجهة الفعلية, وبالرغم مما اعتلاها من سلبيات, فأنها سوف لن تكون الأخيرة في حياة العراقيين, بعد أن حفظت أخطاء ماضيها, وعرفت أسرار اضطرابها.
ظل شعر التسعينات بخيلاً في تسجيل أحداث الانتفاضة, لكن بالرغم من تخلف الشعر عن هذا الحدث, فقد عكس الكثير من الشعراء أحداث الانتفاضة, ووصفوا بشاعة النظام والجرائم التي ارتكبها ضد الشعب والمنتفضين.
سأقف في هذا المقال النقدي عند قصيدتين للشاعر عدنان الصائغ من ديوانه "صراخ بحجم وطن" حيث يكشف من خلالهما جانباً مما تعرض له المنتفضون, وبشاعة النظام ضدهم.
يقف الشاعر عند نافورة الدم العراقي أيام انتفاضة الشعب, ويستنطق أيامها وبطولاتها بوجه الظلم, ويكشف الجرائم التي ارتكبها النظام العراقي ضد أبنائها.
يقول الشاعر:

"هؤلاء الذين
تساقطوا أكداساً
أمام دبابات الحرس  
هؤلاء الذين نما على شواهد قبورهم صبّير النسيان
هؤلاء الذين تآكلت أخبارهم
شيئاً فشيئاً.. في زحمة المدينة
انهم يتطلعون بعيون مشدوهة
إلى قدرتنا على نسيانهم بهذه السرعة"

يقيم الشاعر شعرية القصيدة على التضاد بين التذكر والنسيان, وبين حضور شهداء الانتفاضة وغيابهم السريع في الذهن العراقي, بين فعل المنتفضين البطولي وفعل الشعب تجاههم ولا يكتفي الشاعر بدهشة التضاد بين فعل التذكر وفعل النسيان والتي تقوم على شدة استغراب شهداء الانتفاضة المشدوهة عيونهم نحونا, ونسيانهم, بل يأتي بالدهشة المركبة التي يولدها من فعل النسيان نفسه, ولكنها أشد وطأة وألماً وهي قدرتنا, في النسيان السريع لرجالات حدث عظيم مثل الانتفاضة, وهنا يضيف الشاعر دهشة أخرى إلى دهشة النسيان العادي الذي يأكله الزمن, وتزحف عليه تعرية الأيام. وعند هذا الحد تضعنا مفارقة القصيدة عند مفترق طرق تنفتح على حياة العراقيين في كفاحهم ضد النظام, وهنا يأسرنا الشاعر بالتوتر العاطفي بين الواقع ونتيجته غير المتوقعة, أو بعبارة أوضح بين ما كان من فعل شهداء الانتفاضة, وما يجب أن يكون من فعل عاطفي عراقي تجاه تضحياتهم وبطولاتهم. وهو بهذا استطاع أن يكسر أفق القارئ, ويصعد حالة الانفعال والتوتر الوجداني عبر الانحراف الدلالي للنسيان الذي يمكن أن أسميه "انحراف الحقيقة العفوية".
يقف الشاعر عند الانتفاضة مرة ثانية, وهو ينقل لنا صورة دموية بشعة, شاهدناها وعشنا لحظاتها الفعلية في ساحات الإعدام أيام الانتفاضة, حيث تحلق عيون الثوار المرتجفة نحو فوهات البنادق السود.

"الذين صُفّوا في ساحة الإعدام
حلقوا بعيون مرتجفة إلى الفوهات السود
المصوّبة إلى رؤوسهم الحليقة
لكنهم لم يروا عيون القتلة
كانت محجوبة خلف صف البنادق الطويل
لهذا ظلت نظراتهم مسمّرة نحونا
إلى الأبد"

مشهد كامل لواحد من جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها النظام العراقي أيام الانتفاضة, حيث يثير من خلال صوره الشعرية المرفقة, فزعنا الإنساني, ويكشف بشاعة القتل لشهداء الانتفاضة الذين وقفوا يحملقون بعيون مرتجفة, وقلوب شجاعة صلبة إلى فوهات بنادق القتلة.
يعود الشاعر في هذه القصيدة إلى الاسلوب الذي انتهجه في قصيدته السابقة, وهو الانحراف الدلالي وكسر أفق القارئ عبر المفاجأة باللامتوقع في الحدث. ثلاث صور شعرية تراكمت دهشاتها الواحدة على الأخرى, عبر مسار التضاد الدلالي للقصيدة الصورة الشعرية الأولى, يقع تضادها بين عيون المنتفضين وما يقابلها من فوهات البنادق.
الصورة الشعرية الثانية التي تكمل تضاد الصورة الأولى, وتعمق القسوة فيها, هي التي بين عيون المنتفضين وعيون القتلة المحجوبة بصف البنادق الطويل, هاتان الصورتان تعكسان القسوة, وتولدان دلالة مركزية مضادة تقف وجهاً لوجه ضد دلالة نظرات المنتفضين المسمّرة نحو العراقيين والتي تركها الشاعر مفتوحة على فضاء المواقف والأعمال التي يقومون بها في المستقبل تجاه تحرير العراق من الظلم.
إن التضاد الدلالي في الصورة الشعرية الأولى واضح, على الرغم من أنه يحمل ألماً إنسانياً كبيراً, إلا أن الشاعر لم يرد أن تكون الدلالة مستقيمة ومألوفة, وخالية من دهشة المفاجئة التي هي أساس الشعرية, بل زاد من حدة التضاد, وبشاعة القسوة في الصورة الشعرية الثانية التي انعدمت فيها الرؤية بين عيون المنتفضين, وعيون القتلة عبر صف البنادق الطويل. وهنا تتجلى شعرية الصورة الرائعة (من الناحية الفنية), وتضادها النهائي, عندما حرر الشاعر عيون المنتفضين ونظراتهم إلى عيون القتلة (في لحظة الموت), وعكس اتجاهها نحونا. وهذا التحول الدلالي يخزن قيمة دلالية شعرية كبيرة, ويفتح باب التأويل الشعري مستمراً فقد عكس صلابة عزيمة الثوار, وجاء بالعيون المرتجفة كمجسة دلالية في النص, ولم يأتِ بالقلوب المرتجفة التي توحي بالنكوص والجبن وضعف العزيمة, والذي لم يحدث لأبطال الانتفاضة بالفعل على الرغم من بشاعة النظام. لذا لم يجعل العيون مسمّرة بالفوهات السود, فقد حررهم من الخوف, وأطلق أحلامهم خارج الموت الفيزيائي, ولحظته المرّة, فهم أبطال لم يأبهوا بالإعدام, ولم تثيرهم صفوف البنادق, كانت أفكارهم تحلق في أفق العراق وأنظارهم تتطلع إلى العراقيين, وتتسمّر نحوهم, عندما كان الرصاص يمطر أجسادهم. وهنا تقع مسافة التضاد ودهشته بين الدم والبشاعة وأحلام وتطلعات المنتفضين نحو الخارج.


(*) صحيفة المؤتمر – لندن - ع 230 20 نوفمبر2000 صفحة ثقافة
 
البحث Google Custom Search