أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الشاعر عدنان الصائغ، بهاء الشعر، واصالة الموقف

السير في حقول الألغام، قادني للخطاب المستتر

ما الشاعر إلا الدليل الأكثر دهشة أمام أسرار العالم
متى نستبدل حوار المدافع بحوار الأفكار

حوار أجراه: زهير كاظم عبود
السويد

ثمة كلمات تبعث وهجاً وشعاعاً كما واجهات المحلات الضوئية.. طعمها كرطب التمر، وعطرها في قصب الأهوار. وحينما تصل لمنبع الكلمات تلمس سيلاً من الحزم الضوئية الملونة، ورذاذاً من المطر الصيفي المنعش، وتميزاً في اللغة يؤكد بما لا يقبل الشك أن هذا الشاعر يجيد مهنته التي تلازم أسمه. فعدنان الصائغ القادم إلينا باتجاه الغد، حاملاً جبلاً من الألم والمكابدات. وبين أصابعه الطرية حزم من الورد الأبيض وورق الآس. عذباً مثل كركرات الموج في شط الكوفة، باسقاً كما قامة النخل الفراتي، حلواً كما طعم العنب في بساتين "أبو صخير" وشواطيء الفرات، مشتبكاً مع الحياة، يخرج من الحرب سهواً ليصرخ شعراً بحجم الوطن. يكتب الأشعار بديلاً عن الطلقات، ويبث الحب بديلاً عن الدم.
وعبثاً يحاول الطغاة أن يقتلوا بداخله قدرة الكلمة على الحرية والإنبعاث والتوهج.
بين إضاءة الكلمات المرتعشة تجد حيرة عدنان الصائغ، ولأنه أصبح يمثل لغة محتدمة، يعبر عن مراحل متنوعة من حياة المثقف العراقي، ولأنه استطاع أن يختزل العذاب البشري، طيلة رحلة العمر وصولاً إلى المنافي البعيدة، بدأ عدنان الصائغ يحارب بالحب، موجوعاً بحب الوطن والناس والشعر والأشجار والأرصفة والمطر والكلمات.
يقول الشاعر د. عبد العزيز المقالح: " أن شعر عدنان الصائغ خلاصة لجوهر الشعر في النصف الثاني من القرن العشرين، في قصائده يلتقي الشجن العذب بالموسيقى الهادئة ويتعانق السؤال القصي بالسؤال الأكثر حميمية ودفئاً "..
يقيناً سنستمتع سويةً بهذا اللقاء مع الصائغ، الإنسان والشاعر.

  • نبدأ من نهر الكوفة وبيوت الفقراء ولغة الأدب والشعر المنتثرة في هواء المقاهي ودواوين البيوت العتيقة ومزارع النخيل والشلب. أين كان في كل هذا عدنان الصائغ؟

  • نهر الكوفة وحده سمفونية يؤديها كورس طويل ومتنوع من النواعير والأمواج وبساتين النخيل وقوارب الصيد وظلال البيوت. تبدأ من "مكينة الأعسم" حتى "أهل الدواب".. هكذا كنا نتخيل ذلك النهر الحالم، السارح بأمواجه هو يخترق المدينة ليشطرها نصفين: المدينة في ضفة، والبساتين والقرى في الضفة الثانية. وكثيراً ما كنا نعبر بطفولاتنا ذلك النهر سباحة في ظهيرات القيظ ونعود حاملين على رؤوسنا التمور والحصرم وثيابنا المشققة.
    وفي جانب ثانٍ، كان طميه يحمل كل تلك الثورات الخبيئة التي مرت في أرض السواد منذ سومر والجنائن المعلقة حتى انتفاضة آذار، مروراً بأغاني عشتار وناظم الغزالي ومكابدات الحلاج ودم الحسين واعدام رجال ثورة العشرين على جسرها الخشبي و حطام سفينة الانجليز التي أغرقها الثوار، وصولاً الى دبابات الحرس الجمهوري التي حصدت آخر شهقاتنا
    في جانب ثالث من المشهد، علمني ذلك النهر أول أقانيم القراءة حينما كان يحمل لنا بريد أمواجه كتباً طافية، كنا نهرع سباحة لالتقاطها وتجفيفها. كتب متنوعه، من الدين إلى الماركسية الى السحر والشعوذة إلى الإلحاد.. خليط عجيب لم تستوعبه طفولاتنا المفتوحة على البراءة والفقر والتساؤلة: من رماها ؟ ولماذا أريد التخلص منها ؟
    الأكبر منا سناً قالوا أنها بسبب مداهمات الشرطة السرية للبيوت. والبعض قالوا أنهم سمعوا من أهاليهم أنها كتب شيطانية سيجن من يلمسها.. وأضافوا أشياء أخرى كثيرة وغريبة..
    هل جننتني حقاً هذه الكتب والمخطوطات، لأجد نفسي عازفاً عن ألاعيب الطفولة، ومن ثم لتقودني من النهر، إلى رفوف مكتبات مسلم بن عقيل والحكيم والمكتبة العامة منهمكاً في التهامها كتاباً كتاباً ثم أروح أشتغل عامل طابوق وبائع بطيخ وبوظا وسجائر، لأجمع بعض الدراهم القليلة وأهرع إلى مكتبة المتنبي والسباك في الكوفة، ومن ثم إلى مكتبات النجف المدهشة والتي قل مثيلها، (تحولت أغلبها إلى محلات لبيع الأحذية والملابس ومطاعم للكباب والفلافل).
    إيقاعات سمفونية النهر كانت هي الطرقات الأولى التي فجرت في روحي كل هذا التوق المجنون إلى الشعر والكتب. وقادني هذا التنوع الخصب بين دفتيه إلى سطوة المفارقة لأكتشف كم في حياتنا من المفارقات التي هي أقرب إلى الشعر. والتي كانت هي اللبنة الأولى والأساسية في تكويني الشعري.

