أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 

 

وليد الزريبي

 


تأبَّطَ منفى، عدنان الصائغ

 

حوار
ومنتخبات شعرية

 

الكتاب: عدنان الصائغ.. تأبط منفى
النوع الأدبي: حوار
محاورة: وليد الزريبي
البريد الإلكتروني للكاتب: woldanose@yahoo.fr
الطبعة الأولى : تونس 2007
جميع الحقوق محفوظة
الإخراج: المنصف المزغني

الطباعة والإنجاز:
الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم
الهاتف: 0021671790933
الفاكس: 0021671790313

 

 

 

"عَلاَمَ أعطيتَ ولدي جلجامش قلباً لا يَهدَأ،
وعَلاَمَ أعطيته أقداماً تَحنُّ إلى السفر دائماً"
(من خطاب الملكة ننسُون أمّ جلجامش إلى الإله شمش)

 

 

 

 

أن تمشى على نفس الجسر ألف مرّة..

لم يسبق أن كتبتم رسالة عشق أو فكّرتم يوما في الانتحار. فكيف إذن، تجرؤون على القول إنّكم عشتم؟؟
هكذا عرّج شاعر البوسنة العظيم عّزت سرايّيج ذات مرّة بمحاوره المتحمّس الوطنيّ الغيور، صوب مدارات أخرى، دافعاً بالسؤال المسكوت عنه إلى أبعد فجاج معانيه، دون أن يسقط من حسابه أنّ وطن الشاعر الأقرب هوّ قلبه.
تستحضرني غربة عزّت سرايّيج في وطنه المنفى، وأنا أبحث حائرا عن عبارات مناسبة أقدّم بها هذا الطائر المهاجر طوعاً وإكراهاً: عدنان الصائغ.
لا شكّ أنّ الذي قدمه للشعر العربي أكثر جلاء من استحضاره، ويكفي أنّه مبدع من طينة نادرة، وعراقيّ طيناً، وضارب في أرض الله الضيّقة، هرباً أو تهريباً من وطن يقطع فيه الشريان والوريد صباحَ مساء.
إنه يحمل معه وزر ذنوبه الإبداعيّة في أقفاص صدره ودفاتره، وما خفّ حمله من أغراض، لا تملأ حقيبة صغيرة، نصفها حسرات، ونصفها الآخر صور أصدقاء وأقارب وأحبّة. ثلاثة أرباعهم حلّقوا قبل الأوان، كما الطيور التي تستعجل السفر...
المنفى...
صوت يسوط الكبد والقلب المكلوم... شتاءات لا نهاية لغيمها الدّاكن ووشوشة كائنات أليفة، تكاد لا تستأنس الجدران.

 

المنفى...
رحلة لا نهائية صوب الضوء في غياب النجم المبين، سفر عكس اتجاه الشمس، أنين ونشيج وتغريد بلبل بعيد يشدّ الخيط الواهي، عزاء يزيد الرغبة في ترك الشهقة تنزلق من العين والعبارة والوتر والصدر والشفتين.
المنفى...
لا يمين ولا يسار... إنه حثّ الخطى، صوب تلك الدار... قبل أن يتذكرّ أحدهم بحسرة، أنّ الدار لم تعد هي تلك الدار.
المنفى...
أن تمشى على الجسر نفسِهِ ألف مرّة، وتعود من نهايته ألف ألف مرّة... وفي كلّ مرةّ تزعم أنه لم يبق إلا القليل.
هو من عرفتم... وها هو كما عرفتهم... كلماته شاهدة عليه... وعليكم.


وليد الزريبي
تونس2007

 

 

الحوار

 

 

 

 

 

 

 

 

 

