أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
السؤال المضمر
بين الحداثة وفلسفة الإغتراب

قراءة في "تكوينات" عدنان الصائغ

غالب الشابندر
- السويد -

(القسم الثاني)

الصورة الشعرية في عطاء الصائغ صهر فني وتركيبي ومعنوي للمتضادات فيكاملها، وأقول ذلك، لان هناك من لا يجيد الجمع بين هذه المتضادات، فتضيع الوحدة الشعريّة.
ان اكبر فجيعة تفتك بالتاريخ والزمن هي الوحدة المصطنعة، سواء على صعيد الفكر أو الفن والصورة الشعرية في ابداعات الصائغ نسق يحافظ على تكامله عبر حشد من المتضادات، وهذا النسق لم ينبثق شكليّاً من تزاحم الأضداد، بل ينبثق طوعيّا، لان هذه الاضداد متعاطفة على بعضها، وكأنها تملك صفة الجعل البسيط، الجعل المتوقد بحضوره الذاتي.

"الشعراء الاقصر قامة
كثيراً ما يضعون لقصائدهم
كعوباً عالية"

الصورة هنا متوهجة بذاتها، فالعلو الزائف، المصطنع، الخادع، يعرًي [ القصر ] الموضوعي، المؤكد،  [ القصر ] الذي يراد له ان يشمخ رغماً وقسراً وقهراً، وذلك ان موضوعيًة الأشياء تعادل الحقيقة، حتى اذا كانت مرّة، ان هذا التداخل الغريب بين الصور المتناقضة وإعطاء كل صورة عنوان لا يستقيم مع المألوف الأستعمالي [ العلو /الزيف ـ القصر / الحقيقة]… هذا المركب المحبوك التناقض، ينبثق من اعماق الذات المشحونة بالتجارب الكبيرة، المزدحمة بالتاريخ الصاخب، ينبثق بعفويّة متدفقة، بعفويّة مستندة الى تجربة قد ارتوت بخبرة الزمن المرتعش بالأحداث الجسام.
ان تحليل المركب الكيمياوي يكون بتفكيك عناصره عن بعضها، ولكن تحليل الصورة الشعرية يكون باحالة عناصرها على بعضها، هناك نتوسل باداة من حديد وارقام، وهنا نتوسل باداة من وعي، بل بالوعي كله، لان القصيدة تنبثق من الشاعر كله، من عقله وروحه وشهواته وعضلاته ولحمه ودمه… هناك نسعى للعلم، وهنا نجالد من أجل الخلق، والخلق آخر مرحلة من مراحل الصراع المعرفي، خاصة خلق القيم المترتبة على موجود جديد.
يقول في [ تكوينات ]:

"يتدفأ قلبه بالذكريات
بينما اطرافه
ترتجف من البرد"

صورة اخرى تتواصل في ابعادها الداخلية امانة المتضادات…
القلب… الأطراف.
الدفء… البرد.
الاستقرار… الارتجاف.
ان الصائغ في الصورة الجديدة يريد أن يلقي في روعنا عالماً جديداً، لحمته وجوهره: ان الانسان قلب في جوهره، وباقي أجزائه اعراض مهملة.
يقول في تكوينات:

"كثرة الطعنات
وراء ظهري
دفعتني كثيرا
…… إلى الأمام"

قد يترآى للراصد انها صورة تقليدية، فكثيراً ما نسمع أن الطعنة من الخلف دليل على المضي الى أمام، ولكن هنا، وفي هذا النص الشعري الجميل، نقع على الحكمة الحية، وقد برهنت على صدقيتها، أي أن الحكمة كشفت عن كونها [ فعل ]، وليست مجرد تصور، فالصورة لم تنبثق من تأمل صوفي أو رؤية فلسفية تجريدية، بل من تجربة، شاهدها يكمن فيها، وبذلك تكون الصورة الشعرية قد شيّدت لنا منطومة وجودية، كوناً له تجسّده الفعلي، فهناك تجاوز جريء وجسور لقرار الحكمة في قمة تجوهرها النظري، ارغام لها على ان تكون حضوراً عارياً، ومن الواضح ان تماسك الصورة جاء نتيجة التعاهد الخفي بين عطاء المتضادات، وقد شحن الشاعر البناء المادي المتشابه [ ك . ت . ب ]، بروح التضاد، من إضافتها إلى صور متعاكسة تماماً [ خلف، أمام ].