  • هل هي مصادفة أن يخرج من بين شقوق الطين، في أرض الكوفة المتنبي والجواهري وعدنان الصائغ، هل هي وراثة الشعر أم استعادة لمجد الأدب العربي في العاصمة المنسية؟

  • القائمة تبدأ ولا تنتهي على مستويين: الثورة والشعر، وما بينهما من تمرد ودم ونصوص، يؤطرها هذا التأريخ المتقلّب والحافل بكل ما هو موجع ومدهش وغرائبي.. فمثلما حفظتْ لنا بيوت النجف وسراديبها ثورات الحسين والتوابين وزيد بن علي والقرامطة، حفظت لنا أيضاً رسائل أخوان الصفا ومعادلات جابر بن حيان وكتب الكندي والكسائي ونصوص النفّري، هذا الكوفيّ الحداثوي الذي بهر الغرب قبل العرب بقرون..
    وما زالت المجالس الأدبية حتى يومنا هذا حافلة وضاجة، تحفظ الكثير والكثير رغم زمن الجدب الذي نعيشه. ألم يقل العلامة اللغوي مصطفى جواد عن النجف: " حتى بقاقيلها هم شيوخ في الأدب والنحو"..
    قد يكون للمناخ الذي تحدثتُ عنه أثر كثير في استمرار هذه "الوراثات الشعرية" التي ما فتأت تلفتُ إليها الأنظار. وقد رأيتُ ذلك عندما قرأتُ في إحدى الندوات الثقافية في لندن قبل سنتين هذا المقطع لشاعرة تسعينية من النجف وهي تنشد تحت مرزاب الذهب:
    "وأنا أصعد سلم داري
    اسأله في كنه قراري
    أكل هذا العلو
    ويوجد من يدوس عليك".
    ونصوصاً أخرى لشعراء شباب مثل احمد الشيخ وماجد الشرع وعبد الهادي الفرطوسي وغيرهم.
    أقول هذا لأشير إلى إن الدورة الشعرية في هذه المدينة العجائبية تشبه دورة الحياة. أو هي كطائر العنقاء تنهض من رمادها وتتجدد باستمرار.
    في هذه الأجواء نمت طفولتي وترعرعت تجربتي وتفتح وعيي. وما أنا إلا نقطة صغيرة بين دفتي هذا السِفر الضخم الذي سطره الأقدمون والمتأخرون في هذه المدينة. وقد استمع لي الشاعر الحصيري في أمسية شعرية مع مجموعة من الشعراء وقال للشاعر عبد الصاحب البرقعاوي الذي قدمني في تلك الأمسية كلاماً جميلاً عن قصيدتي وبأنني سأكون خليفته في الشعر العمودي. لكنني ربما أكون قد خيبت ظنه، عندما قفزت بعد سنوات أسوار الشعر العمودي، لأفر إلى حقول القصيدة الحرة وشواطيء قصيدة النثر. من يدري ربما لأعود إلى النفري. ألم أقل لك أن دورات الشعر أقرب إلى دورة الحياة نفسها.

  • هل تستطيع أن تكون دليلنا في رحلة الأنفاق الحجرية، على حدّ ما تصفه قصيدة الشاعر عبد الوهاب البياتي " اكتشاف " التي أهداها إليك؟

  • كانت تلك الحيرة تتلبسني دائماً وما زالت، أمام أنفاق العالم الغامض بأسراره وارهاصات الروح. وما الشاعر إلا ذلك الدليل الأكثر حيرة ودهشة أمام أسرار الحياة ومتاهات الكون اللامتناهية. يقود الآخرين في رحلته الاستكشافية، باعتباره الرائي كما تصفه ملحمة كلكامش، أو حاملاً شعلة بروميثيوس. لكنه كلما امتدت الرحلة ازداد ضياعاً وتساؤلاً وقلقاً واغواءً.. ألمْ يقلْ القرآن الكريم "والشعراء يتبعهم الغاوون". وهذه باعتقادي ليست سبة كما يذهب الكثير من الفقهاء والمفسرين، بل هي توكيد على تلك الرحلة الاستغوائية الممتعة والمتواصلة في وديان المسكوت عنه وأسراره اللذيذة، والتي مازالت أرواح أسلافنا الشعراء القدامى وأرواحنا تسكنها وتهيم فيها.
    هذا الضياع الشعري في  وادي عبقر كما يسميه القدامى، أو اليوتوبيا كما يصطلح عليها المعاصرون، أو المدن اللامرئية على حد وصف إيثالو كالفينو، أو المدينة الفاضلة كما يصورها أفلاطون، هو أكثر جمالاً ولذةً وسحراً من الوصول أو اليقين المنطقي للأشياء. ألم يصرخ ناظم حكمت مثلاً: " أجمل البحار تلك التي لم نصلها بعد". ألم يتحسر كافافي لحظة الوصول لأيتاكا على متعة الطريق نفسها..
    هل تريد أن أكون دليلك؟ إذن سأقودك إلى تلك الأرخبيلات. لكن لا تتوقع أن تجد شيئاً أو تصل إلى شيء..

  • نصوصك المكتوبة في مجموعة "تحت سماء غريبة" لندن 1994 التي صدرت بعد خروجك من الوطن، نشعر انك تخطيت حقول الألغام وبدأت تنشد للوطن يقظاً ومبدعاً ومفرداً كلتا يديك تمتلك أدواتك الإبداعية، غارقاً مع آلام شعبك ومحنته. في حين أن نصوص مجموعتك الأخيرة "تأبط منفى" السويد 2001 ، لا تعكس وحشة المنفى وإنما تتحول الكلمات إلى نبؤات دامية وأخرى متفائلة تبشر بالغد الجديد. فعلى أي أساس تتخيل العراق الذي ننتظر ؟