◘ هل يستطيع الشاعر العراقي النّجاة من السؤال السياسي؟
- يولد العراقي وفي فمه، فاتورة طويلة، من ديون وأحلام وخسائر سياسية، تظل تلاحقه حتى النفس الأخير، منفياً مشرداً خارج وطنه - كأغلب مبدعيه - أو مقيماً متبرّماً داخل ذلك الفرن الملتهب، الوطن.. وليس له مهربٌ أبداً من هذا الطوق مهما حاول أن ينأى بنفسه أو بنصه... إنها تلازمه أبداً كظله، تعرض عليه أجندتها ومضارباتها، شاء أم أبى.. لكنها - أي السياسة، أي الأحزاب - قد تغدو عند البعض مهنة أو هواية أو تجارة، وعند البعض عذاباً وفكراً ونزفاً... غير أن الكثير من المستقلين النائين، وأنا منهم، لم نلمس منها ولم نرَ سوى طواحين هواء ونواعير دم تدور وتدور على امتداد عمرنا، وعلى امتداد تاريخنا.. تبدأ بانقلاب وتنتهي بانقلاب ومعها ينقلب الوطن ومن عليه، من سيء إلى أسوأ... لهذا نأيتُ بنفسي ونصي منذ البدء عن الدخول أو التورط في هذا المعترك الملتبس، الذي لم أفقه منه يوماً شيئاً والذي هو خارج متن النص..
في بلد مثل السويد الذي عشتُ فيه لأكثر من ثمانية أعوام، وفي لندن حيث أقيم الآن، تكاد لا تجد فيهما من الأحزاب الفاعلة أكثر من عدد أصابع اليدين، وقد تمشي طويلاً في شوارعه وساحاته دون أن تعثر على صور زعمائه أو شعارات حكوماته وأحزابه.. وتعال إلى بلدي اليوم تجد في كل زقاق حزباً أو أكثر.. وفي كل مقهى يافطة شعار أو صورة لزعيم سياسي أو ديني.. فمن الحزب الواحد والقائد الأوحد الذي حكمنا بالحديد والصديد لأكثر من ثلاثة عقود، إلى هذا التكاثر الأميبي من الأحزاب والطوائف. حيث لدينا الآن أكثر من 200 حزب وملايين من اليافطات التي لم نعد نستطيع اللحاق حتى بقراءة شعارتها وفهم مكنوناتها...
أريد أن أخدم الوطن بعيداً عن يافطة أي حزب أو دكّان. لا اختلاف عندي بين حزب وحزب إلا بمقدار ما يخدم شعبي ويفتح نوافذه للحرية والتقدم. ولا تمييز بين دين ودين، أو بين طائفة وطائفة إلا بمقدار ما يصون كرامة الانسان ويكرّس قيم الخير والجمال والعدل والمحبة.. أنا ضد كل السلطات القمعية ومؤسسات الجهل، سواء كانت دينية أو سياسية أو ثقافية أو اجتماعية. وقد تحالفت هذه السلطات، باتفاق أو بدون اتفاق، لتشديد الخناق على أعناقنا البريئة الهزيلة، طيلة تلك العقود الماضية، وما تزال..
لكن دائماً يبقى ثمة ضوء في نهاية نفقنا الطويل المشتبك، ثمة أمل أن يستفيد سياسيو وطننا ومثقفوه وناسه من تلك التجارب الطاحنة، ونبدأ جميعاً ببناء الوطن الذي نحلم..
◘ هل أنت الآن بمنأى عن أوروك وعن الطغاة الذين طوّقوا موهبتك؟
- نعم ولا، معاً. بمعنى أن الإبتعاد عن الوطن جسداً وسكنى، لا يعني الابتعاد عن همومه روحاً ومعنى.. لكنه قد ينأى بك نسبياً عن مخاطر التصفية: حياةً وقلماً.. أقول نسبياً وأنا أحيلك إلى نص ورد في ديواني الأخير "تأبط منفى"، لترى أن كوابيسهم ما زالت تلاحق الشاعر حتى وهو في صقيع منفاه البعيد، في أقصى الأرض:
أضعُ يدي على خريطةِ العالمِ
وأحلمُ بالشوارعِ التي سأجوبها بقدمي الحافيتين
والخصورِ التي سأطوقها بذراعي في الحدائقِ العامةِ
والمكتباتِ التي سأستعيرُ منها الكتبَ ولن أعيدها
والمخبرين الذين سأراوغهم من شارعٍ إلى شارعٍ
منتشياً بالمطرِ والكركراتِ
حتى أراهم فجأةً أمامي
فأرفع إصبعي عن الخارطة خائفاً
وأنامُ ممتلئاً بالقهر..
وقد أحيلك إلى "نشيد أوروك"، لتجد هذا الهاجس المرير قد صبغ حياتي ونصي برماده الكابي وما يزال:
صاعداً في النشيدِ إلى قلبِ أوروك، ألقي الظلالَ على وطنٍ لا ظلالَ لهُ غير ما خلّفتهُ البنادقُ من بقعٍ وتماثيل. تأتي الفصولُ وتذبلُ. تأتي الجيوشُ وترحلُ. تأتي الملوكُ وتبقى.. يشيّدُ أحدهم قلعةً من جماجمنا ليهدمها آخررر...// أَنطوي المدى عابرين السواترَ والطلقاتِ السريعةَ نبحثُ عن وطنٍ آمنٍ في المبازلِ طافحةٍ بشذا السنبلاتِ تهرّبها الشاحناتُ الطويلةُ عبر الحدودِ. فماذا سيأكلُ طفلُكَ غيرَ دنانِ المطابعِ../ هل تزهرُ الأرضُ من دمعةٍ سوف نسكبها عابرين إلى آخرِ النأي نحملُ حصراننا وطناً سوف نطويه في عجلٍ كلما داهمتنا المفارز، نرحلُ في عضلٍ سائبٍ وحصانٍ رعى الشوكران.. / أعلّقُ في مشجبِ الغيمِ قلبي. وأسقطُ في القطراتِ الأخيرةِ فوق سطوحِ المدينةِ. أسألُ عن شالِ أمي الذي نسِيَتهُ على حبلِ قلبي قبيل الرحيلِ إلى موسمِ الوردِ. أكثر من حزننا لمْ نجدْ وطناً صالحاً للبكاءِ. أمرُّ على قبر لوركا وأحصي الرصاصَ الذي نثروه على قبرِ ميثم.. / قلتُ: سلاماً.. أيا وطناً لمْ نجنِ منه سوى الصفعات.. /أنا، كلما مرّتِ الطائراتُ انحنيتُ على وطني وبكيتُ../ ألوّح للأصدقاءِ: خذوني، فما ظلَّ لي من هواءٍ هنا، لمْ يعد كافياً.. كلما مرّتِ الطائراتُ تسرّب من رئتي وطناً من دخانٍ نبدّدهُ حسرةً، حسرةً، في السجائرِ والنأي والناي.. لي كلُّ هذا الخراب الذي يتمددُ تحت قميصي وأضحكُ للعابرين أمام المطاراتِ. كلُّ دخان القنابل في رئتي وأقولُ: سلاماً هواء بلادي العليل.. / لكَ الله من وطنٍ نبذتهُ المنافي - العواصمُ، حتى كأنَّ الفضاءاتِ أضيقُ من كوةِ السجنِ، يقذفني وطنٌ كالشتيمةِ في وجه آخر.. / يا وطناً شطّبتْ ظهرَكَ السرفاتُ ستحني لهم قلبَكَ المرَّ كي يعبروكَ إلى الأوسمةْ // لنا كلُّ ما في الشكوكْ // ولهم كلُّ ما في البنوكْ // من النفطِ واللفطِ واللغطِ والأنظمةْ // غداً.. سوف يدبكُ بأسمِ انتصاركَ كلُّ المرابين والهاربين / ونبقى يتاماكَ في آخرِ الحفلِ، في آخرِ القائمةْ /.. أفقتُ على صوتِ عبود يبكي، بآخرةِ الليلِ: لمْ يبقَ في البارِ، غيري وغيركَ. قلتُ: لنسكرَ حتى الثمالة.. لا بيتَ، لا صحبَ، لا وطنٌ. ما الذي نرتجي لو خرجنا، فسيّان إن نمت منكفئاً فوق طاولةِ البارِ أو في الرصيف..//.. حتى إذا أورقَ الفجرُ - فوق غصونِ المصاطبِ - ودعتني، ومضيتَ وحيداً لمنفاكَ تنشدُ في الريحِ منكسراً مثلَ نايٍّ غريبٍ: - أماناً بلادي التي لن أرى.... والخ..
◘ هل ينظر الشاعر عدنان الصائغ اليوم إلى الأشياء من زاوية أكثر وضوحاً وإشراقاً ليرى ما لم يكن قد رآه من قبل؟
- في القاهرة، نهاية الثمانينات، وفي أول سفرة لي خارج الوطن، ألقيتُ شهادة شعرية عن الحرب أهديتها الى صديقي البغل الذي سبقني راكضاً في الطريق الجبلي المعشب إلى النبع فأنفجر به اللغم.. ذلك اللغم الذي كان مُقدّراً - لولا ذلك البغل المسكين - أن ينفجر بي..
كنتُ جندياً بائساَ، ويائساً، أتمشى قبيل الغروب، بين أعشاب السفح الممرعة، قريباً من فوجنا في منطقة "ديركله" - رغم التحذيرات العسكرية بعدم التقرّب من تلك الأرض المحرّمة - سائراً أنفّس عن ضيق روحي ومعي قصاصة أدوّن فيها بعض الأبيات، وقد أخذتني دهشة الطبيعة وبهائها وخضرتها الخلابة، دون أن أدري ما يواجهني..
