أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
بعد أن أسمتها الحروب رئة العراق، عمان عاصمة للثقافة العراقية (2 - 2) مقهي السنترال صار بديلا لمقهي حسن العجمي .. و الفينيق بديلا لـ اتحاد الادباء .. أو منتدي الادباء الشباب

حكمت الحاج
عمان ـ القدس العربي

وعودا الي موضوعنا حول حضور الفن التشكيلي العراقي في الاردن تحديدا، أضاف رعد كريم عزيز قائلا انه اذا كانت عمّان منفذا للفن التشكيلي العراقي بسبب احتفائها بالفن العراقي اولا باعتباره فنا متميزا، أضف الي ذلك الكمّ الهائل من الأسماء المقيمة في الاردن، ثانيا، خاصة الشباب منهم، فانهم جميعا ينضوون تحت سماء الحاجة الي إدامة الحياة الشخصية خارج الوطن، وتطويرهم لأدواتهم الفنية ايضا.
وهنا يخـــصّ محدثي بالذكــر مجموعة من الفنــانين التشكيليين العراقيين المقيمين بالاردن منهم ثامر الأغا والنحات هيثم حسن ومصهره في مشغله الخاص، والنحات عماد الظاهر، والرسام جمال صبري وحيدر عباس وصلاح سيف الله والرسام صاحب أحمد فنان الكرافيك المتميز في التخطيطات، والسيراميست محمد غازي وذياب مهدي ونبيل عدنان وثائر صالح والكرافيست سامر أسامة.
وعند سؤالي الشاعر والناقد رعد كريم عزيز عن أهم المؤشرات المحيطة بالمشهد التشكيلي العراقي في عمّان، أجاب موضحا انها عديدة منها انشغال أغلب الفنانين بتنفيذ أعمال حسب الطلب، أي انهم يرسمون خارج اشتغالاتهم الطموحة لبناء كيان منفرد.. فأخذوا يرسمون لوحات المستشرقين والحروفيات والخيول، من أجل السوق ، ختي انك لتجد نسخا مكررة لرسامين عراقيين مثل رسوم ماهود أحمد الشهيرة وقد نفذها رسام عراقي وأمضي عليها باسمه الصريح.
وغوصا في هذه المشكلة وتوابعها، يقول رعد كريم عزيز ان هناك من التشكيليين العراقيين مَنْ وازن بين الحالتين ولو بصعوبة بالغة، مثل ما شاهدناه في المعرض المشترك للفنانين كريم عباس وأياد القره غوللي وطالب صبحي، وكان كإعلان هوية متميزة اهتمت بالفن لذاته، رغم انهم يكدون في تنفيذ أعمال تجارية وبأسعار زهيدة لتأثيث حياتهم المعاشية.
وتصديقا لكلام رعد كريم عزيز، فإنك تستطيع أن تحوز في عمان، وبمبالغ بعيدة عن القيمة الحقيقية، علي أية قطعة فنية عراقية ومن مختلف الأجيال، معروضة في شتي الغاليرهات الفنية في عمّان. ستجد بسهولة أعمالا لهناء مال الله وفاخر محمد وعاصم عبد الأمير وغسان النائب والسنجري ومكي عمران، وتجد مقتنيات الفنان الراحل محمد صبري الذي رحل في عزّ عطائه والذي دفن في عمّان.
وسألت محدثي ايضا عن الموجات الجديدة الشابة في الفن التشكيلي العراقي المعاصر من الذين يجدون عمّان موئلا لهم، وعن رأيه فيهم، فقال ان ظهور أسماء فنية جديدة أمر واضح وجلي، الا انها محددوة الأفق لأنها تنفذ أعمالا حرفية ذات طابع تزييني ولكنها مطلوبة في السوق.
وباختصار، يجمل رعد كريم عزيز حديثه الشيق المحزن بالنسبة لي في الأقل، قائلا ان انسحاب الريشة العراقية الي خارج الوطن قد جعل التشكيل العراقي اكثر انتشارا وشهرة في العالم، ولكنه في الوقت نفسه جعله أكثر تشتتا، وفي أغلب الأحيان، بلا قضية.

من الأسماء اللامعة في الجيل الأحدث من موجة النقد الأدبي العراقي الحديث، التقيت محمد غازي الأخرس، الناقد الذي، وكما أري شخصيا، يعد بالكثير، إضافة الي ما قدم من أبحاث ومقالات الي حد الان.
وشاء م. غ. الأخرس أن يحدثني عن سوسيولوجيا ثقافة المكان الذي ابتدأت ثلاثيتي هذه بالكلام عليه، ألا وهو مقهي السنترال في قلب عمّان المدينة.