  • "تحت سماء غريبة" كانت أولى خطواتي على أرض الحرية. لك أن تتخيل الخطوات الأولى للسجين، بعد اعتقال قرابة ثلث قرن. ذلك الوثوب الحذر والفرح والاضطراب والتوق والخشية والحلم والجنون، ذلك الاكتشاف المبهر للطبيعة والشمس والناس وضجيج الأرصفة في نشيدها العالي، ذلك الألم المتخثر والحلم الخائف بين جدران العتمة، ذلك الصراخ الطويل المكتوم، ذلك الحنين إلى الأشياء المفقودة.. وقد أشار الشاعر سعدي يوسف إلى ذلك في مقدمته للديوان مشخصاً برهافةٍ تلك الحالة.
    كل هذا وغيره الكثير، كان يعتمل في روحي وهي تصرخ في شوارع عمان، محطتي الأولى قبل الرحيل إلى مدن الثلج. ثمة خيبة شفيفة في السنوات الأولى، لكنها راحتْ فيما بعد تطبق بأسنانها القاسية على تلك الروح الطرية الوثابة صاحبة الخبرة القليلة. خيبة ربما سببها صقيع الغربة، أو التباس النفوس ولهاثها، أو الإحتراب والصراع السياسي المفلس، أو المتاجرات والمزايدات والاتهامات والمعارك الجانبية، تلك التي أخذت تطحن الجميع، بعيداً عن الهموم الحقيقية للوطن والناس الذين مازالوا ينتظرون وينظرون وراء أسلاك الحدود بعيون شاخصة مدماة إلى الأفق المدمى.
    كتبت أكثر من قصيدة عن هذا الوضع المؤلم منها قصيدة "أحزاب" و" أوراق من سيرة تأبط منفى". ومع هذا فأنني أرى خلف رماد هذه الخيبات ثمة عشب وشمس وأرواح مشرئبة، أرواح كواها الألم والقهر، أحسها أكثر صدقاً وأقوى من هذا الركام الميت من الطفيليات الضارة التي نراها هنا وهناك، طافية فوق مجرى نهر العراق.
    أن الكثير من ثورات التاريخ المهمة جاءت بعد سلسلة من الهزائم والرهانات الخاسرة. وهذه الهزائم الروحية والسياسية التي نعيشها الآن ومنذ عقود طويلة، لا بد لها أن تنتهي بنا إلى دورة التجربة والتحليل والاستنتاج ومن ثم للبناء والتطور من أجل العراق الذي نحلم بدلاً من الاجترار والاحتراب أو اللطم.. هكذا أرى وأستقرأ الخراب الآن. وقريباً من هذا يصرخ الشاعر مظفر النواب:" هذي الأمة لابد لها أن تأخذ درساً في التخريب.."

  • عبر قصائد ديوان "العصافير لا تحب الرصاص" 1986 – بغداد أدنت الكارثة وأنت في الداخل وكتبت بجرأة المنتحر وعكست المشاهد المظلمة في بلاد تغلفها الحرب والرصاص والدماء وأكداس من خوذ القتلى وأعلنت رفضك الصريح لكوابيس الحرب مما جعلك لا تغيب عن أنظار السلطة. فمن أين تستمد هذه الجرأة في حين يعتبر البعض مجرد الصمت موقف شجاع !

  • ليست لي بطولة ولا أدعيها. هذه الأكذوبة التي نفخ بها الكثيرون في زماننا الفارغ هذا، ونفخت بقرب الكثير من الثوار والشعراء والقادة، حتى لم يعودوا يرون واقعهم أو يروننا أو يرون أنفسهم..كل ما نحتاجه هو الصدق الهادئ مع النفس تعبيراً وسلوكاً، وهذا الصدق هو الذي يرسم لنا الطريق: شاهداً أو شهيداً. وعندما تكون شاهداً على عصرك كيف يمكنك أن ترى وتروي الأحداث؟ وبأي لغة؟ وكيف يمكنك تمرير خطابك من أمام عيون الرقيب لتصل الناس وتؤثر فيهم.
    كثيرون كتبوا. كثيرون فضلوا الصمت والانزواء بعيداً عن الساحة احتجاجاً أو أماناً أو خوفاً من هذا الطريق الملغوم. وكثيرون فضلوا الانخراط في جوقة التطبيل فذلك أسلم وأدسم. وآخرون اختاروا في الكتابة ذلك الطريق الوعر والجميل والخطر التي سميته مرة "المشي بين حقول الألغام" أو كما يطلق عليه " الخطاب المستتر " أي أن تخفي خلف المعنى الظاهري المعنى المستتر الذي تبغي ايصاله. لهذا يمكنني القول أن السير في حقول الألغام في سنوات الحرب التي عشتها هناك، قادني للخطاب المستتر.
    وهذا ما حدث معي بالضبط في ديواني "العصافير لا تحب الرصاص" الذي وافقت عليه وزارة الثقافة ثم منعته. وكذلك مع قصيدتي" خرجتُ من الحرب سهواً ".. وقد قرأت قبل سنوات كتاباً مهماً لجيمس سكوت عنوانه "المقاومة بالحيلة أو كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم" وعندما انتهيت منه صرختُ كم من طروحاته طبقناها على سليقتنا هناك، وكم مررنا من نصوص مشاكسة من بين أسنان الرقيب دون أن ينتبه لما نقوم به، وهناك أمثلة رائعة لما فعله العديد من مبدعي الداخل، وهناك نصوص كثيرة يمكن تأشيرها.
    ما نحتاجه حقاً هو جيمس سكورت عراقي يغربل النصوص المكتوبة في الداخل، ليكتشف أعظم أساليب ومدارس المقاومة والتحدي، تلك الشبكات من الخطاب المستتر والأنفاق الخفية التي تتواصل بين المبدعين الجادين والناس رغم زعيق وسائل الإعلام ليلاً ونهاراً.
    أيضاً قادني للخطاب المستتر أمران، أولهما: حدة الألم المتفجر مقابل قسوة البطش. وثانياً: مبدأ " التقية " الذي تعلمته في صباي من المجالس الدينية في النجف يقابله درس "التورية" في علم البلاغة العربية، إضافة إلى لغة "الحسجة"  الشعبية كما يسمونها في الجنوب.. ويورد جيمس سكوت أمثلة وقصص عديدة  سمع عنها واشتغل عليها لدى قبائل وشعوب مضطهدة في أمريكا وأوربا وأفريقيا لا تختلف قليلاً أو كثيراً عما يفعله أو يتحدث به أهلنا المحاصرون هناك أمام سطوة الجلاد.
    في نهاية ديواني "العصافير لا تحب الرصاص"  أقول: "في زمان الطبول لك أن تنتحي جانباً وتؤجّل ما ستقول".. وكنتُ أُوجل بعض ما أريد قوله، لكن بعد الإنتفاضة وقد ازداد صراخ آلامي وجروحي أكثر مما تتحمله الكلمات، وكذلك ازادت السلطة بطشاً على بطش. وكشرت أنيابها أكثر ومخبريها ورقبائها.. وقد وجدت أن الساحة ازدادت خطورة فبين لغم ولغم ثمة لغم. بعد مسرحيتي " الذي ظل في هذيانه يقظاً " مطلع 1993 رأيت أن التقدم بخطوة واحدة أخرى يمكن أن يفجر علي وعلى من حولي أكثر من لغم، لذلك قررت الهروب من الوطن مستغلاً دعوتي إلى مهرجان جرش في عمان، وهذا ما حدث.