هذه الصدفة المهولة علمتني أشياء كثيرة في الكتابة والحياة: إنَّ الحياة رغم مراراتها تبقى هي الأبهى والأشد سطوعاً من كلِّ شيء.. وأنَّ الكتابة نبضها وضوؤها الفريد الباهر.. وعلمتني أن أتلمّس نبضهما الحي حتى بين ركام الخراب والشظايا.. ومنحتني قوة الصبر والرؤية والرؤيا لأواجه فيما بعد كل تلك الفواجع المتلاحقة وأرى المشهد بوضوح رغم سحب الدخان والشعارات التي تغطيه من كلِّ صوبٍ.
إن من عاش الفجيعة بكاملها يجد نفسه قادراً على التحمّل والاستمرار أكثر من غيره.. هكذا عاش جيلنا وهكذا عانى وهكذا كتب.. لقد أحالتني قسوة الخراب إلى مراجعة الكثير من كتب التاريخ والأديان والأساطير والأدب علّي أجد تفسيراً لما حدث لنا على هذه الأرض الطيبة والمرّة معاً، فرأيت العجب العجاب من هذا التاريخ الذي ما زال ينزف حتى الآن، والذي ما زلنا للأسف ندفع مستحقاته رغم أن لا يد لنا فيه.. وقد استخلصت الكثير من هذا، في عملي "نشيد أوروك". وأنا الآن في صدد إنجاز عملي الآخر "نرد النص"، وهو نص طويل مفتوح يحاول أن يستنطق المسكوت عنه في تراثنا وحاضرنا: سياسياً ودينياً واجتماعياً وثقافياً، بجرأةٍ وحريةٍ أكبر ورؤيةٍ أشمل. بدأت الكتابة فيه منتصف 1996 في بيروت، ولم يكتمل بعد.
◘ كيف تنجو القصيدة الواحدة من الحروب القبلية؟
- على الشاعر الحقيقي أن يتعالى بنفسه وبنصه عن حروب داحس والغبراء الشعرية - السياسية - القبلية، كي لا يضيع أو يضيّع طاقته وإبداعه ورؤاه في المعارك المجانية والمناقشات الفارغة التي تعجُّ بها مقاهينا الأدبية والأنترنيتية - بالأخص - وما أكثرها هذه الأيام.
تلك الحروب التي ملأت تاريخنا وأرواحنا وتراثنا بهذا الغبار المتطاير.. الحروب القبلية في الشعر والسياسة والدين أكلت من أعمالنا ونصوصنا الكثير.. فما من أمةٍ في التاريخ عاشت حروباً ولا تزال بقدر حروبنا. وتحملت خسائر كخسائرنا: بشراً وثروات. وأضاعت الكثير من تراثها ونصوصها ومبدعيها كما أضعنا: حرقاً وتشويهاً وسحلاً وسلخاً وقتلاً ونفياً والخ والخ..
إن النص العظيم هو الذي يتسامى على الحسابات الصغيرة والمصالح الصغيرة، ليلتصق بهموم الناس والوطن والعصر، وهو يسأل ويجترح ويكتشف ويتمرد ويتحدى ويستشرف..
في فترة من الفترات - بعد خروجي من العراق بسنوات - حاول البعض من العاطلين اشغالي وجري إلى هذه الساحة الفارغة. وأعترف أنني دخلتها لبعض الوقت لكن سرعان ما اكتشفتُ أن هؤلاء الخائضين فيها لا شغل لديهم ولا همّ سوى اجترار الفراغ. فأدرتُ لهم ظهري. وعدتُ إلى المتن، أكمل مشروعي وأواصل قراءاتي وطوافي. تاركاً إياهم يخوّضون في وحلهم إلى حين يتعبون أو لا يتعبون..
بعض هؤلاء العاطلين والموتورين الذين هاجموني عقب حصولي على جائزة مهرجان الشعر العالمي في روتردام عام 1997، كتبتُ عنهم نصاً قصيراً بعنوان "إليهم فقط":
كمْ أضاعوا من وقتٍ وورقٍ وأرصفةٍ
أولئك الذين شتموني في المهرجاناتِ والمراحيضِ والصحفِ
أولئك الذين لاحقوني بتقاريرهم السريةِ
من حانةٍ إلى قصيدةٍ
ومن وطنٍ إلى منفى
أولئك
كمْ أرثي لهم الآن حياتَهم الخاويةَ
إلى حدِّ أنهم لمْ يتركوا منها شيئاً سواي
وأذكرُ أن "شاعراً" يعرفه الوسط بسِكرهِ أكثر من شعرهِ، أدعى في يوم ما أنه صديقي، وكتب عني الكثير وأهدى لي أحد قصائده، لكن الغيرة والضغينة - ومعهما إدمانه المفرط للكحول وانشغالاته الأخرى - أخرتاه كثيراً عن مواصلة الرحلة، تلك الرحلة الباهرة والمضنية والممتعة معاً، رحلة الشعر التي لا تقبل مراوغة أو انشغالاً آخر، فانقلب للأسف إلى شاتم مهووس هنا وهناك. لمْ أرد عليه - وقد استفدتُ من تجربتي السابقة كما ذكرتُ - فاكتفيتُ بنصٍ لي بعنوان "إلى.." أقول فيه:
الذي كان لي صاحباً قبل أن نفترقْ
في شجون القصيدةْ
والذي ظلَّ في الظلِّ منكمشاً
خوف ضوء النهارِ ونأي الطرقْ
ومضيتُ إلى الشمسِ
ما همّني أحترقْ
أو أهيم بسْحبِ الأماني البعيدةْ
الذي كان لي صاحباً..
لم يعدْ همُّهُ
غير أن يتعقبني في الدروب كظلِّي
ويشتمني في الجريدةْ
هكذا تعلمتُ أن أجابه قسوة الحياة والطغيان والألم بالشعر، وأن أجابه حتى الشرَّ والقبحَ بالشعر أيضاً.
إن الحوارات الحقيقية والاختلافات الفكرية والفنية تغني النص وتثريه، بل وتؤسس وتفتح الكوى للضوء والهواء. أما تلك المهاترات فهي لا تخلف شيئاً وراءها سوى العجاج والتردي.
◘ هل نجح نص عدنان الصائغ اليوم من التخلص من جحيم الماضي أم أن جحيم اليوم أشدّ قسوة من الأمس؟
- الماضي بحروبه وقمعه، والحاضر بمفخخاته واسقاطاته، لم يمنحانا فرصة لتأمل ومراجعة ما مضى وما حدث وما سيأتي..
لقد مرَّ كل شيء، بفوضى وسرعة وصخب، جعلك لا تستطيع أن تتشبث بشيء أو تتلمس شيئاً. هذا على المستوى الجمعي.
أما على المستوى الخاص - رؤيتك الخاصة، فلها حسابات تنبع من إرثك ومتابعاتك ووعيك وروحك وبصيرتك على رؤية المشهد واستشراف المستقبل.
الجحيمان (الدكتاتورية والاحتلال) شديدا القسوة، وأن اختلفا، في الأسباب والنتائج وغيرها.. لكن أرواحنا ظلت كما هي، مشرئبة بأحلامها، تلوب بصبرها وألمها الإسطوريين، على التحمل، مستعيرة تهكم أبي الطيب المتنبي:
وكنتُ إذا أصابتني سهامٌ تكسّرتِ النصالُ على النصالِ
هكذا تكسرت نصال الحاضر على نصال الماضي، فلم تعد تؤثر أو تثير.. ولم تعد تجد في الشارع غير تلك اللامبالاة المرّة لكل ما يحدث أمامها.. وهو مشهد مخادع يمور تحته عويل أرواح لائبة تستصرخ السماء وتلعن كل شيء.. هكذا وجدتُ نصي، اليوم، ساخراً لا مبالياً وتحت سطوره تاريخ من العويل.
ثلاث عشرة سنة جندياً في الحروب، ومثلها مشرّداً في المنافى..
أية حياةٍ هذه يا الهي.. وما الذي بقي لي منها!؟
فبين الشاعر الذي كنته نهاية السبعينات قلقاً وفرحاً، بنصوصي الأولى وأحلامي الأولى، وبين الشاعر الذي أنا هو الآن مطلع القرن الواحد والعشرين متأبطاً منفاي وغصتي، من بلد الى بلد ومن قصيدة إلى قصيدة، تمتد كل تلك السنوات النائحة.
هناك بيت شعر صيني قديم يقول: "إن تنصيب جنرال واحد يعني عشرة آلاف جثة".
ترى كم دفعنا من عشرات الألوف من الجثث في حروبنا الطويلة الخاسرة التي زجنا بها ساستنا المتهورون من أجل مطامحهم الغبية الآنوية.
لقد دفعنا، وسيدفع أطفالنا القادمون لعقود طويلة فواتيرها من خرابٍ وفواجع وتشويه في النفوس والأرواح قبل الأبنية، والتي ستترك ظلالها الشرسة لمراحل قادمة. وما نراه الأن هو امتدادٌ لمسلسل الدم الذي بدأ منذ تلك الفتن الطاحنة والصراع الدموي على الخلافة العربية - الاسلامية، حتى انقلابات العسكر منتصف قرننا الماضي وما تلاها من انقلابات أشرس وأفضع، وصولاً حتمياً إلى ما وصلنا إليه من دكتاتورية رعناء ومعارك خاسرة واحتلال بغيض ومخخات بلهاء واقتتال طائفي وتهجير ديني وقومي بشع وبورصات عمائم وأحزاب وسماسرة لا يشبعون.. لستُ متشائماً لكنها الحقيقة المرّة ولا يكفي تجاهلها أو تجاوزها.. بل علينا جميعاً، على المثقفين والمفكرين والسياسيين والأحزاب وشرائح المواطنين أن ينتبهوا إلى هذه الحقيقة ويضعوها على قائمة أولياتهم، وحلها بالعمل والانفتاح والمكاشفة والوعي والحرص واشاعة قيم الحرية والانسانية والجمال والمعرفة والابداع والعلم، بدلاً من اللهاث وراء المكاسب والحسابات الصغيرة والمعارك الجانبية: طائفية أو قومية أو حزبية.. والخ