وهو يري انه مثلما تهاجر رموز العراق مع أبنائه المهاجرين (وهي رموز دينية اجتماعية ثقافية مختزنة في الذاكرة الجمعية) تهاجر أمكنة لها قوة الرمز أيضا. فتري العراقيين لا يتوقفون عن تعريف الامكنة في المنفي. ويتمّ ذلك كما يري م.غ. الأخرس بطرق عفوية لاواعية ربما يحتمها الاحساس بالانتماء الي المكان الاصلي والذي سرعان ما سيصبح ذكري ساحرة لدي المنفيين، ذكري تحاول استحضار المكان-الأصل، مُقدِّسَة له.
من هذه التوطئة، قادني الناقد الشاب الي ملاحظة السنترال بنظرة أخري.
أراني أول ما أراني النادل المصري واسمه رضا بابتسامة لا تفارق محياه. وقال لي الأخرس ان هذا النادل يحفظ جميع أسماء الشعراء والكتاب والصحافيين العراقيين المقيمين في عمان، لا لترددهم اليومي علي المقهي فحسب، بل لتعاملهم الانساني الراقي معه، ولعل هذا راجع الي احساس الجميع بوطأة المنفي. فهذا النادل القادم من وادي النيل، مهاجر ايضا، وهو لا يختلف عن مرتادي المقهي من أدباء العراق سوي ان الاخيرين انما هاجروا هربا من واقع عنيف مدمر، فيما هاجر هو وأمثاله من فقر وجوع.
وبالفعل، فما ان تسأله حتي يدلك علي الشاعر علي عبد الأمير وقد جمعته حلقة واسعة من الكتاب أمثال الشاعر حسن النواب ود. حسن ناظم، والشاعر أديب كمال الدين والرسام عماد الظاهر والناقد سعيد الغانمي.
وإذ تلقي التحية علي هذا أو ذاك، يمكنك الانتباه الي صرخة يلقيها عليك القاص محمد سعدون السباهي داعيا اياك الي الانضمام الي حلقة اخري قد تضمّ الي جانبه بضعة أدباء ونقادا شبانا، مثل حاتم عبد الهادي ومحمد غازي الأخرس والشاعر عماد حسن والشاعر عماد جبار والصحافي طارق الحارس والرسام ثائر صالح والشاعر رعد كريم عزيز والشاعر علي خصباك والشاعر عمار المطلبي..
وإجابة علي سؤالي التقليدي حول ظاهرة المثقف العراقي في عمّان ، يري محدثي محمد غازي الأخرس ان الأمر يرجع الي ما بعد حرب الخايج الثانية حين بدأت هجرات النخبة العراقية، وكانت عمان المحطة التي لا بدّ منها للعبور الي المنافي الواسعة. حينئذ اتفق المثقفون بشكل غريزي، ودائما مع الاستاذ الأخرس ، علي اتخاذ أمكنة بديلة عن تلك التي تركوها وراءهم ببغداد، إذ ان العراقيين ينزعون الي التكتل اجتماعيا في منافيهم.
وعن البدايات، يحدثني الأخرس قائلا: كان ثمة طليعة من المهاجرين تضم الشاعر عدنان الصائغ، مقيم الان في السويد، وعبد الرزاق الربيعي، مقيم الان في مسقط، وعلي عبد الأمير، ما زال باقيا في الاردن، وصلاح حسن، في هولندا، ومحمد تركي النصار ونصيف الناصري وناصر مؤنس وفاضل الخياط، والشاعر الكبير الراحل عبد الوهاب البياتي، هذه الطليعة، كانت اتخذت في البدء مقهي العاصمة في وسط البلد، مكانا أثيرا لتجمعها. وهكذا صارت العاصمة بديلا عن حسن عجمي في حين صار مكان مثل الفينيق في عمّان الغربية، بديلا عن اتحاد الادباء أو منتدي الأدباء الشباب، ببغداد.
وفي أيام الجمعة، تضج عمان بالادباء العراقيين المقيمين في الاردن او العابرين بالبلد، حيث تراهم يمارسون طقوسهم ذاتها التي كانوا يمارسونها في أمكنتهم الاصلية.
ويمضي محمد غازي الأخرس ساردا لي ذلك التاريخ المفترض قائلا انه في عام 1997 انتقل الادباء العراقيون الي مقهي آخر قريب من العاصمة، وهي السنترال التي تراها الآن، وانضمت مجموعات جديدة من الاسماء، أذكر منهم: القاص علي السوداني، الشاعر هادي ياسين علي، الشاعر سلام كاظم، اضافة الي الشعراء أحمد حسين وفرج الحطاب وعبد الخالق كيطان وسلام دواي، وغيرهم.