في تكوينات:
"كم عيناً فقأت
ايها المدفعي
لتضئ على كتفيك كل هذه النجوم"

ان الشاعر يصوغ عالماً تجري في ازقته المظلمة واسواقه الداعرة أخطر عمليات المساومة، حيث يُشَّيد المجد الزائف باحجار الحقيقة الصلبة!! فبرز الزيف زاهياً وتعرَّت أحجار الحقيقة من صلاحيتها، فبدت شائهة، مقززة، لقد استقر الموت حقيقةً أولى، بل لم يعد الموت حقيقة، وإنما الحقيقة هي الموت!!
ان العيون البشريّة تجسّد اصالة التكوين، هي عين التكوين، والنجوم المسطرة على اكتاف الجنرالات اعتبار، وليس هناك من معادلة هشة، كتلك التي يحتل فيها الاعتبار موقع الاصالة، حيث نتواجه مع كون له مادته الخاصة به، وهو كون على كل حال، أي حتى اذا تشيَّد على قواعد تفقد أي مبرر عقلاني لوجودها.
ان الوصف في الصورة الشعرية يأتي على هامش البناء، فهي في الاساس بنية، أمضاء كينونة، انشاء عالم جديد، وما سمي بالاغراض الشعرية كالمدح والرثاء، انما تعبر عن وعي مسطح بجوهر الشعر، أن هذا اللون من التقييم يذوّب الشعر في ابتذاليّة الادراك العادي للاشياء والحياة، ويكشف عن تفكير أسير وليس عن تفكير خلاًق، فالصورة الشعرية، اذن، مخاض عسير.
يقول الصائغ في [ تكوينات ]:

"الشمعة التي تركوها مشتعلة
قامت وأسدلت الظلام
على نفسها
ونامت"

ان النور موجود غائي، والغاية اذا اهملها المعنيون تهجر وجودها، الخير حقيقة واعية، يكمن فيه نزوع الى الخارج، يتجه بكليته إلى الآخر، فاذا هجره الآخر، هجر نفسه، لانه لا يريد ان يبقى في دوامة العطالة.
ان الصورة نسيجة ذاتها، تشكل بمادتها الفكرية وقوامها اللغوي وعلاقاتها الداخلية عالماً شاخصاً، وجوداً ملتحماً بكينونته، حقيقة لصيقة بنواتها.
الصورة وليدة تجربة عميقة عاشها الشاعر في العالم وليس مع العالم، وتلك من معالم المخاض الشعري الناضج، لان الشاعر الواعي والمسؤول لا يجعل من شعره ذاتاً والآخر موضوعاً، بل هو ذلك الانسان الذي تغلغل في محيطه الكوني، حيث يتحول هذا المحيط الى محفز لخلق العالم الثاني الذي هو الشعر، أو عالم الشعر.
لست من الذين يقولون، أن الشاعر الجيد هو الذي يسقط مشاعره على الكون، بل هو الذي يبدع بشعره كونا محاذياً، موازياً… ليس كوناً ظلاً… بل ملحمة وجودية لها عنوانها الخاص، وتضاعيفها الخاصة.
الصورة الشعرية تنتهي في علاقتها مع الشاعر في اول لحظة ينسَلَّ فيها من وجده الشعري، ولكنها تبقى على اتصال مستمر بالمتلقي، والمتلقي طبقات من الاستيعاب والحماس والوعي، وليس من شك ان قدرة الصورة على تفتيق أكثر من مصداق للفهم والادراك، دليل على انها استوعبت المتلقي، وامارة حيّة على انها صورة متحركة في داخلها، وأنها بئر عميق من المعنى والاسرار والايحاءات والإيماءات، وهذا لا يكون إلا إذا توجه الشاعر من الوصف الى البناء، من الهامش الى المتن، من المحيط الى المركز.
ان الشمعة هنا رمز ينتمي الى عالمه الذي احتضنه، فكان لبنة  من لبناته، ومفردة من مفرداته، رمز ينتظر الخيال الخصب، والرؤى الكونية، ينتظر الاحاطة الروحية، والنفاذ المتسرَّي إلى جسد الكلمة وهو يتلوّى بآلامه المفتوحة على العالم كلًه.