◘ هل تكتب اليوم جالساً على سطح بركان، أم على مسطبة هادئة في حديقة البيت، كانت سماؤك في خوذة واليوم ألا تعتقد أنها صارت خوذة بلا سماء؟
- لم أكتب على أريكة مريحة طيلة حياتي، شعراً أو نثراً، منذ أول نص كتبته لصق سرير أبي المعلول قبل أربعين عاماً، وحتى كتابة هذه السطور في مقهى ضاج قريباً من الهايدبارك.. لا أفكر أين أكتب بقدر ما أفكر ماذا أكتب، وكيف أكتب.. الكتابة عندي انفجار، لحظة حمى، تعرٍ كامل، حلم، موسيقى، صلاة. علاقتي مع الشعر، علاقة يومية وروحية متشابكة.. صار الشعر خوذتي في الحرب، وصلباني في المشتبك، وواحتي في الهجير، ومنفاي في الوطن، ووطني في المنفى..
أمارس كتابة الشعر كما أمارس التنفس، طبيعياً لا تكلفة ولا تعقيداً ولا إفتعالاً. لذلك تراني في الشعر كما أنا في الحياة: قلقاً، هادئاً، مسالماً، محتدماً، ثائراً، متأملاً، حزيناً، فرحاً، كافراً، مؤمناً، متيقناً، شكاكاً، غاضباً، عاشقاً، مجنوناً، توّاقاً للحرية، زاهداً عن مشاغل الحياة، نهماً بتذوق موسيقى الجمال والإبداع، فاتحاً نوافذ روحي على الدوام للحب والمطر..
◘ لم يشأ الكثير من الشعراء العراقيين أن يختاروا منفاهم بل التجأوا إليه باعتباره منفذاً أو مهرباً من القمع والكوابيس والضغوطات السياسية والاجتماعية التي تحاصرهم في وطنهم، ألا تعتقد عدنان أن المسألة تجاوزت احتمالات الهرب إلى ما يشبه التيمة القدرية للمثقف العراقي أو لعلها موضة كُرّست اعتباطاً أو تواطؤاً لا فرق؟
- نعم أشاطرك الرأي في الكثير من شطر سؤالك. كأن قدر الشعراء العراقيين أن يموتوا في منافيهم: السياب، الجواهري، البياتي، بلند الحيدري، مصطفى جمال الدين، كمال سبتي، سركون بولص، والخ... والقائمة تطول وتوجع.. لكأن البريكان كان استثناءاً حيث وُجِد مذبوحاً على فراشه، غير بعيد عن مرأى المراكب الغاربة، ونجيع الدم القادم، الذي ذكره الجواهري في أحد أبياته:
أرى أفقاً من نجيع الدماء تلوّن وازورتِ الأنجمُ
وغير بعيد عن شهقات السياب على شواطىء الخليج الملتطم، وهو يصيح:
ما مرّ عام والعراقُ ليس فيه جوع..
كل الطيور المهاجرة تعود إلى أعشاشها في المواسم، إلا الشعراء العراقيين، فأنهم يعيشون في المنفى ويموتون في المنفى قبل أن يطلقوا زفيرهم وأغنياتهم الأخيرة هناك في الأعالي، مثل طائر التم، ثم ليهووا إلى الأبد:
لي بظلِّ النخيلِ بلادٌ مسوّرةٌ بالبنادق
كيف الوصولُ إليها
وقد بعد الدربُ ما بيننا والعتابْ
وكيف أرى الصحبَ
مَنْ غُيّبوا في الزنازين
أو كرّشوا في الموازين
أو سُلّموا للترابْ
انها محنةٌ - بعد عشرين -
أنْ تبصرَ الجسرَ غيرَ الذي قد عبرتَ
السماواتِ غيرَ السماواتِ
والناسَ مسكونةً بالغيابْ
لكني في الشطر الآخر لا أشاطركَ الرأي بأنها موضة، وإن وقعت عيناك على بعضٍ منها هنا أو هناك، غير أن المشهد العام هو مشهد الهجرة الثقافية، الشعرية المتواصلة بامتياز عن وطن لا مكان فيه للشاعر المختلف وسط غابةٍ من البنادق والشعارات سواء بالأمس أو اليوم وإنْ اختلف شكل القامع.
◘ انتظريني تحت نصب الحرية، أغنيات على جسر الكوفة، العصافير لا تحب الرصاص، سماء في خوذة، مرايا لشعرها الطويل، غيمة الصمغ، تحت سماء غريبة، خرجتُ من الحرب سهواً، تكوينات، نشيد أوروك، صراخ بحجم وطن، تأبط منفى والكتابة بالأظافر.. عدنان، هل يمكن اعتبار كل هذه المجموعات الشعرية ديكوراً كافيا لإدانة مسرح الجريمة؟
- الجريمة أكبر وأشنع يا صديقي فما سرقوا من أعمارنا ووطننا لا يعوض بشيء ولا تكفيه أوراق العالم كلها ولا دموعه. كنت أحاول أن أسجل يوميات الحرب المريرة في دفاتري فأجدها تفيض وتفيض حتى لتغطي سريري ومكتبتي بالنجيع والرماد. كم من الأصدقاء ابتلعتهم سواتر الحروب والمقابر الجماعية.. وكم من الذكريات والأحلام والأيام تسربت من بين أصابعي غير مخلفة لي سوى مراراتها وحرمانها.
كلُّ آهةٍ وكلُّ سطر وكلُّ دمعة وكلُّ صرخة ستظل تدين تلك البشاعة ولا تسكت... وتظل تصرخ وتستصرخ، كي لا تتكرر المأساة من جديد.. لكنها لا تستطيع أن تعيد شيئاً مما ضاع من شبابنا وأحلامنا، وهو كثيرٌ وكثيرٌ وكثيرٌ.. في نصٍ لي كتبته عام 1987 أثناء الحرب، من ديواني"غيمة الصمغ"، أقول فيه:
مَنْ يلمُّ الشظايا - غداً -
حينما تنتهي الحربُ، مرغمةً؟
مَنْ يعيدُ لأرملةِ الحربِ زهرتَها اليانعةْ؟
نعم، انتهت الحرب.. لكنهم لم يمهلونا لكي نضمّد جراحاتنا ونسترد أنفاسنا.. إذ حتى قبل أن ننزع خوذنا الصدئة ونعود إلى ثكناتنا اشتعلت حربٌ أخرى ثم أخرى..
وسقط تمثال الطاغية في ساحة الفردوس، لكن سرعان ما انتصبت تماثيل أخرى لطغاةٍ صغار جدد بدأت تكبر وتزداد يوماً فيوماً، وبدأت تنتشر صورهم وشعاراتهم حتى قبل أن نتمكن من تنظيف حيطاننا وعيوننا من صور الطاغية القديم وشعاراته.. فيا للهول، ويا للجريمة..
كل دول العالم قديماً وحديثاً خاضت حروبها، ثم توقفت واستفادت من تلك التجارب المريرة، بانتصاراتها وانكساراتها، تعلمت وبدأت تفكّر كيف تبني انسانها وأوطانها وتؤسس لاقتصادها وثقافتها وحرياتها، إلاّ نحن فما زلنا في لعلعة الخطب الفارغة والقمع المتصاعد والرصاص اليومي. لم نتعلم شيئاً، ولم ننتصر على شيء، ولم نتعظ من شيء. ونحن نملك من البنادق أكثر من الكتب، ومن الرصاص أكثر من أرغفة الخبز.. ومع ذلك فمن هزيمة إلى أشد.
إنني أرى أن جلَّ هزائمنا ناشئة من غياب أو تغييب الديموقراطية والحرية. فنحن لا يمكن أن نحرر وطناً قبل أن نسارع إلى تحرير الإنسان نفسه من القمع والجهل والتخلف.
يقول توماس جيفرسن: "ليس على من يريد اسقاط أية أمة وانزالها إلى الحضيض، إلاّ أن يكبحَ الحريات ويلجمَ الأفواه"...
وهذا ما حدث لنا بالضبط!..
إن الأنظمة الفاشية الفاسدة والعقليات الدكتاتورية المتخلفة، قديماً وحديثاً، مصيرها السقوط حتماً إلى أسفل درك التأريخ مهما امتد بها الزمن. وهذه الحقيقة يعرفها الطغاة أنفسهم قبل غيرهم لكنهم يحاولون التشبث بالسلطة والكرسي إلى أقصى حد ممكن حتى لو كان ذلك على حساب الشعب والوطن والرب، سَائِسين كل شيء بالحديد والنار والدم.
إن طوفان الدم، هذا الذي أغرق العراق وفاض، من يتحمل وزره الفاجع؟ ومتى يتوقف ويغلق شدقيه، لينعم أبناء وطني بالسلام والأمان والحرية كبقية شعوب الأرض؟
لقد طحنتنا المخاوف ولا تزال. كأنَّ حياتنا مواجهة يومية مع الموت في وطن لمْ نرَ منه غير القمع والذل والجوع، وهو من أخصب بلدان الله وأوفرها أنهاراً ونفطاً وخيرات ومزارات حضارات..
وسحقت الدبابات ذاكرتي فلا أكاد أتذكر شيئاً من طفولتي وشبابي سوى الرصاص والحرمان والتشرد.