  • هل تخطيت مسافة المنفى في مدن الغربة ؟ هل هدأت روحك المنشطرة في خضم الحرب الكارثية التي عشتها في العراق ؟

  • ما زالت روحي تستيقظ في ليالي المنفى الباردة، تركض في شوارع العالم وهي تصرخ، تروي عذابات الناس وقهرهم وحصارهم، هناك، منذ عقود، خلف أسوار القمع والدكتاتورية والمخططات الأميركية والمصالح الدولية والاقليمية والحزبية والعشائرية.. تحكي يوميات الجنود المنسيين في الثكنات، وخربشات المعتقلين على جدران غرف الاعدام وتأوهات الأرامل وغصات الأمهات وجوع الأطفال، في بلد يطفو على النفط والحضارات.

  • من أين يستمد عدنان الصائغ شاعريته وحروفه المجندة لخدمة الوطن كيف يستحضر زمن القصيدة؟

  • لمْ أستمدّ لغتي من القواميس ومدارس النقد التنظيري ولغات الآخرين وآساليبهم الفنية، بل التصقت بنبض الناس  والأرصفة. بكرتُ منذ صباي إلى مساطر العمال، وغصت حتى أخمص جروحي في برك الطين، وحملتُ الصناديق في المخازن، وعشت تلك السنوات، سنوات الحروب المريرة بين المعسكرات وحقول الألغام والكراجات، ونمت مع الجثث والجرحى في الخنادق والمستشفيات، وعاقرتُ الخمرة في حانات روحي حتى ساعات متأخرة من الليل، صليتُ وكفرتُ وجعتُ وسافرتُ طويلاً وتشردتُ من رصيف الى رصيف ومن وطن إلى آخر، صادقتُ ألواناً من الرجال والنساء والطيور والمقاهي، والتهمتُ رفوفاً كاملة من المكتبات. من هذا السفر والمعين الذي لا ينضب أستمد لغتي وموضوعاتي.

  • ماذا تتمنى للعراق الآن ؟ ماذا تتمنى للعراق أن يكون ؟

  • أتمنى أن يستيقظ العراق ذات فجر مندى، فلا يرى في ساحاته وشوارعه صور الدكتاتور أو القائد أو المجتهد الأوحد، ولا يرى طائرات الأعداء تحوم في سمائه البهية. أتمنى أن يفتح عينيه فيجد أبناءه المشردين، وقد عادوا إلى ديارهم وأهلهم بعد طول غربة وتشرد في أصقاع الأرض، يغسلون جراحاتهم بينابيعه الصافية ويلقون برؤوسهم المتعبة بين ذراعيه الرحبتين، بأمان وطمأنينة، دون أن تفزعهم ركلة شرطي أو ناب جوع أو صفارة حرب.
    أحلم بعراق لا يحكمه إلا القانون ولا يصل الرئيس إلى كرسي الحكم على ظهر الدبابة أو من خلال انقلاب دموي أو قطار أجنبي.
    أتمنى أن يكون لنا صندوق اقتراع وبرلمان، وأن تتعلم أحزابنا الديمقراطية والحوار وحرية النقاش بدلاً من حوار المدافع.
    أتمنى للعراق أن يذهب نفطه وخيره وموارده لبناء المصانع والمزارع والجامعات والمسارح والمكتبات ولا تذهب لبناء المعسكرات والمعتقلات وصواريخ العابد، التي هزجت الجماهير المسكينة لصانعه في ظلام أيام القصف: "من العابد للفانوس اسمع يا القائد".
    أتمنى للعراق أن يكون بلد الجميع وأن يفتح نوافذه لكل رياح العالم الأربع، وأن يمتد بخيره وثقافته واشعاعاته على جميع القارات.
    أتمنى للعراق أن يشطب شعراؤه قصائد التمجيد والمديح والبطولات الفارغة، لتنتشر قصائد الحب والحياة والأمل.

  • مسرحية "الذي ظل في هذيانه يقظاً" علامة من علامات الرفض لواقع الكتم وانعدام الهواء في العراق، كيف كان تأثيرها وبأية ظروف كتبت؟

  • المسرحية هي بالأساس قصيدة طويلة تحت عنوان" نشيد أوروك أو هذيانات داخل جمجمة زرقاء لا علاقة لعدنان الصائغ بها " .. لم أكن أتوقع لها أن تحقق كل هذا. ولم يكن ذلك لولا جرأة المخرج المبدع غانم حميد، وبراعة بطل المسرحية الفنان القدير حكيم جاسم، واعداد الفنان احسان التلال ، وجهود الممثلين والفنيين الرائعة.
    لقد فوجئت حقاً بما أحدثته المسرحية من صدى على صعيد الشارع وجمهور المثقفين أثناء عرضها في مهرجان بغداد المسرحي - شباط عام 1993 على مسرح الرشيد. وبعد منعها وايقافها من قبل وزارة الثقافة والإعلام، ازداد الحديث عنها واتسع صداها.  ولامتصاص ذلك أمرت الوزارة بإعادة عرضها ثانيةً، مشروطاً ذلك بحذف بعض مقاطعها. غير أن الإقبال عليها ازداد بشكل لافت للنظر وازدادت مساحة التأويل لتصبح مصدر خطر أكيد.. وعلى أثر ذلك وبناءاً على نصيحة لن أنساها من أحدهم، غادرت الوطن كما ذكرت.
    وقد حصدت المسرحية 3 جوائز في المهرجان. وأشاد بها فنانون كبار مثل يوسف العاني، سامي عبد الحميد، د.عوني كرومي، كما تحدثت عنها الصحف العراقية والعربية، فمما ذكرته صحيفة المحرر ـ باريس/نيسان 1993:" عندما أُسدل الستار على العرض الأول لمسرحية "الذي ظل في هذيانه يقظاً" دوت عاصفة من التصفيق لم يشهدها تاريخ المسرح العراقي من قبل، وخرج ممثلو المسرحية يشقون طريقهم بين أمواج الجمهور المتلاطم على أبواب مسرح الرشيد في بغداد تاركين خلفهم علامات الدهشة والاعجاب، ولما نظّم التلفزيون العراقي استفتاءً مسرحياً كان لـ"هذيان" حصة الأسد فقد أجمع أغلب من شملهم الاستطلاع على أنها الأفضل والأجرأ من بين ما قُدم مؤخراً "