3

الكلمة مخلوق تواصلي، تستمد طاقتها على الخلق من اسباب متنوعة، من معناها المعجمي المسطر في القاموس، ومن علاقاتها بنظائرها ومضاداتها، ومن موقعها من الجملة، من مجال استعمالها واستخدامها، ومن خبرة المتلقي فكريّاً وحياتيّاً ولغةً، والكلمة فضاء تحيط نفسها بمجال من الايحاءات، تأخذ المتلقي المرهف الى مديات من التصور والفكر، لأنها مرّت وتمرّ بتجارب ضخمة من الاستعمال، فخضعت لاضافات الخيال وضرورات التكيّف النفسي والآجتماعي والعلمي… الأمر الذي جعل من ايقاعها في الذهن، مدعاة للولوج في عالم أكبر وأحب وأغنى من معناها المفرد المتجمد في صفحات المعاجم.
الشاعر المبدع يشخص هذه القدرة الفذّة للكمة، ويجهد على استثمار شهوتها للاتصال والتواصل، فيحاول أن يستنهض طاقتها القصوى، يستلهم امكاناتها الذاتيّة والتجريبية على الاداء والبناء، والشاعر قد يعتمد في ذلك على ثقافته الواسعة، أو يستعين بذوقه الفني الرفيع، أو يستفيد من موهبته، ولذا، فأن الكلمة في استعمال الشاعر تعني مستويات من المعنى وطبقات من الدلالة عند المتلقي، وهذا من علامات خصوبة الشعر.
الفن الشعري بالمعنى العميق يتجاوز مسألة الحرص على الوزن والقافية، ليصل الى تكريس العالم المفتوح الذي تنطق به القصيدة، ومن علائم هذه الموهبة استدراج الكلمة لمقارباتها في تشكيل مادة القصيدة اللغوية، نظراً لأن هناك بذرة اولى تكمن في بئر القصيدة الشعريَّة، ولولا هذه البذرة لما كان هناك عنوان ـ هذا على اقل تقدير ـ، وإلا فان الجهد الشعري لا ينبثق من فراغ.
ان تجاذب الكلمات ذات المقتربات المتتاخمة او المتنافية، يخلق محيطاً شعريَّاً مركّزاً، يستجمع عالم الذات في بؤرة متوترة، تلح ارتعاشاتها على توكيد الجوهر.
ان الشاعر يستثمر تواصليّة الكلمة عبر تجاربها الحلوة والمرّة، وهذه الكلمة امينة في اعطاء اسرارها لمن يستلهما، ومن اسرارها الأفاضة بمخزون تواصلها التاريخي الثمين.
الشاعر عدنان الصائغ يعشق الكلمة، يتعامل معها بلطف وحنان ورعاية، يختارها بدقة فائقة، ويضعها في مكانها المناسب، المكان الذي يتشوف اليها بشغف وحماس، فأنثالت المقتربات، تتنادى، فيما بينها لتأسيس الكون الجديد.
نأخذ على سبيل المثال قصيدته [غربة ]… فهذه القصيدة تتكون من ثلاث وعشرين كلمة، ورغم هذا، نسجت روحها من مفردات، تتلاصق فيما بينها ضمن نسيج مشترك في المعنى
والايحاء والفضاء.
لننظر وندقق بهذا المسلسل من الكلمات [السماء، أرضنا، المنافي، جرحنا، طردتني، بلاد، ساومني، صمتي المر، أبكي، فاتنا… ].
هذه الكلمات، هي لحمة كونه الجديد، اقصد هذه المقطوعة الشعرية الساخنة، والأمعان في هذه الكلمات، يكشف عن استدعاء بعضها لبعض، في رحم الجذر الاول للقصيدة الذي هو الغربة، فالسماء والارض يشكلان الكون، حيث السماء هي السقف الحامي، الذي يوحي بأن الحياة موضوع حقيقي وغائي، والارض هي الام الحنون التي تغذي الحياة بشروطها الضرورية، والشكوى الى السماء والارض موضوعها الغربة اكثر من أي شيء آخر، لان الغربة وخاصة المتنقلة منها، تحجز ملكيّة الوجود في عناوين محدودة ة والمنافي هي المعادل الموضوعي للغربة، والطرد يشكل جوهر الحرمان من المكان، ذلك الحق الروحي الذي افرزه وجودي المفرد عبر كفاحه المكثف ضد العدم والبوار، ولا جرح كالذي تحفره الغربة في الروح البشري، لأنها استهانة بالبدهيّة الواضحة التي تلي بديهية الحياة، أي بيتي الحبيب الذي شيدته بكل وسائل وآليات تعّرفي على الوجود، فهو عصارة نفسي، والصمت تفرضه الغربة، لانها عالم موحش، والبكاء حنان العاجز على الغائب العزيز، ذاك هو الوطن.
فالكلمة في هذه القصيدة مثلاً مخلوق تواصلي، تشتبك في أُلفة رائعة مع نظائرها واضدادها، وذلك لا يتم الاً بفضل الوعي الشعري لدى الشاعر، وبفضل عمق التعامل مع المفردة، انه يستثمرها ولا يستهلكها، فان استعمال الكلمة في سياق أخواتها أو معاكساتها يحرك الكلمة من داخلها، لتعطي خبرتها الطويلة.
يقول:

"السماء التي ظللتْ أرضنا
والمنافي التي أرّخت جرحنا
سأقول لها:
كلما طردتني بلاد
وساومني صاحب
اتكأت على صمتي المر
أبكي
الذي
فاتنا"

فالغربة كلمةً وموضوعاً تسري في القصيدة، عبر المادة اللغويّة الجديرة بتوفير الاجواء المناسبة والاوضاع المفروزة، والمفردات تحيل بعضها على بعض، ويشد  من لحمة هذا التواصل اللغوي، تجسيدُ المعنى وتكثيف الصورة وتوحيدُ المضمون، خاّصة، وان الشاعر دمج بوثبة مفاجئة بين غربة الروح وغربة الوطن.
يتصور البعض ان التطابق بين اللفظ والمعني عملية عفويّة جارية في الحياة المعيوشة، وانها تمضي جرياً على السليقة الاجتماعية في نظام الناس، واكبر دليل على ذلك، انتظام الانسان واستقرار علاقاته بالآخر، سلباً وايجاباً، فان اختيار الكلمة لمعني من المعاني ممارسة مألوفة، ولا تحتاج الى جهد.
هذا التصور بطبيعة الحال، يحمل شيئاً من الصدقيَّة، وان كان خاضعاً لنقاش طويل وعسير، ولكن التماهي بين اللفظ والمعنى في الشعر غيره في اللغة العاديّة، لان الشعر كما قلنا، عمارة جديدة، كون غير مألوف سابقاً، والشعر الجيد يقراْ من اوله الى آخره، لانه يكشف عن عالم يتأسس وثبة بعد وثبة، ثم يواصل حضوره لحظة بعد لحظة، ويكون نابعاً من ومضة اشراق، تتجاوز الحدود الماديّة للشاعر كي يخلق، والقصيدة غير مسبوقة بتخطيط أولي، تنبع من كل الذات، وهي تحمل خطتها وقوانينها وكينونتها، وأغرب ما في الشعر، أنه يتموضع في معنى جديد بتقادم الزمن وتوالي التجارب الانسانية، ولهذا، أن الكلمة في القصيدة غيرها في دفاتر الحسابات التجارية، بل غيرها في  كتاب الشفاء لابن سينا وكتاب الطبيعة لاسحق انيوتن والنسبية لانشتاين.
ان لغة الشعر هي الشعر، كما ان موضوع الشعر هو الشعر، وكل ذلك يقودنا الى استنتاج مهم:
إن الشاعر يهدف الى استثمار جو الكلمة، ولذا، كان نصّه فضاءاً، وكلمة الشاعر وهو يبدع كونه الجديد، إنما تحضر مع جوّها حضوراً ذاتيًاَ، مثل حضور النار بحرارتها… فالشاعر لا يلوًن التجربة ولا الحياة ولا الاشياء، وانما يفجر في الوعي عمارة جديدة، عمارة مستحدثة، الامر الذي يسوقه الى استخدام الكلمة بكل حملها التاريخي، بكل علائقها الممتدة لافاق بعيدة، والاكثار من الكناية والاستعارة والترميز… ينصب في هذا الافق من التصور للكلمة الشعرية، فان تلك المقتربات انما لتفجير المذخور الوجودي  للكلمة، فهي مقتربات تتصل بعالم الشعر اكثر من غيره  كما نعلم.
الكلمة وهي في بنية الشعر، مخلوق صوفي، نغمة روحيّة شفافة، تتسع وتتسع مع امتداد الافق الزمني للانسان، ومن هنا، قد لا تخلد النظرية العلمية بقدر ما تخلد القصيدة المبدعة، ولا تصمد النظرية الفلسفية لتقلب الزمن، بقدر ما تصمد القصيدة الحية، واقصد بالخلود هنا، المعايشة والحضور، وبالصمود استمرار التألق داخل الضمير والفكر.
القصيدة المبدعة تفلت من التلاشي البطيء او السريع، تملك ناصية الزمن، ومن أسباب ذلك، هو الاستخدام الروحي للكلمة، توظيفها ضمن حشد من نظائرها واضدادها، فان هذا الفن الراقي من الاستعمال، يولًد سيلاً من الصور، يشبه سيل الاحداث الناتج من العلاقات الكونيّة، ان هذا الاستعمال المرن المتدفق، يخلق أو يحول النفس الانسانية الى قابلية رؤى، انه الاستعمال الكفيل باستيعاب التغيرات الهائلة التي تتسارع على بنية العالم.
يقول في "دبق":