لم أعش نزق أيام الشباب كما ينبغي لشاعر حالمٍ مثلي.. لم أعش إلاّ مسرات مقتضبة كنتُ أتحايل على اقتناصها أيضاً في غفلة من عيونهم.
◘ كتب سعدي يوسف في تعليق على تجربتك: "هناك تمايز أكيد. ثمة جرعة من الحرية، أثرت في الشكل وفي طبيعة المادة الخام. أهي النجاة من الكابوس؟ ربما، لكنها استلزمت التحديق فيه طويلاً.. من موقع الحرية". فهل يحتاج الشاعر أحيانا إلى تبادل الأدوار مع الوحيدة المزدراة، الحرية، ولو افتراضيا لتأثيث الكون الشعري الغير افتراضي؟
- الحرية هي الشرط الأول والأساسي في كل عملية إبداعية. كنا داخل الوطن نراوغ رقيبنا لنصل إليها رغم الأسوار الشائكة الملغومة التي تحيط بها من كل حدب. كنا نحلم بها، نقترب منها بحذر كأننا تقترب من لغم موقوت، لا نعرف بأي لحظة سينفجر بنا، ومع هذا ثمة اغراء لذيذ بالاقتراب وملامسة هذه الجذوة، الحلم، رغم كل شيء.. ذلك الهاجس وذلك الخوف ظلا ملازمين لي، وللكثيرين غيري طيلة تلك السنوات الكالحة والموجعة والمميتة، ونحن نحاول أن نجابه الشراسة والطغيان والموت بالكتابة الإبداعية، لتصبح هي - في الوقت نفسه - ملاذنا ومقصلتنا، خلاصنا ومحنتنا. كنا نحاول أن نؤثث مملكة للجمال فوق تلك الأنقاض، ونفتح كوىً للنور داخل زنازيننا الأبدية..
إن الألسنة المقموعة تبحث في النص عن المستتر، عن فسحة للتنفس أو الصراخ أو الحلم. كنا في الداخل نتهامس بما لا يمكن البوح به ونحن نخاف حتى من آذاننا. وأتذكر مقطعاً كتبته:
في وطني / يجمعني الخوفُ ويقسمني / رجلاً يكتبُ / والآخرَ خلف ستائر نافذتي يرقبني..
لكنني لم أستطع نشره والعديد من النصوص إلاّ بعد أن غادرتُ الوطن.
أنني أشبّه الكتابة الحقيقية داخل أوطاننا بأنها أشبه بالمشي في حقل ألغام. هناك ألف رقيب ورقيب عليكَ أن تراوغهم حتى تستطيع أن توصل نصك إلى قارئك. أحياناً ينتبه الرقيب ويمنع نصك، وأحياناً يقوم بعض الكتبة المرتزقة بالوشاية، وأحياناً ينتبه الحاكم للنص بعد نشره. وهنا سيتعرض الكاتب للخطر المؤكد: السجن أو التصفية.
وتسألني الآن، ما الفرق أن نكتب داخل السور أو خارجه؟. الفرق الأهم هو أننا كنا هناك في جحيم الداخل نكتب ونحلم ونحاول ونراوغ ونسرّب أصواتنا من بين الأسلاك والمقصات والمخاوف، بينما هنا لدينا الحرية الكاملة أن نقول ما نقول ونكتب ما نشاء.
غير أني أراهن على أن الموهبة الصافية والإبداع الحقيقي هما اللذان يجنبان الكاتب أينما كان من السقوط والزلل.
كنتُ وصديقي الشاعر عبد الرزاق الربيعي - سنوات الثمانينات - كثيراً ما نردد كلمة منفلتة همس لنا بها الصديق الشاعر والفنان هادي ياسين علي: يحتاج الشاعر دائماً إلى موهبتين: موهبة الكتابة، وموهبة الحفاظ على نفسه ونصه من السقوط.
◘ هل يمكن لمن تأبط منفى في جحيم الأمس أن يتأبط خوذة في صقيع اليوم؟
- الحرب، القصيدة، الخوذة، الحبيبة، الطفولة، الأصدقاء، المدن، الرقيب، الذكريات، الصليب، المنفى، ايقاعاتٌ متنوعة على وتر الشاعر المسكون بالحرية، والذي ألقت به مقاديره على أرض وطن سيكتشف حينما يوقدُ نار قصيدته أنها ظهر حوت كما تروي أسطورة السندباد البحري التي سمعتها في طفولتي على سطح دارنا الصغير في مدينة الكوفة فتخيلتُ ان هذا السطح هو ظهر حوت أيضاً سرعان ما سيتحرك إنْ نحن تقافزنا عليه بطفولاتنا المشاكسة. وفعلاً تحرك الحوت وباع أبي دارنا ليسدد فواتير ديونه وعلاجه.. ثم ماد بنا الحوت ثانية وبشكل أشرس عندما اشتعلت الحرب العراقية الايرانية وألقتْ بي المقادير جندياً مكلفاً على سواتر الحرب محصوراً بين الخوذة والرصاصة.. ثم ماد بنا ثالثة ورابعة ليشتتنا في أصقاع المنافي الباردة.. وهكذا لمْ يعد غريباً لدي تقلبات العالم، أو تقلبات النرد، وها أنا أتأمله طويلاً هذه الأيام وأشتغل عليه وأناجيه في منفاي الجديد لأرى إلى أين سيفضي بي هذا النص - النرد - ظهر الحوت..
هذه التقلبات يمكنها أن تمر بأي كائن، لكن الشاعر - الكاتب - الفنان، المرهف والمتمرس، لا يجعلها تفلت من أنامل موهبته دون أن يحولها إلى عمل ابداعي خالص، يأخذه من التجربة نفسها والمخيلة نفسها ليصهرهما معاً بلغة عالية وفنية حاذقة، خارجاً من الذات إلى العام، أي العالم، ومن الشفاهية إلى التدوين الهندسي المعماري البارع، ومن الواقعية والبحث إلى الغرائبية السحرية والاستكشاف.. ليعطيك سخونة التجربة وفرادة الفن وحساسية الشاعر..
وهنا سر تفرد الابداع وجمالياته ودهشته..
نعم. لا مفر من أن تواجه واقعك ومعضلتك بدلاً من الفرار منهما، سواء في النص أو في الحياة، في الممارسة أو في التفكير. وأي ابتعاد عن ملامسة سخونة الواقع أو صقيعه، هي - باعتقادي - عجز عن الإدراك وقصور في التعبير.
هنا تمنحك الحساسية الشعرية، إنْ كانت حيّة ومتأصلة لديك، شعوراً حقيقياً بالتواصل والتفاعل مع عصرك وناسك بكل اختلافاتهما وتناقضاتهما.. نعم.. أنا ابن هذا العصر بكل أخطائه وجماله ونزقه. أحاول أن ألملم شظاياه المتناثرة داخل نصي وأن ألمَّ بأحداثه ومعارفه وخفاياه لكي أستطيع فهم ما يجري على الأرض أو - في الأقل - ما يجري داخل مصهر نصي..
◘ هل يمكن لمن خرج من الحرب سهواً أن يدخل إلى ما يشبه السلم سهواً؟
- في بيروت اكتشفتُ أن أظافري التي طالت طيلة سنوات الحرب والحصار لا تتلاءم واتكيتات المدينة والعصر. وقد تجرح النساء حين أصافح راحاتهن الناعمة. أول قارئة - وهي شاعرة أيضاً - واجهتني بعد الانتهاء من قراءة "نشيد أوروك" صابة جام غضبها على أسلوبي ووقاحتي... عبثاً حاولت إقناعها أنني، وأنني، وأني، لكنها أردفت ببرود وابتسامة ذات أكثر من مغزى: ما يهمني ما مرّ بكَ. أريد شعراً يريح أعصابي. لا يهيّجها ويثيرها ويمزقها.. ثم لماذا لا يهمك ما يمر بي بنا بمخادعنا بأحلامنا بمراياي.. بقيت أياماً أحاول أن أعرف أو أفهم أين أنا من الخارطة الجمالية والفنية الجديدة، أنا الخارج لتوي من معترك الشظايا الفادحة. وكيف يمكنني أن أعايش هذه العوالم والإيقاعات التي لم أألفها. كنت أشبه بسجين يواجه النور لأول مرة في حياته. خطوات متعثرة، ورأس مكوكي لا يستقر على كتفيَّ.. بقيتُ لأيام أكتبُ وأكتبُ وأمزق بإرتباك - وربما لا أزال - في محاولة لتغيير أدواتي وأقلامي وملابسي.. ثم وفي ظهيرة بيروتية، قبل رحيلي منها بأسابيع إلى البلد الإسكندنافي البعيد، أيقظني من قيلولتي تدحرج نرد وسقوطه على خدي.. كان طفلاي مهند ومثنى يلعبان به لعبة "حية ودرج" بعيداً عني كي لا يوقظاني وقد أدركا بطفولتهما النبيه مدى ارهاقي بعد يوم عمل كتابيٍّ مضنٍّ.. أمسكته بيدي لدقائق طويلة - وسط ارتباكهما وتأسفهما - دون أن يدريا أو أدري أنني أمسك، في هذه اللحظة الفريدة، نصي الجديد "نرد النص"!!..