  • عن " نشيد أوروك" الذي اختمرت فكرته في عقلك وقلبك في أتعس ظرف إنساني يمر به عدنان الصائغ وفي مكان يعج بروث الحيوانات وروائح التعفن فهل هي قدرة الصائغ على خلق السبيكة وصياغتها ؟

  • بدأت بكتابة القصيدة عام 1984 في اسطبل مهجور للحيوانات في قرية شيخ وصال في السليمانية، عشت فيه قرابة عامين ، وكنت وقتها جندياً معاقباً، لا لسبب إلا لأنني كنت أقرأ بنهم. ومرة دخل علينا للتفتيش النقيب ضابط التوجيه السياسي إثر وشاية، فوجد تحت بطانياتي العسكرية مجموعة من الكتب، من أراغون إلى أدونيس، إلى الجواهري وأريك ماريا ريمارك والسياب والمعري. التبس الأمر عليه وأمر بنقلي معاقباً إلى هذا الإسطبل وكان معي أربع جنود محتجزين أيضاً، أحدهم كان مصاباً بالشيزوفرينيا أسمه سيد حرز.
    بعد أيام  نقلوا إلى هذا الاسطبل الذي نحن فيه صناديق العتاد، فكنا نجلس ونأكل ونحلم ونغني ونتشاجر ونتسامر وننام فوق تلك الصناديق، وكان سيد حرز يشعل طباخه الصغير "الجولة" فوق هذه الصناديق وعبثاً كنا نترجاه أن يحمل طاوته و"جولته"  إلى خارج الاسطبل، لكنه كان يعاند ويزبد ويهددنا برفسها.. أي رعب يا الهي.
    في أحد الأيام، حمل أحد الجنود صحيفة مهملة قرب مزبلة الفوج وجد فيها صورة قال أنها تشبهني. كانت جريدة الجمهورية، فتحتها لأجد فيها صورتي أمام مقالة للناقد عبد الجبار داود البصري، يتحدث عن ديواني الأول "انتظريني تحت نصب الحرية" الذي كان صدر في بغداد. تصور أية فرحة أو غصة مشوبة بالمرارة، أو قل بالمهانة. أن يُحتفى بديواني هناك وأن أعيش هنا، في هذا الاسطبل. أن يعيش بين الأضواء وأن أعيش في العتمة. تذكرتُ مخاطبة السياب لديوانه:" ألك الكؤوس ولي ثمالتها أو ليفر من صدرٍ الى ثان وأنام في... الخ.." لم أنم تلك الليلة أبداً وعلى ضوء الفانوس المدخّن وفي نوبات الحراسة، بدأت بترديد تلك الأبيات الأولى: "
    في المحافلِ  . .
    .. أو في المزابلْ
    في الأغاني التي كرّزتها الاذاعاتُ    
    في حجر القحط يجرشُ ضحك السنابلْ
    في دروب الصحافةِ ، في اللادروب ، الغروب الذي سالَ
    ... أو مالَ
    مَنْ قالَ إن القصيدة لا تنتهي في جيوب المقاولْ
    في مقصِ الرقيبِ [ سينسى عويناتِهِ القزحيةَ ،
    فوق سرير البغيِّ ]
    فيشطبُ - فى الصبحِ - نصفَ القصيدةِ
    كي تستقيمَ مع الميلان الأخير  
    لوزن الوظيفةِ "
    لم أكن أعلم أو أحلم أنها ستصبح بعد 12 عاماً من الكتابة أطول قصيدة في الشعر العربي، كما وصفتها الصحف والنقاد. وأنني سأتنقل حاملاً مسوداتها من بلد إلى بلد، لأتمكن من طباعتها في بيروت عام 1996 بعد أن منعت من النشر في أكثر من بلد عربي. ولم أكن أتصور أنها ستثير عاصفة من الاشكاليات والهجوم والبيانات والشتائم من أطراف عديدة ومن النظام لتصفني صحيفة بابل بـ "المرتد". ومن جانب آخر ستلقى كل تلك الحفاوة والتكريم من قبل الكثير من المثقفين والأدباء والقراء والمنظمات، وأنها ستستنسخ وتنتشر بشكل عجيب في بلدي وأقطار عديدة.

  • مع الارهاب الفكري الذي عانيت منه الكثير، هنا أو هناك.  لك اكثر من تجربة وقد كتبت مقالاً أسميته " احذروا الادباء الفاشلين" ومقالاتك المنشورة في دورية تموز وقصائدك في "غيمة الصمغ" ، " العصافير لا تحب الرصاص" هي دلائل عميقة على قدرة الشاعر على المقاومة بالحيلة فهل هو منهج أم موقف أم ماذا ؟

  • الإرهاب الفكري الذي نعيشه متعدد المستويات، يبدأ من الضغط على الكاتب ومطالبته بحذف هذه الفقرة أو تلك، ثم بالمصادرة أو النفي، ثم يزداد ضراوة ليصل إلى التهديد. وهذا يعكس حالة الواقع المزري الذي يعيشه الكاتب الحر والإنسان المستقل في مناخ من الرعب والقمع والتقسيمات والتناطح القبلي، سواء في بلادنا أو في منافينا بشكلٍ أو بآخر.. يسهم فيه النظام الدكتاتوري بأبشع صوره من جانب، ومن جانب آخر تسهم فيه بعض الأطراف والأحزاب والقوى بأشكال متعددة.
    الغريب في الأمر أن بعض الأطراف التي كانت قد فرت من بطش النظام، نراها هنا في المنفى، تعود لتمارس الإرهاب والمصادرة والسلوك نفسه. وهذا الأمر أكثر إيلاماً.
    سأقول لك شيئاً، مقالتي " احذروا الأدباء الفاشلين" التي نشرتها في إحدى المجلات الصادرة في السويد، كنت قد نشرتها سابقاً في بغداد نهاية الثمانينات. فقد وجدتُ - ولا تتعجب - أن سلوك بعضهم هنا لا يختلف عن سلوك رجل الأمن هناك، وتصرفات بعض الأدباء الفاشلين في المنفى، لا تقل عن تصرفات رقباء المطبوعات في الوطن. وهذه الصورة المريرة لا أراها لوحدي. الكثير من الأدباء والفنانين يشكون من ذلك، سواء من المنفيين القدامى أو الجدد. ففي قصائد سعدي يوسف الأخيرة وفي مقالات الكثيرين من الأدباء والمثقفين الجادين تجد مثل هذه الشكوى المرة. وهي ترينا واقع الحال الذي علينا أن لا نستسلم له وأن نتصدى له مهما كلف الأمر، أليست هذه أولى خطوات التغيير الحقيقية، سواء في الإبداع أو المجتمع  أو السياسة أو الأخلاق.