"كان الصباح
يصب قهوته
ويرشف ما تبقى من سواد الليل
يقلب ساهماً فنجانه لصقي
ليقرأ في الخطوط المستحيلة
ما يمر من الشوارع
والكلام ـ النمل
والفتيات في أصص النوافذ
يغزلن جدائل الأزهار ـ للعشاق
كي يتسلقوا أحلامهن
الى المرايا واحتراقات القصيدة"

العلاقة بين الصباح والليل علاقة اثراء، واذا كان الصباح بشير بيانٍ وكشف ووضوح، فانه يرتشف بقايا سواد الليل، ليكون اكثر اشراقاً ونصاعة، ويكون أكثر قدرة على ترجمة المهمة الكونية، وهذا التركيب ينز عن عالم جديد، لان الصباح الفيزيقي يطرد الليل، والكلمات {الصباح، الليل، السواد} ذات معاني تنتمي الى هذا اللون  الجديد، فالشاعر هنا، اجترح اللغة العاديّة، واخترق اسوارها، انه حَّطم قانون القصور الذاتي اللغوي، أي، المعني القاموسي الجامد، والطريقة الجديدة في هذا الانجاز، ليس تفجير التاريخ وحسب، بل تحطيم الحواجز بين معاني الكلمات، خلق آواصر من الأُلفة بل من التمازج الذاتي بين مفردات اللغة المتنافية قاموسياً، والمتنافية على صعيد تحققها الفعلي الواقعي الملموس والمعيوش بطريقة عادية وسليقية، وإلا كيف تكون الخطوط المستحيلة نقاط مراقبة؟

4

الغربة من أبرز القضايا الملحة في ديوانه [ تكوينات ]، وربما كان لزمن قصائده دور في ترسيم هذه النقطة كأحالة  متمركزة في ديوانه.
نفذ الى الغربة بالكلمة والصورة والسؤال والحيرة، وطالما تطل بمأساتها من بين سطوره، وكأنه جعل منها القضية الوحيدة التي ينبغي ان تسترعي الهم الفلسفي في العالم، والم يتناول الغربة بهويتها المادية المعروفة، لان الشاعر منفي قهراً، حُرم بالقوة من حقه، اذ سلب منه صراحة واستهتاراً، ومما يلفت النظر حقاً شمولية غربته، فهو ليس ذلك المخلوق الذي حيل بالعنت بينه وبين التراب الذي نبت فيه، بل هو ذلك الروح المضطهد ، ذلك الضمير المقموع، وهو تلك الكلمة المذبوحة.
انها الغربة الكلية!!
ان الغربة عندما تكون بهذا المستوى تساوق العدم وتعادل النفي' فمن الطبيعي ان تكون الموضوع المتكرر في الديوان، الموضوع الذي يستجلب استحقاقات كثيرة، مما يجعله نواة مركزيّة. فليس صدفة ان يكون مفتتح الديوان هذا الكشف عن غريته في داخل التاريخ!! فهو كلما يتصفح كتب التاريخ تتلوث اصابعه، وليس صدفة أن تكون خاتمة الديوان عبارة عن سلب محض.