وسألت محدثي: لا بد يا محمد من أن تكون هناك أمكنة أخري غير السنترال اتخذها العراقيون تجمعات لهم، فنحن نتحدث عن عشرات الألوف من المهاجرين، ومئات منهم لا شك هم أدباء وكتاب وفنانون. أليس كذلك؟
وبسرعة يوافقني محدثي الرأي مضيفا قوله ان هناك أمكنة اخري لعل أشهرها الساحة الهاشمية بالنسبة لغير المثقفين من كسبة وعمال وسياح. وهناك ايضا مكان يدعي المثلث يقع وسط المدينة وهو للنخبة المثقفة إلا ان ما يميز المثلث عن السنترال هو احتواؤها نخبة مثقفة غير منتجة للثقافة. فيما اقتصرت السنترال أول الأمر علي الكتاب فقط، لكنها بعد حين ستصبح ملاذا للمتنورين ممن أقاموا علاقات صداقة واسعة مع الادباء. ولعله جدير بالذكر ان نذكر في هذا الصدد شخصا اسمه حيدر شميس وهو الصديق الأثير لدي الشاعر سعدي يوسف رغم انه يعتبر شخصا شبه أمي، ويطلق عليه لقب حيدر المحروق بسبب آثار حروق تميز وجهه.
وحقا، فلقد كتب علي السوداني اكثر من مرة عن هذا الشخص-الظاهرة، الطريف، وأطلق عليه في مقال نشر في القدس العربي لقب شيخ اللاجئين في عمان بسبب كونه يعد من أكثر الذين قدموا طلبات الي المفوضية السامية لشؤون اللاجئين ومن أكثرهم حصولا علي الرفض، قبل أن تقبله علي حين غرة نهاية عام 2000 ليسافر بعدها الي أمريكا.
وعودا الي طقوس الجمعة السنترالية ، التي تذكر بطقوس حسن عجمي و شارع المتنبي أيام الجُمُعَات العراقية، يحدثني م. الأخرس كيف ان الادباء العراقيين يتوزعون علي طاولات المقهي منذ الظهيرة. ومن أشهرهم في ذلك علي عبد الأمير الذي يعد أحد أعمدتها الرئيسية، فهو يعتبر في نظر الجميع شبه مقيم دائم في عمان، فيما الآخرون عرضة للسفر في أية لحظة. أضف الي ذلك مسؤولياته كمدير تحرير لمجلتين هما المسلة و أوراق ثقافية ، وعضو مؤسس لاتحاد الكتاب والصحافيين العراقيين.
وفي الواقع، وما زلنا مع م. غ. الأخرس، ونظرا لما لعبته مقهي السنترال في حياة النخبة الثقافية العراقية المقيمة في عمّان، فقد كتب عنها الكثير، سواء في الصحافة أم في المدونات الأدبية. فقد كتب الشاعر عبد الخالق كيطان عنها في ديوانه صعاليك بغداد ، مثلما كتب علي السوداني في كل من القدس العربي و الزمان ، عدا تلك التي نشرها علي عبد الأمير في صحيفتي الحياة و الشرق الأوسط . بل ان الشاعر حسن النواب كان كتب اكثر من عمود في الزمان عن النادل رضا وكيف ان بعض المثقفين الصعاليك من الشعراء خاصة لم يتورعوا عن الاقتراض من هذا الانسان الطيب ثمن مشاريبهم، وهو أمر عدّه رضا فضحا لأسرار ربما تؤثر علي عمله في المقهي. ويومها حاذر النادل كثيرا في إخفاء الصحيفة عن أعين صاحب المقهي لئلا يكتشف منها السرّ الذي سيكلفه وظيفته.

هذه الفقرة تشجعني علي أن أبدأ من زاوية بعيدة عن هذا المكان، علي شرط العودة اليه فيما بعد. فقبيل سفري الي الاردن بساعات، رأيت ناشرا عربيا في مطار تونس قرطاج الدولي وهو يستعد للاشتراك في معرض تونس الدولي للكتاب في دورته العشرين والذي يلتئم كل عام أواخر شهر نيسان ابريل. ولقد طلب اليَّ الصديق الناشر، بعد أن عرف وجهة سفري، أن أسأل بطريقة أو بأخري، عن الشخص الذي يمكن أن يكون قد صدرت له رواية اسمها بابا سارتر ضمن منشورات رياض الريس ما بين بيروت ولندن.