  • هل أن محنة الوطن تلغي قصائد الوصف والغزل والحب؟؟ هل تموت المشاعر الإنسانية بوحشة المنافي والزمن المرير...؟

  • ليس هذا بالضبط، لكن الأحداث المهولة والمروعة التي عاشها جيلنا من جانب واتجاهات الكتابة الجديدة من جانب آخر غيرت مجرى القصيدة وانشغالاتها ولغتها ورموزها وتقنياتها، فلم يعد نصنا الجديد يحفل بالوصف أو يميل إلى التغزل المحض أو المناسبات، بل صارت له مهام أكثر إلحاحاً. ومن هنا تتجلى حداثته وأصالته النابعة من هموم عصره وناسه وليس من الحداثة الغربية المستوردة أو تكرار الموضوعات واجترار الموروث القديم وتقليده.  
    وهذا الانعطاف في المشهد الشعري العراقي ليس جديداً، فقد بدأ مع ارهاصات الشعر الحر، منذ منتصف القرن الماضي، لكنه في مطلع قرننا الواحد والعشرين هذا، أخذ منحى آخر أكثر توغلاً في تفاصيل الحياة ومستجدات العصر. وهذا المنحى ليس على طريقة:
    " وقاطرةٍ ترمي الفضا بدخانها
    وتملأ صدر من سيرها رعباً "
    من جهة مواكبة العصر أو على طريقة:
    " غراء فرعاء مصقولٌ عوارضها    
    تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوعلُ "..
    من جهة الغزل أو الوصف. ليست القصيدة المعاصرة في هذا بل  في اشراقات الروح والفكر واللغة.

  • أشعر بأن الأصولية في بلدي اكثر تطوراً وتفهماً منها في بقية الوطن العربي. والا لما تقبلوا ما سردته في النشيد من أبيات فسرت على أنها تمس الدين والجنس وهما من المحرمات العربية، خاصة وان سلطتنا تعتمد الدين كستار وغطاء إعلامي لسياستها .. كيف تشعر أنت ؟

  • لم أمسَّ شيئاً من المقدسات، وحاشا أن أفعل ذلك. ما فعلتهُ في نشيد أوروك هو صراخ حاد وطويل وموجع. ألم تسمع في حياتك هذيان رجل مخمور، في آخرة الليل، ملقى وحيداً على الرصيف. أنا كنت ذلك الرجل المجروح الذي شرب من كاسات جراحاته حتى الثمالة، والذي تراه يرقص مذبوحاً من الألم على أرصفة الورق.
    في بلدي وهم من خَبَرَ ذلك الألم واكتوى به كانوا أكثر استيعاباً وتفهماً للنشيد سواء ممن كان منهم خارج الوطن، أو من وصله في الداخل عن طريق الاستنساخ.
    لقد أختلطت تفسيرات الآخرين لهذا الصراخ والهذيان، ففسروه كما شاء لهم بطرهم وأفكارهم الضيقة. والسلطة من جانبها روجت لذلك الفهم المغلوط والقاصر لسببين: أولاً لصرف الأنظار عن ممارساتها التي فضحها النشيد، وثانياً لإشغالي والآخرين بمعركة لا ناقة لي فيها ولا جمل.
    ولأنها تعتمد الدين فعلاً كستار وغطاء إعلامي لسياستها، فقد راحت تتستر به لتخفي عوراتها وما تفعله من بشاعات. وما قضية حيدر حيدر ونصر حامد أبو زيد ومارسيل خليفة وليلى العثمان وعالية شعيب وإبراهيم نصر الله وموسى حوامدة وغيرهم الكثير، إلا غطاء أراد البعض أن يتستر به أو يحجب عن الأنظار هول ما يحدث في بلده أو العالم.
    إن من الغباء المريع أن يصدق المرء شعارات الطغاة سواء في الدين أو الوطنية أو الهموم القومية.

  • هل خرجت من الحرب سهواً .. أم انك مشيت إلى قدرك ؟

  • نعم، لقد خرجت من موتي سهواً.. ولمرتين مرعبتين، الأولى: من الحرب والألغام والسواتر المتقدمة، حيث عشت قرابة 12 عاماً جندياً متنقلاً بين المعسكرات والأفواج ( باستثناء سنتين نقلت فيها إلى " جريدة القادسية ومجلة حراس الوطن، لأجد أمامي هناك، ألغاماً من نوع آخر). والثانية هي تلك الألغام القاتلة بين سطر وسطر، والتقارير المسمومة التي لا أعرف حتى الآن كيف نجوت منها. كان الصديق ضرغام هاشم يقول لي بحرص أنه كان يضطر إلى قراءة المقالة التي أكتبها مرتين، دون كل مواد المجلة، خوفاً علي من شطحات قلمي، كما كان يسميها لكن قلمه – ياللمسكين -  شطح به إلى لغم قاتل. لهذا كنت أقول دائماً أن الكتابة الإبداعية الصادقة في داخل الوطن هي أشبه بالمشي قي حقل ألغام.
    "خرجت من الحرب سهواً " كان هو عنوان قصيدتي التي كتبتها في العراق وحازت على الجائزة الأولى في مسابقة الشعر الكبرى التي نظمتها دار الشؤون الثقافية العامة ومجلة الأقلام عام 1992. والغريب بعد نيلي الجائزة هناك أن بعضهم كتب تقريراً للسلطة يشير الى أن قصيدتي تشاؤمية لا تحمل "روح النصر" وأنها متأثرة بالأفكار المعادية وغير ذلك من الكلام الخطير الذي يعد وشاية قاتلة.