هكذا سقط عليَّ النردُ، سهواً، أيضاً، ليأخذ بيديَّ إلى أغرب نص أكتبه في حياتي، لا أدري ماذا ستقول عنه تلك الصديقة الشاعرة حينما يقع بين يديها بعد سنوات ربما.. من يدري؟.. كيف ستكون ذائقتها واستقبالها له بعد هذه السنوات بتقلباتها على كافة المرارات والجنون؟. نعم كيف ستكون ذائقتي؟ كيف ستكون ذائقة قارئي..!؟
◘ كتب جمال الغيطاني أن ثمة من اعتبرك جبران جديد، هل هذه ميزة المنافي الشمالية الباردة؟ وهل علينا أبدا أن تُسحب منا استمارات الحرية كي نندفع لوجهة غير معلومة جغرافيا لكنها في النهاية تهدي لنا تاريخا باذخا من الشعر والأحزان؟
- المنفى تنويعٌ آخر في الكتابة وجدتني فيه أنفتح على عوالم جديدة لمْ تخطر على بال تجربتي، ملقىً في جنوب القطب الشمالي، في لوليو، المدينة الثلجية الغرائبية الساحرة، حيث تصل درجة انجمادها إلى 36 تحت الصفر، وحيث أعلى درجات الحرية والرخاء والهدوء والسلام والانفتاح. أنا القادم من لهيب شمس لا ترحم، وحروب لا ترحم، وسلطات لا ترحم، ومحظورات لا ترحم.. كانت بالنسبة لي تجربة فريدة ومدهشة بالمرة. هل أقول أيضاً دخلتها سهواً..
هذه التجربة الثلجية، برمتها في لوليو ومن ثم في مالمو، منحتني أشياء كثيرة وغرائبية ارتسم بعضها في ديواني "تأبط منفى"، وبالأخص قصيدتي "المحذوف من رسالة الغفران"، ولا تزال بعض مناخاتها تأخذني في "نرد النص" إلى تجلياتٍ لا آخر لها..
التجربة المختلفة قد تمنح الشاعر أفقاً مختلفاً وممتلئاً إذا أحسن تمثلها.
◘ "أحيانا يمتلك القارئ شعور بما يشبه الفضيحة لأن الشاعر يخرجه من مخبئه ليذكّره بأنه من عالم يسمى نامياً لا ينمو في كثير من بلدانه إلاّ على ما يسحق الإنسانَ ويجعله أقلَ من جرذ أو خنفساء" هكذا وصفت وكالة رويتر "نشيد أوروك" وقت صدوره. فهل يقتصر دور الشاعر عند هذا الحدّ أم أن الأمر لا يتعدّى العلاقة المشبوهة بين الكاتب والمؤسسة الرسمية؟
- الشاعر - ببساطة - هو ذلك الطفل الذي صرخ في موكب السلطان وهو يمرق منتشياً بملابسه الوهمية وسط جنوده وحاشيته وجمهوره: "انظروا!! إنه عارٍ..!!" كما تروي تلك الحكاية الجميلة التي علقتْ في ذاكرتي منذ الصغر.. فهاجت الجموع المصفقة وإرتبك الموكب وانفضح السلطان وقد انتبه الجميع لتلك الفضيحة التي حاكها نساجان محتالان وتواطأ الجميع في السكوت عليها، خوفاً أو طمعاً أو بين بين. لكن صرخة الطفل البريئة المنفلتة المدوية (التي هي صرخة الشاعر أو نصه) هتكت المسكوت عنه، وفضحت المؤسسة التي أتقنت فن التواطيء وخداع الجمهور لتحقيق مأربها..
هكذا أنظر للشاعر.. هكذا أنظر للنص..
◘ كتب الشاعر محمد الدبيسي: "القصيدة هنا تدلف مجاهل السرد، تفضح كمائن اللغة، وكمائن النفس، وكمائن المكان، وكمائن الزمن. عدنان الصائغ يترك نفسه لفضاء الصرخة - صرخة الكون في نص لا يمكنك إلاّ أن تقرأ..! تمني نفسك بمتعة وقت يدنيك من أسرار العالم وأسرار النفس. يعطيك ألذ ما في الدهشة".. فبأي معنى يكون ذلك صحيحاً؟
- الجانب الفني مهم جداً في العملية الإبداعية، وهو تلك القدرة الهائلة التي تعتمل في روح النص تؤججه وتمنحه سطوة التأثير والمعرفة والإدهاش والسحر والتي بدونها تصبح الكتابة بياناً سياسياً أو سرداً بارداً مهما احتوت من مضامين عالية.
نعم، أن الشرط الفني أساس كل عمل خلاق.
◘ جاء في تقديم د. عبد العزيز المقالح لأحد كتبك: "إنَّ شعر عدنان خلاصةٌ لجوهرِ الشعرِ في النصفِ الثاني من القرنِ العشرين. هنا البداياتُ وهنا آخرُ الشوطِ، هنا الإحساسُ العميقُ بأهمية ما أنجزته الستينات والسبعينات وهنا الشعور الأعمق بأهمية أن تكتشفَ الكتابة الشعرية الجديدة معناها الأجد وإيقاعها الصوتي الأكثر إيحاءً واندفاعاً نحو عوالم وسماوات لمْ تقتحمْ الكلمةُ الشعريةُ أجواءها المكدرةَ بعد". فهل يجيز لنا هذا المتن إعلان حالة الموات والفناء البيولوجي للتجربة الصائغية - طبعا لا يقاس عمر التجربة على هذا النحو - أم هي الإدانة بالقطع مع التجارب الشعرية العراقية الحديثة، المحدثة؟
- ما يطمح إليه كل ناقد وقبله كل شاعر هو أن يرى ويتلمس - وسط الركام - عملاً متفرداً وصوتاً متجاوزاً خارج السرب. فالتشابه والتكرار قتل وملل للروح وللوعي وللحس أيضاً.. وهنا تجد المحاولات المستمرة في كل عصر وجيل لدى كل مبدع أن يكون متفرداً وخلاّقاً ومتجاوزاً.. وكل عمل يطمح منتجه أن يتخطى به من سبقوه وأن يمتاز ويتمايز عنهم من جهة وعن معاصريه من جهة أخرى. هل نجحت في ذلك؟ هل أخفقت؟
الجواب لا يجيبه الشاعر مهما كان، بل هو متروك ومفتوح على مصراعيه للنقاد والقراء والذائقة والعصر. لكن يمكنني القول إن ليس في تجربتي أو في تفكيري أي قطيعة مع التجارب الشعرية العراقية والعربية، أو مع التراث.. بل كل ما أطمح إليه هو في إضافة لبنة مكملة أو جديدة لبرج الإبداع الإنساني الجميل والشاهق، الذي أبداً لا يمكن أن يقف على فراغ أو يتوقف عن النمو والعلو. يقول بورخس: "إذا بقي من أكبر كبار الكتاب سطراً واحداً، فيكون قد عمل شيئاً عظيماً".
◘ هل تعتقد إلى الآن، أن القصيدة القصيرة خير مقاس لاستكشاف قدرة الشاعر ونجاحه أو فشله؟
- مقياس الشعرية - برأيي - أعقد من هذا وأشفّ.. ليس كل قصيدة طويلة أو قصيرة، كلاسيكية أو معاصرة، موزونة أو نثرية، عربية أو أجنبية يمكن أن تنخرط في باب الشعر. أطنان من الدواوين تقرأها ولا تجد فيها شيئاً.. ففي كل بلد، وفي كل جيل، هناك آلاف من الشعراء، ولكن الذين يمتلكون القدرة على الإدهاش يُعدّون على أصابع اليد..
لقد أدركتُ وآمنتُ أن الشاعر الخلاق يحاول أن يختزل الكون في كلمة، في صورة، تحمل هذا السحر والجمال والاختزال والاكتناز والكشف. وكل هذا لا يأتي من فراغ إنه حصيلة التجربة والتجريب والتجديد والموروث والقراءات والوعي والبحث والمعاناة والاستشراف والانصهار والكدح والتوهج. بالإضافة إلى كل ذلك أجدني أردد دائماً ما قاله الشاعر الفرنسي جان كوكتو: "الشعر ضرورة. وآه لو أعرف لماذا؟"...
◘ قصيدة النثر صارت لها سلطة ولها حراس مؤسسة بامتياز، ألا تخاف أن تتحول نصوصك أنت نفسها إلى مؤسسة؟
- لا أبداً.. نصوصي هاربة دائماً من السرب والقطيع والمؤسسات. وهي لا تؤمن بالقوالب والحدود والكليشات ولا بالتقسيمات الجاهزة. إنها تدخل إلى قصيدة العامودية وتخرج منها إلى القصيدة الحرة أو النثر أو النص المفتوح، أو بالعكس، دون أي صعوبة أو تعقيد.. لم تخضع قصيدتي لقالب أو مذهب معين أو تمسك نفسها باتجاه محدد.. فالحرية: فكراً، سلوكاً، وتمثّلاً، هي الهاجس الأهم في كتاباتي وحياتي.. أهزأ دائماً من حراس قصيدة النثر وسدنتها ومنظريها، مثلما أسخر من القوالب الكونكريتية للقصيدة العمودية وأسلاكها الشائكة.. فالنص المبدع هو النص المبدع، بأي لغة كُتب وبأي شكل أو إيقاع أو لون أو مدرسة أو طريقة.
◘ هل تعتبر أن جيل الثمانينات الشعري أقل حظا من جيل ما بعد - الحرب - ؟
