أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
رضيع الشعر وناطقة الشعري

حسن النواب
الأردن – عمان

ادركيني يا حروف الأبجدية، ادركيني ايتها اللغة، ادركني يا شنفرى، بحق الوجع العراقي النبيل، وبحق حمامات الحضرة، وبحق قباب الأولياء والصالحين، بحق نصب الحرية والعاشقة التي تركها الشاعر تنتظر تحت ظلاله المكسوة بالخوف، بحق عصافيره التي لا تحب المجنزرات والرصاص، وبحق سمائه التي أودعها في خوذة شهيد ما زال دمه يتوهج على ساتر منسي في شرق البصرة، بحق أغانيه التي ما زالت تتردد على جسر الكوفة، وبحق بنت حميد المرعب التي مرقت قبل خمس دقائق خلف زجاج المقهى بعمر قصير أقصر من فستان مراهقة.. وبحق المرايا لشعرها الطويل.. بحق بريق قنابله يوم كان يعمل كجندي على ساتر متقدم في مجلة حراس الوطن، بحق صعاليك الحيدرخانة، وبحق شوارع بغداد التي شبعت من تسكعات الشاعر.. بحق غيمة الصمغ الماطرة شعراً، وبحق سمائه الغربية..
بحق كل هذا.. اسعفيني أيتها اللغة.. لكي أنزف شهادة بحق صديقي الشاعر والمبدع وبحق مسلم من عقيل صديق عدنان الصائغ.. وأريد نزفي هذا اليوم يشبه الدم الفائر من الرؤوس صبيحة العاشر من عاشوراء.. نعم أريد نزفي يخضب كل القلوب البيضاء التي جاءت بلهفةٍ عطشى لسماع نوافير الشعر التي ستنطلق من واحة قلب الصائغ.. فهذا الشاعر يذكرني دوماً بالطفل الرضيع الذي اخترقه السهم من الوريد إلى الوريد وان دمه الشاعري تصاعد كعصافير من الجمر ليستقر أخيراً في خد السماء السويدية.. عدنان الصائغ أنّة مناضل في سجن الرضوانية، أو رعشة تلميذ في اصطفاف، ودمعة أم كربلائية في مأتم حسيني، وزنبيل مليء بالبرتقال على رأس فتاة قروية، وخببٌ لحصانٍ يجرُّ ربلاً في شارع الرشيد، وكأس أخيرٍ في حانة رطبة في الباب الشرقي، وبيارق ملونة في مواكب المشائين، ودمدمة الطبل في عاشوراء، وحساء الفقراء في مائدة رمضانية، ودعاء "كُميل" آخر الليل، وشربت تمر الهند بعد السحور، والكعك الذي يملأ جيب طفل يجلس على أرجوحة من جذع النخل في عيد.
يقول عدنان:

"تبقى النخلة عطشى
وتموت
ولا تحني قاتلها للوحل"

هذا هو عدنان الصائغ.. رضيع الشعر المذبوح في شعر محرم.. لكن زغب جناحيه استفاق مبكراً وحلّق بفضاءات العراق حاملاً كل التفاصيل في حقيبة صدره وفي مآقي عيون أطفالهِ.. وحزن زوجته.. فلا عجب ان ترى وأنت تدخل إلى بيت الصائغ عدنان.. ان العراق كلّه بيشماغه المرقط وعقاله وارجيلته يجلس على أريكة في بيت الصائغ.
عدنان الصائغ.. شاعر لا يتكرر بسهولة.. ولقد ترك فراغاً واضحاً في ساحة الشعر العراقي في الداخل حينما غادره إلى منفاه، أليس هو من صرخ: "انتهبوا رجاءً، الثمانيون قادمون، في بيان أول للحداثة، بيان أول للجيل، ويومها كانت المؤسسة الثقافية تريد وتسعى إلى تدجين كل شيء وتحويله إلى طلق رصاص في الجبهات، غير أن هذا الشاعر حمل بجرأة يتذكرها الجميع.. وحرص على تقديم ما هو مضطهد ومظلوم ومغيب. فقدم عريان السيد خلف ورشدي العامل وغيرهم بالوقت الذي كان الناس يظنون أن هؤلاء أصبحوا في حكم الموتى.. داخل سجون البلاد، قلت لكم ان عدنان الصائغ طلقة خرجت من أصابع الله ومن غصنٍ في شجرة الطوبى، وهبطت إلى الأرض بحثاً عن الجنرالات متى تبيدهم جميعاً.. واذا ما وطأت روحك ذات يوم أرض السويد.. فيمكن لأي فراشة تراها مصادفة في الشارع أن تدلك على بيت هذا الشاعر.. الذي تأبط منفاه.. ولا ندري على أي طلل من الروح سيقف ليقول ..

"في ضجيج الطبولْ
لكَ أن تنحني جانباً
وتؤجل ما ستقولْ"

ولأننا الآن نبعد بآلاف الأجنحة والألق عن تلك الطبول.. ها نحن مع الشاعر عدنان الصائغ نجلس سوية.. ولنستمع إلى ما أوجل من الكلام ومن الشعر في هذه الأمسية النادرة.. معكم طفل الشعر ورضيعهُ الحقيقي.. المبدع عدنان الصائغ.


(*) ألقيت في أمسية الشاعر عدنان الصائغ في "صالون العراق الثقافي" - العاصمة الأردنية، عمان 29-1-2002
 
البحث Google Custom Search