  • هل تجد أن ترجمة الشعر إلى السويدية والإنكليزية والهولندية وغيرها من لغات العالم، يمكن أن يوصل صوت المثقف العراقي أم انه باب من أبواب الشهرة الأدبية؟

  • يمكن للترجمة أن توصلك إلى من تريد وتبغي أن تصل إليه، لكن قبل ذلك يبقى السؤال الأهم هو ما الذي تريد إيصاله، ما هو نوعيته وقيمته وأهميته. فالمهم أولاً هو في نوعية الخطاب وصدقه وقيمته الفنية والفكرية، قبل التفكير بالنشر أو الترجمة أو الانتشار. هناك آلاف من الكتب ترجمت من والى العربية ولكن القراءة هي التي تغربل، فهي المعيار والحكم الوحيدين.
    أرى أن ما وصل من عيون الأدب العربي المعاصر والقديم للمكتبة العالمية لهو شيء قليل جداً.. تجول في مكتبات استكهولم ودور النشر الأوربية وقلّب رفوفها وواجهاتها لن تجد للإبداع العربي حيزاً يُذكر أمام ركام أو سيل المطبوعات. وفي الجانب الآخر، خذ على سبيل المثال مئات الشعراء والروائيين السويديين، والأوربيين والأمريكيين والأستراليين، ما الذي وصلنا منهم؟ أن ما ترجمناه منهم لا يتعدى إلا القليل القليل.

  • ماذا تعني جائزة هيلمان هاميت العالمية للابداع وحرية التعبير وكيف يتم منحها وكيف تبلغت بالحصول عليها ؟

  • جائزة هيلمان هاميت العالمية أنشأها شاعران هما ليليان هلمان وداشل هاميت عانيا من الاضطهاد في زمنهما وقد أوصيا أن توزع تركتهما كجوائز لمن يتعرضون للاضطهاد في شتى أنحاء العالم بسبب كتاباتهم. وهناك لجان تعمل على مدار العام وترفع توصياتها ليتم منح الجائزة لأحد الكتاب. وهو تقليد فيه أكثر من معنى على الصعيد الإبداعي والإنساني ويا ليت مبدعينا الكبار يحذون حذوهم بدلاً أن تبقى ثراواتهم (إن وُجدت لهم ثروات) نهباً للصراعات العائلية.
    جاءتني هذه الجائزة في أصعب أيام حياتي على الإطلاق، بسبب المضايقات التي تعرضت لها عقب صدور ديواني " تحت سماء غريبة" ومنع كتبي في العراق بسببه، وبسبب الإفلاس المضني نتيجة عدم رغبة أي صحيفة أو مجلة أو مكان لتشغيلي. كنت خارجاً من عمان بعد أن أوصدت الدنيا في وجهي لا أدري إلى أين؟ وصلتُ دمشق وحدي تاركاً عائلتي في عمان لمصير مجهول تماماً ريثما أدبر حالهم، على أمل الوصول الى بيروت وفي جيبي تصفر رياح العالم الأربع.
    في صباح ماطر جاءني فاكس من زوجتي على عنوان إحدى الصحف العراقية في دمشق، تخبرني أن لجنة الجائزة اتصلت وأبلغتها بفوزي.

  • ثم ماذا عن جائزة الشعر العالمية ؟

  • هي جائزة يمنحها مهرجان الشعر العالمي الذي يعقد كل عام في المدينة الهولندية روتردام، ويحضره شعراء من مختلف مدن العالم، بالاضافة إلى نقاد ودارسين وصحفيين ودور نشر ومنظمات ثقافية عديدة. وتوضع أسماء الفائزين في جدارية كبيرة في إحدى ساحات المدينة.
    وقد وصلني نبأ الجائزة وأنا مدثّر بالصقيع والعزلة والكآبة في مدينة لوليو السويدية جنوب القطب الشمالي.
    وقد حصلت عليها بعد صدور قصيدتي الطويلة "نشيد أوروك" ووصفي بـ"المرتد" من قبل صحيفة بابل التي يشرف عليها عدي صدام حسين . وكان قد صدر الديوان بصعوبة بالغة حيث رفضته الكثير من المطابع ودور النشر. وقد وصل الأمر إلى حد تهديد إحدى المطابع بإحراقها من قبل من يدعون بالاصوليين (ما علاقة هذا بهذا؟). وازدادت الحملة من العديد من الأطراف والجهات، شتائم في بعض الإذاعات والصحف هنا وهناك، إضافة إلى ضغوط وممارسات يصعب ذكرها الآن.

  • تقول حين خرجنا إلى المنفى اتسعت الغربة في حين يخلد غيرك للراحة والاستجمام. ويصمت آخر باعتبار أن مهمته انتهت.. فأين تنتهي مهمة الشاعر والمثقف داخل الوطن وخارجه؟

  • هناك نقطتان يفتحهما سؤالك هذا. أولهما تتعلق بمهمة المبدع الأساسية، وهذه المهمة برأيي لا تنتهي عند حد ولا تتوقف أبداً عند محطة أو نقطة أو كرسي، فهي سرمدية ومتداخلة ومتواصلة على كافة الأصعدة. وإلا هل تنتهي مهمة الأم بعد الإنجاب، أو القصيدة بعد القراءة، أو السحابة بعد المطر.
    الشاعر يبقى حاملاً تلك الشعلة البروموثيوسية وذلك السؤال الوجودي والقلق الكبير.
    وما دامت الحياة مستمرة في أجوبتها وخلقها وتجددها، يبقى الشاعر مستمراً في سؤاله وقلقه الإنساني واستكشافاته ورؤاه. وهذه هي مهمته الأبدية. لهذا فالكاتب الحق لا يعرف الهدوء ولا الاسترخاء، أنه في بحث وتوتر دائم وتواصل مع هموم وطنه وتطلعات عصره وقضايا الكون وجماليات الحياة والإبداعات الجديدة.
    وأتذكر مقولة للكاتب الكولمبي غابريل غارسيا ماركيز كان يعلقها على مكتبه يقول فيها بأنه في اليوم الذي لا يكتب فيه ولا يقرأ لا يستحق وجبة الطعام (ترى كم من الكتاب فكر في هذا؟). وكان يرتدي بدلة العمل وهو يتجه إلى طاولة الكتابة في غرفته. تلك هي برأيي صورة المبدع أينما كان.
    النقطة الثانية تتعلق بنفر من الكتاب يبدأون مشروعهم الإبداعي بحماس ثم سرعان ما تشغلهم شؤون الحياة عن المواصلة.
    وهناك آخرون تصبح الكتابة لديه وسيلة للوصول إلى هدف حياتي أو وظيفي أو مصلحي، وعندما يتحقق ذلك، يودع طاولة الكتابة للأبد.
    مثلما أشار الصديق الشاعر علي عبد الأمير في إحدى مقالاته حول هذا النمط الذي تصبح الكتابة الثورية لديه، وسيلة لإيصاله إلى دول اللجوء, وقد رأينا الكثير منهم فعلاً.