- لقد عانى جيلنا الكثير ومرت به التجارب مجتمعةً: الحرب والقمع، الحصار والمنفى، الاحتلال والمفخخات، وما بينهما من خراب وتشويه والخ من تلاوين واسعة وكارثية أنهكته كثيراً لكنها أعطته اكتنازاً في التجربة قل مثيلها وزادته انفتاحاً في المضامين وتلوناً في الأشكال وجرأةً في الطرح..
وهذا الأمر أراه أيضاً منعكساً على التجارب الأخرى، وخاصةً اللاحقة، أي الجيل التسعيني وما بعده.. وهذا دليل عافية على أن الشعر العراقي - رغم كل الفواجع والحصارات - في نموٍّ وتجديد وتجدد دائم.
◘ ألا تعتقد أن الكتابة في المنفى لقراء مجهولين وعناوين غامضة محاولة يائسة لتعزية الذات، أم هي محاولة جادة لتأميم النص الشعري وتدريبه على الطيران في سماء مفترضة لوطن مفترض؟
- من خلال قراءاتي وتجربتي في الكتابة، على مدى ثلث قرن، تعلمت شيئين مهمين: إن لم يكن المبدع صادقاً مع نفسه ونصه فهو حتماً سيفقد مصداقيته عند المتلقي آناً أو بعد حين، شرقاً أو غرباً.. وأن النص المبدع لا بد أن يصل إلى قارئه مهما نأت الأزمنة والمسافات، ومهما تكاثر الغبار والتشويهات، ومهما علت الأسوار والرقابات.. لقد كتب أوفيد مثلاً - وهو أول شاعر منفي في التاريخ - عمليه المدهشين: "مسخ الكائنات" و"فن الهوى"، قابعاً في عزلته القسرية، في مدينة توميس المهجورة على شاطئ البحر الأسود، لكن عمليه المبدعين ظلا حاضرين في الذاكرة البشرية، على مدار الأجيال والبلدان، وهما أكثر قرباً وتأثيراً والتصاقاً بالروح من آلاف الأعمال الأدبية التي نراها الآن هنا وهناك والتي ما برح منتجوها يروّجون لها ليل نهار، يجوبون بها المكتبات والمقاهي والندوات والمهرجات وشاشات التلفزيون وشبكات الانترنيت.
◘ تصرّ دائما في تصريحاتك على إعدام فكرة ذكر محمود درويش في حين تسعى بشكل أو بآخر إلى إحضار أدونيس قسرا، لأشبه بطريقة إحضار الأرواح؟
- اسمحْ لي أولاً أن لا أوافقك. فأنا لمْ أقلْ أبداً مثل هذا الكلام. فمحمود درويش: قصيدة وروحاً، باقٍ ومتوهجٌ فيهما وبهما، بل لقد خط له في السنوات الأخيرة عبر دواوينه الأخّاذة: "الجدارية"، "سرير الغريبة" لماذا تركت الحصان وحيداً"، الخ مساراً مختلفاً عن التجربة الشعرية، الفلسطينية - العربية، الشعاراتية منها بالأخص... أما أدونيس فهو حاضر في الذاكرة الإنسانية بفكره وبشعره وتجديداته، وإن كنتُ أكثر ميلاً إلى شقه التنظيري منه إلى الشق الشعري رغم أهميته التي لا تُنكر.. لكن تنظيراته وآراءه في الشعر والفكر والحياة تدهشني حقاً..
◘ هل الحداثة نص أم سلوك؟
- يعتقد بعض من أدبائنا أن الفوضى هي المصدر الوحيد للإلهام، وأن تنظيم العمل الكتابي يعد مثلبة على الكاتب أو الشاعر بالأخص.
ولا أدري لماذا يصرّ البعض على أن الكاتب العربي لكي يبدع، فأن عليه أن يكون فوضوياً وصعلوكاً متشرداً، سكّيراً معربداً، مدخّناً بافراط، متسخ الثياب مفلساً لا بيت له ولا طاولة للكتابة. في الوقت الذي نجد فيه بعض الكتاب العرب والغربيين - بالأخص - منظمين بشكل صارم، بل أن بعض الغربيين له أكثر من سكرتير أو سكرتيرة.. فالعمل الإبداعي يتطلب الكثير من الجهد والبحث الدؤوب المتواصل، ليلاً ونهاراً، من أجل اجتراح الفكرة وتنظيم العبارة وتكوين النص، بحيث أن الأدباء الكبار الذين قرأنا لهم أهم الأعمال الإبداعية والذين أسسوا لثقافة عصرهم، كانوا يخططون بالأرقام والساعات لأوقات عملهم، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم ولا يسمحون لزمنهم أن ينفرط في الثرثرة على مقاعد المقاهي والتجمعات الأدبية أو يفنون عمرهم الإبداعي في التثاؤب، انتظاراً مخدراً لـ "غودوا" الإلهام. لقد عرف عن الروائي العربي نجيب محفوظ طقوسه الخاصة التي لا يحيد عنها في العمل الإبداعي وممارسة الكتابة في ساعات معينة من كل يوم وتحديد أوقات سيره للترويض عن نفسه والتقائه بأصدقائه حيث يقول: "لقد تعلمتُ كيف أنظم حياتي، أنني أخرج مبكراً في الصباح وأمشي ساعة يومياً تقريباً ثم أمضي الصباح في مقهى علي بابا لمطالعة الصحف قبل أن أعود إلى البيت وفي المنزل أكتب حتى الثانية عشرة ثم أتغدى وأنام قليلاً وأمضي بقية يومي في القراءة - وهي قراءات متنوعة تشمل الفلسفة والتاريخ والحضارة والأدب والسياسة - وأخيراً أشاهد التلفزيون وغالباً ما أختار فيلماً أجنبياً، وبهذه الوسيلة أقضي أمسياتي لأنني أنام قليلاً.."..
فهو يرى نفسه - كما عبّر - "موظفاً لدى القصة".. راهناً ومكرّساً حياته وجهده لها.. أما الكاتب التركي يشار كمال فأنه يؤكد في حوار صحفي أن "من عادتي، أنني أثناء الكتابة، أتوقف عن التدخين، وعن الشرب، وعن أي لهو آخر"..
وحين يسأله الصحفي: "ومتى ترتاح"؟ يجيبه: "بين رواية ورواية. وقد تكون المدة بضعة أشهر أو بضعة أعوام".
وترى الكاتبة الإنكليزية ديان دولت فاير أن من الأفضل تحديد فترات قصيرة منتظمة للكتابة، بدلاً من الفترات غير المتواصلة وغير المحددة. وتنصح الكاتب الشاب بقولها: "إذا أردت إكمال رواية، فأن من الضروري أن تتعود على العمل المنتظم. وأفضل أسلوب عملي لذلك هو أن تحدد مقدار الوقت الذي تستطيع توفيره كل يوم، وأن تختار أكثر الأوقات مناسبة. فإذا قررت، فعليك الالتزام، بأقصى درجات الانضباط.." وذلك ما كان يفعله الكاتب الروسي تشيخوف الذي عُرف عنه تحديد أوقات كتابته بساعات معينة من كل يوم. ويقول الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا: "أنا لا أسجل ملاحظات ولا أحتفظ بدفتر ولا أعد عملي في الحقيقة بأي شكل من الأشكال. ويمكن أن أضيف إلى ذلك قولي أيضاً أنني عندما لا أعمل، لا أفكر بعملي أبداً. وعندما أجلس للكتابة - بين التاسعة والثانية عشرة كل صباح، إذْ لا أكتب أي سطر بعد الظهر أو الليل أبداً - عندما أجلس إلى المنضدة للكتابة لا أدري أبداً ماذا سيجري حتى أواصل عملي". إن ما يفعله مورافيا، وغيره، لا يخرج عن دائرة همنغواي، في الالتزام بطقوس الكتابة التي وضعها صاحب "الشيخ والبحر" لنفسه إلى حد أنه كان يشعر لحظة الكتابة أن أصابعه تنتج له كثيراً من تفكيره ومن قصصه ونتاجاته الروائية، حيث تصبح اليد المدرّبة أحياناً بديلاً عن مخيلة الإلهام، إذ جاز لنا التعبير.. وهذا ما يؤكده الكاتب الفرنسي جورج سيمنون الذي أنتج حوالي أربعمائة رواية قائلاً: "أنا لا أعرف شيئاً عن الأحداث. عندما أبدأ الرواية، لا أضع على الورق إلا أسماء الشخصيات وأعمارهم وعوائلهم.. لا أعرف شيئاً عن الأحداث التي تقع فيما بعد".. ليترك للكتابة وحدها أن تجترح مخيلتها وترسم مدارات الحدث وحبكة الرواية والنهاية أيضاً... ولا يفوتنا هنا أن نتذكر كلمات مارسيل بروست صاحب الرواية الأطول "البحث عن الزمن المفقود" وهو يقول: "إن الرواية هي نسبة واحد من الإلهام إلى 99 من العرق المتصبب"، وهذا ينطبق إلى حد كبير مع مقولة الشاعر الأسباني لوركا الذي يرى أيضاً أن الإلهام الشعري لا يشكل إلا