"أرسم درباً وأمحوه
أرسم خطواً ويمحوه غيري
فمن أين أبدأ"

فهي إذن غربة مركبة، متداخلة، غربة من الخارج وغربة من الداخل، أن الرسم وضوح… بداية ‘إشراق…شروع في المسير… والمحو نفي وحذف.
{فمن أين ابدأ ؟}
أن الشاعر لم يعدم تشخيص البداية،  بل يعرفها وفقه كنهها بدليل الرسم الذي هو دالًة، ولكن ما أن يشرع فعلاً
حتى تتحرك قوة من داخله، تحذف المحاولة الجادة، وتصدمه قوة من خارجه، لتمارس ذات الموقف!! فاي غربة اذن هو يعانيها؟ انها تتجاوز محنة المصير لتتحول الى محنة وجود، وحنة  الوجود اقسى من محنة المصير لأنها تنطوي على سؤال خطير، انه السؤال الذي ينصب على تبرير هذا الوجود بالذات، ان الارتياب بمبررات الوجود يربك العقل، ويحول دون البداية، المر الذي يعدم المسير.
ان جهض البداية من الداخل والخارج يضيق معنى الوجود، ويصل إلى مرحلة الحذف.
ان سؤال: من أين ابدأ… ليس سؤالاً عن نقطة زمنية أو مكانية، بل سؤال عن حقيقة الذات واسباب مجيئها الى هذا العالم، مادامت البداية، بداية المسير مقموعة من الداخل والخارج، وهذا التوافق بين البعدين، تعبير عن اعتصار الشاعر لكل ممكنات تصوير المحنة، وتوثيق لكل اسباب التساؤل الحائر.
ان رسم البداية وحذفها في آن واحد، يترجم موقفه القلق في هذه الحياة، فهو:

"نصف طليق
ونصف مصفد"

انها ليست حالة من التردد، ولا حالة من الحيرة، بل هي محنة، ثم غربة، غربة تكرست اخيراً في هذا التساؤل عن سبب هذا الوجود، وكيف لا يكون ذلك، وهي غربة كليًة تلاحقه في كل جزئيات حياته؟
قد يرى بعض الناقدين أن هذا البيان فوق طاقة النص أو النصوص، وفي الحقيقة أن القصيدة عبارة عن كون كما قلنا، والكون الخارجي، هذا الذي يكتنفنا من كل جانب، الذي يغمرنا بمادته وطاقته… ليس إلاّ علاقات محكومة بقانون الاحتمال و من ثم حوادث شتًى تنجم عن هذه العلاقات المعقدة، ومن الصعب تحكيم اليقين في نوع هذه الاحداث، والقصيدة على هذا الجري، فقوامها بعد الايقاع المتميز، تلك  الروابط بين المفردات المثقلة بالخبرة والمعاني والتجارب، وهذا التركيب يفرز المعاني على نحو الاحتمال، فليس هناك معنى، بل نحو معنى، خاصة، ان النص الشعري المعاصر ليس عطاءً جاهزاً، وانما خبرة هائلة، والقارئ هو الأخر خبرة، يقرأ بذاته وليس بذات الشاعر، لان القصيدة اصبحت ملكه.
ان التأويل مقدم على الحقيقة، وخبرة القاريْ ليست راصدة وانما مشاركة، ولكن هذا لا يعني، أن التماهي معدوم تماماً، لأن هذا نوع من الفوضى، وانما الذي نريد ان نؤكد عليه هنا، تحرير النص الشعري من الآليٌة الساذجة في الفهم والتلقي، وتوظيف الخبرة الشعوريّة لدى المتلقي في هذه العملية الروحية الرائعة، ومن الطبيعي أن تكون هنا او هناك نقطة لقاء، ولكنه اللقاء المترع بنحو الحقيقة المرنة.
والآن ألا يحق لنا أن نسأل عن ماهيّة ذلك السؤال المضمر؟
انه: لماذا؟
وتبقى مسألة اكتشاف موضوعات السؤال من مهمات المتلقي.

21/5/1998


(*) نشرت في صحيفة "الفينيق" الأردنية ع 44 1/3/1999
(*) نشرت في مجلة "ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002   النمسا ( عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search