  • ما الذي يمكن أن تقوله عن الجيل الثمانيني وقد كنت أحد أبرز أسمائه ومن أوائل من كتب مبشراً بولادة هذا الجيل على صفحات مجلة حراس الوطن في الملف الذي أعددته بعد منتصف الثمانينات، والذي ضم شهادات وتجارب ونصوص لأهم أسمائه. ما الذي تبقى من هذه الأسماء وكيف تنظر إلى تجربة جيلك الآن ؟

  • لقد نشأ جيلنا وتكون وتعلم وكتب بين حربين شرستين وحصارات متعددة واهتزازات أثرت في تجربته الشعرية وباينت في تجاربه ومفاهيمه وأساليبه ومضامينه وأشكاله ولغته ورؤاه. هذا التباين والاختلاف –على عكس ما يرى الآخرون - هو دليل صحة ونضج وتنوع وتطور، وهو يبدو أحياناً متطرفاً في اختلافاته ومتصارعاً في مضامينه وأشكاله، وفي أحيان أخرى متقارباً ومتشابهاً ومتجانساً حد التداخل. وقد افترشت هذه التجارب مساحة واسعة من خريطة الشعر العراقي والعربي، أكثر مما فعلته أجيال أخرى في الوطن العربي. وأظن أن تأثيرها سيبقى مستمراً ومتواتراً لزمن طويل. وأرى أن هذا الجيل يمتد الآن ليشمل حتى التسعينات بل وحتى تجارب الألفين، فكثيراً ما تقتربُ أصواته وتتداخل مع أصوات الشعر الثمانيني في التجربة والمعاناة والرؤى والأساليب. فليس بالضرورة أن ينشأ كل عشرة أعوام جيل جديد، وإنما أن تتكون حركة فنية تمتلك بعض التمايز والخصوصيات عماً سبقها وتجترح لنفسها طريقاً وأسلوباً وشكلاً مختلفاً، وأظن هذا قد حصل مع تجاربنا وتجارب من جاءوا بعدنا من الجيل اللاحق. أن دراسة منصفة يمكنها أن تشخص وتفرز وتقول الكثير عن هذه المرحلة المهمة في تاريخ الشعر.
    لقد ضاعت أو تلاشت أصوات وأسماء كثيرة من جيلنا لأسباب كثيرة ومتشعبة، غير أن أسماء كثيرة ظلت تواصل بدأب، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: طالب عبد العزيز، دنيا ميخائيل، عبد الرزاق الربيعي، حسن النواب، محمد تركي النصار، باسم المرعبي، إبراهيم البهرزي، رياض ابراهيم، علي عبد الأمير، محمد مظلوم، فضل خلف جبر، عبد الحميد الصائح، لهيب عبد الخالق، وسام هاشم، سعد جاسم، علي الشلاه، أمل الجبوري، عبد الزهرة زكي، خالد جابر يوسف، ريم قيس كبة، أحمد الشيخ، وديع العبيدي، عبد الهادي سعدون، باسم مرهون، كلالة نوري، سلمان داود محمد، عبد الأمير جرص، عبد الخالق كيطان، حسن النصار، عماد جبار، محمد الحمراني، ماجد الشرع، ماجد عدام، نجاة عبد الله، حسين علي يونس، أحمد سعداوي، جمال علي الحلاق، فرج الحطاب، علاوي كاظم كشيش،.. وعذراً لمن فاتني اسمه..

  • هل نستطيع أن نحلم بأن تتحول أدبياتنا إلى حضن عراقي لا تسحبه السياسة وتحدده خطوط الأحزاب ؟

  • ذلك مطمح جميل وملح وضروري فقد خربت السياسات الفاشلة حياتنا ووطننا وها نحن نراها اليوم تدب في حقول الآدب والفنون الابداعية الآخرى لتحيله الى ساحة للصراع القبلي والفئوي والسياسي والحزبي وتلك آفة خطيرة سوف لا تبقي ولا تذر لذا يصبح السعي الى تأسيس ثقافة حرة من أولى مهمات المثقفين الذين خرجوا من الكابوس، كما هي مهمة السياسيين وعموم المجتمع أيضاً، كي تبقى لنا الثقافة واحة خصبة للحرية والشمس والجمال بالإضافة الى كونها سلاح فاعل ومؤثر في معركتنا الكبرى ضد الدكتاتورية المقيتة وأعداء الوطن والجمال والإنسان والحياة أينما كانوا.. وهذا المطمح الجميل لا يتحقق بالامنيات لوحدها فقط، فعلى عاتقنا جميعاً تقع مسؤولية تحقيقه أدباءاً وفنانين وأحزاباً وتقدميين وسياسيين و .. و .. من أجل تحقيق ما عجزت السياسات والحكومات عن تحقيقه الا وهو رفاهية الإنسان وحريته وكرامته في وطنه. ومن أولى متطلبات هذا المطمح أن نفتح صدورنا للآخر وأن تكون صحفنا مفتوحة للجميع وندواتنا مفتوحة لكل الآراء بلا خوف ولا توجس. ولماذا الخوف من ذلك يقول غاندي: "لا أريد لبيتي أن يكون مستوراً من جميع الجهات ولا أريد أن تكون نوافذي مغلقة. أريد أن تهب على بيتي ثقافات كل الأمم، لكني أنكر على أي منها أن تقتلعني من جذوري .." ويقول اليوت: "إذا أردتَ للحرية والديمقراطية أن تتطورا وتعيشا عمراً مديداً فما عليك إلا أن تتناول وجبة العشاء مع معارضيك " . وما الضير في ذلك؟.. أليست الديمقراطية " هي فن الاعتراف بالآخر"، كما يقول شارك تايلور، وهي " لا تقوم فقط على قوانين بل تقول قبل كل شيء على ثقافة سياسية"، كما يضيف آلان تورين " وهي بالتالي ذلك الاختلاف الجميل والمثري الذي لا يفسد للود قضية"، كما يذهب الشاعر العربي

  • عدنان الصائغ أين أنت ؟

  • أنا قصيدة لم تكتمل في ديوان الحياة ، بل أنا جملة معترضة في سطر اليقين، بل أنا حرف في أبجدية القلق. بل أنا نقطة مشردة في سديم الكون.


    (*) نشر في موقع "جسد الثقافة" 11/4/2003

     
    البحث Google Custom Search