كنت قرأت سابقا، في الصحف، نبأ صدور رواية علي بدر الأولي بابا سارتر ، ولقد فرحت واندهشت في الوقت نفسه. فأنا أعرف علي بدر كصديق مثقف منتج دؤوب مبدع. وأعرف أكثر انشغالاته النقدية والترجمية، لكنني أعرف أيضا ان له رواية مخطوطة كان اسمها الاولي مناديل سبتمبر . بيد ان عقد التسعينات مرّ كله دون أن يتمكن من نشرها حتي انها طواها النسيان. وكان لابد ان أصاب بالدهشة من رواية جديدة بهذا الاسم المستفز، ومن صدورها عن رياض الريس واضعا في الحسبان ظروف الحصار القاسبة التي يعاني منها المثقف العراقي بعامة.
لكنني فرحت أيضا، وبكل تأكيد. فلقد فعلها علي بدر أخيرا.
لهذا كله استغربت نغمة التشكيك في كلام صاحبي الناشر العربي. قلت له ماذا تريد بالتحديد؟ أجابني بوضوح انه يريد ان يعرف اسم الكاتب الحقيقي لهذه الرواية. وكان متيقنا ان اسم علي بدر الموضوع علي الغلاف ما هو إلا اسم مستعار لكاتب عراقي لا يريد المشاكل .
ولكن، ما زاد في الطنبور نغمة، كما يقول البغداديون، هو ذلك المثقف الذي التقيت به في عمان، في يومي الاول فيها، والذي أكد لي ان بابا سارتر هي رواية بلا مؤلف، وان بعض الناشرين يطبخون روايات من هذا النوع بين فترة وأخري. وختم كلامه بكل ثقة: أتحداك اذا قلت لي من هو هذا المسمي علي بدر...
ولكن علي بدر الحقيقي مؤلف رواية بابا سارتر الصادرة مؤخرا عن رياض الريس للكتب والنشر كان ينتظرني علي باب بيت الشعر الاردني بمجرد سماعه بخبر وجودي في عمان، وانني أحضر حفلا احتفائيا جميلا أقامه البيت بمناسبة وجود قاسم حداد في الاردن ضيفا علي بيت شِعره، ليصطحبني علي الأقدام مشيا نحو مقهي السنترال ، حيث الأحبة كلهم.
لم أقل لعلي بدر أي شيء مما قلته لكم الآن. سألته فقط عن روايته كي ألقي نظرة ولو خاطفة عليها فقال لي انه لا يملك الا نسخة واحدة منها وهي في البيت. وعلمت منه ان الرواية قد منعت من دخول الاردن لذا فانني لن أجدها في الاسواق وعليَّ أن انتظر عودتي تونس كي أقتنيها من جناح منشورات رياض الريس في المعرض الدولي السنوي هناك.
ويبدو ان سبب المنع له علاقة كما اخبرني بذلك علي بدر بنفسه، بقضية عدلية مرفوعة من قبل دار نشر عربية كبري في بيروت، كان عرض عليها الكاتب روايته بابا سارتر وتمّ رفضها.
لم تكن هذه المعلومات ذات أهمية قصوي بالنسبة لي قدر اهتمامي بمناخها العام الذي قال لي علي بدر باختصار بأنه يتناول مرحلة الستينات من الثقافة العراقية ويرسم صورة المثقف العراقي ابان تلك الفترة، وان سارتر لا غيره، كان هو الأب الأكبر.
وهنا قلت له معلقا: اذن فقد كتب فاضل العزاوي كتابه الروح الحية عن جيل الستينات، وكتب سامي مهدي كتابه الموجة الصاخبة ، وها هو علي بدر يضيف الي القائمة رواية تتناول هذا الجيل الذي كان ولا يزال يثير الكثير من الاشكاليات.
هذا مع العلم ان علي بدر لا ينتمي عمريا ولا معرفيا الي جيل الستينات. فهو شاب تجاوز العقد الثالث قليلا، وينطوي علي ثقافة كونية معاصرة تماما، اضافة الي حداثة في الرؤية الي الحياة والعالم والكتابة.
لكنه فعلها، كما قلت قبل قليل، وصفَّي حسابه مع الماضي الثقافي الذي يثقل علي كاهل الجميع، وربما علي كاهله أيضا. ويبدو انه من اللازم علي كل واحد منا أن يبادر الي تصفية حساباته الثقافية مع الحقب الضاغطة عليه وعلينا، والكتابة وحدها لا شك هي الطريق الي ذلك.
من هنا أحيي صديقي الشاعر والناقد وأخيرا الروائي علي بدر علي روايته بابا سارتر ، وأقول بكل ثقة لمن يحب قراءة الروايات بمتعة وبمعرفة، ولمن يشكك في وجود مبدع استطاع اختراق كل العقبات أمامه، من ظرفية الي فنية الي اجتماعية، أقول، وعلي طريقة القنصليات العربية والادارات العثمانلية: هذا الشخص معروف لدينا.


(*) نشر في صحيفة "القدس العربي" لندن 7/6/2002
 
البحث Google Custom Search