نسبة ضئيلة من العملية الإبداعية مقابل الجهد المضني والمهارة والدربة التي تجترح الموضوعات أحياناً، فيؤكد قائلاً: "الغجر بالنسبة لي مجرد موضوع من موضوعات عديدة للشعر. وبالمهارة نفسها أستطيع أن أكون شاعر إبر الخياطة..". وهذا الاعتراف الخطير من شاعر بثقل لوركا وغنائيته التي سحرت الجميع، يعيدنا إلى ما ذهب إليه همنغواي في شعوره بأن حركة أصابعه هي التي تحركه على الورقة وليس العكس، قالباً نظرية الإلهام التي تمسكنا بها طيلة قرون وقرون، رأساً على عقب. وفي حوار مع ماركيز يتطرق محاوره إلى قضية الإلهام حيث يسأله: هل تتفق مع همنغواي أن الإلهام يأتي أثناء الكتابة، فيجيب ماركيز مؤكداً: "نعم الإلهام حسب نظري يأتي أثناء الكتابة فقط".. لكن بعض من أدبائنا الذين انساقوا وراء هذه النظرية الخدّاعة بالغوا في الأمر حتى جاءت نصوصهم ميكانيكية باردة، فهم قد أخذوا الشق الظاهري مما ذهب إليه الروائي الكبير وتركوا الشق الباطني المعقد المتشابك بحركته الإبداعية وتكوينه وعناصر نضوجه. حيث لا ينبثق النص من فراغ، ولا تأتي الكتابة من صدفة محضة. "كان عليَّ أن أخضع لنظام شنيع، حتى أنهي نصف صفحة، في ثمانية ساعات. كنتُ أصارع كل كلمة وتنتصر عليَّ الكلمة. غير أني عنيد إلى حد استطعت معه أن أنشر أربعة كتب خلال عشرين عاماً.. يتقدم عملي في الكتاب الذي أؤلفه ببطء على خلاف الأمر في الكتب السابقة ذلك أن ساعات راحتي قليلة.. لا أتحدث عن الأدب لأنني أجهل ماهيته.." هذا القول لكاتب مهم مثل صاحب "ليس للكولونيل من يكاتبه" و"خريف البطريرك" و"مائة عام من العزلة" و"الحب في زمن الكوليرا"، يكشف عن آلية الكتابة التي أنتجت لنا مثل تلك الأعمال الخالدة وغيرها، وبعد كل ذلك فهو لا يتبجح في الحديث عن معرفته بأسرار العملية الإبداعية وينظّر لها، بل ترك كل ذلك للنقاد وانشغل بإبداعه منظماً جدول كتابته بشكل صارم. وأعيد عليك قوله مراتٍ ومرات: "أكتب يومياً وفي الأوقات نفسها: استيقظ في السادسة صباحاً وأقرأ لمدة ساعتين وهي عادة أحتفظ بها على الدوام لأنني لا أجد وقتاً حراً آخر. خلال بقية اليوم أجلس أمام آلة الكتابة في التاسعة صباحاً وهكذا حتى الثانية بعد الظهر وهذا هو منهاج عملي على مدة أيام الأسبوع كافة أي أن أسابيعي لا تتضمن أيام الآحاد المعروفة ويراودني إحساس ثقيل يؤرق ضميري جداً متى ما تخلفت عن هذا المنهاج حتى أنني أشعر بعدم استحقاقي لوجبة الطعام التي أتناولها في ذلك اليوم".. ولو راود هذا الشعور، بعض الأدباء، منا لماتوا جوعاً وعطشاً. لكنهم فضلوا موتاً آخر مكتفين بضبط مواعيدهم في الجلوس المريح على كراسي المطاعم والحانات والمقاهي والوظيفة.. وصرامة ماركيز في جدوله بل وحتى في ارتدائه ثوب العمل أثناء الكتابة، تضعنا أمام حقيقة واحدة لا غير وهي تحويل الكتابة إلى حرفة، كأي حرفة أخرى إذا نظرنا إليها من الجانب النظري الظاهري، لكنها من الجانب الفني المهني الداخلي تخضع - داخل روح الكاتب وعقله ومخيلته - إلى سلسلة طويلة ومعقدة من العمليات الإبداعية. فليس كل من لبس ثياب العمل ودخل ورشة الكتابة، واحترف الجلوس فيها عشر ساعات، سيصبح بين ليلة وضحاها أو بعد عمر، ماركيزاً آخر..
◘ هل يمكن تصنيف الكتابات التي تتدفق من أقلامها كرد فعل على آلة الحرب، وبالتالي هل هي كتابة إبداعية أم أنها كتابة انفعالية تحيد عن الفعل الإبداعي الحقيقي؟
- ما الذي يمكن أن يفعله الكاتب حين يستيقظ صباحا، ويجلس إلى طاولته للكتابة، فيجد أوراقه مغطاة بالرماد، وقلمه يسيل بالدم بدل الحبر..!؟ قال لي أحد الشعراء الكبار ذات يوم وأنا ألتقيه في أول أمسية شعرية لي بعد خروجي من الوطن مثقلاً وكسيراً: عليك أن تطرد ركام الحزن الذي يجثم على روحك، لتنطلق في براري الكتابة الجديدة، حراً طليقا من الخيبات والقيود السود التي تكبّلك، فاليأس الشديد - مثل الشلل الفكري أو الروحي - يمكن أن يقتل جذوة الإبداع في داخلك. بين هاتين الصورتين المتداخلتين، أجد نفسي محاصراً بالأسئلة: من أين أبدأ؟ هل أبقى أدور - كحصان معصوب العينين - للكتابة عن "ناعور أو نواعير الدم"، التي صبغت تاريخنا وحياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية بلونه الفاقع والفاجع؟. هل أحمل الحزن ورماد الحروب على كاهلي أينما ذهبت، مستذكراً مقولة كافافي: "ما دمتَ قد خربت حياتك في هذا الركن الصغير من العالم فهي خراب أينما حللت"؟ أم هل أبدل أوراقي المبتلة بالنجيع والدموع نازعاً جلدي وذاكرتي، لأبحث عن أوراق بيضاء جديدة لم تُلوّث أو تُسوّد بعد، وطاولة أكثر أمناً وهدوءاً ونظافة، لأكتب عن المطر والحب، وفتاة الحانة، والمقعد الأخضر على البحر، وكركرات طفلة تركض خلف قطتها، وأنسى بقع دم أصدقائي المتخثرة بين أصابعي، وأنيني المكتوم.
هذه المعضلة، معضلة الكتابة بين اتجاهين، ومحاولة التوفيق بينهما تترك الكاتب المهلهل معرضاً لانفصام الشخصية، وانفصام القصيدة، معاً، انفصاماً بين الواقع والذات، بين الشكل والمضمون، بين الرؤية والأسلوب، بين برودة الحبر وسخونة الدم. لكنني أرى أن الكاتب الحقيقي، أشبه بالمصهر العظيم الذي يصهر في داخله كل الموضوعات والأساليب والاتجاهات والأحداث، ليخلق منها نصاً عظيماً يحمل عناصر المغايرة والإبداع والشمولية والدهشة. لقد ذكر "بابلو نيرودا" ذات يوم أنه زار أحد المناجم في بلده، ورأى أحد العمال يتقدم إليه وسط الغبار والعرق والشقاء، ويقول له: "إنني أعرفك منذ زمن بعيد يا أخي". ويعلق نيرودا على ذلك بقوله: "هذا هو إكليل الغار لشعري، فمن تلك السهوب الرهيبة، خرج عامل قالت له الريح والليل والنجوم في تشيلي مرات عديدة: إنك لست وحدك، ثمة شاعر يفكر في آلامك..".
إن تأريخ الكتابة يحدثنا عن الطريق الطويل الصعب الذي عبره المبدعون ليصلوا إلينا، متخطين حواجز الزمن ومزاجية الذائقة أحياناً، ومناخ الأمكنة، واختلاف الأهواء، ومقصات الرقابة.. ليحفروا أسماءهم على الصخور، ويمضوا مطمئنين إلى قمم الخلود، دون أن تؤرقهم معاول الآخرين. وما كان ذلك ليحدث، لولا أنهم تركوا محابرهم على طاولاتهم.. وكتبوا لنا تلك النصوص الحارة، بدمهم ودموعهم وعرقهم الصادق.
◘ بعد حادثة الاعتداء عليك، هل نجوت أخيراً؟
- الآن، وبعد نجاتي وبقائي على قيد الشعر، أقول: ما الشعر إلا مغامرة كبيرة، به "خرجتُ من الحرب سهواً" كما عبّرتُ في أحد قصائدي التي كتبتها قبل هروبي من الوطن عام 1993، وبه نجوتُ من الموت بأعجوبة، في مهرجان المربد الثالث عام 2006. فبعد قراءتي لـ"نصوص مشاكسة قليلاً" ونزولي من المنصة وسط تصفيقٍ لمْ أشهدْ مثله في حياتي من الجمهور الذي كان متعطشاً حقاً للكلمة الحرة.. تقدم إليَّ أحدهم، من الميلشيات الظلامية المسلحة، بوجه مصْفر وبوقاحةٍ، ليبلغني برسالة الموت، لأنني أسأت للدين على حدِّ وصفه وغبائه، مهدداً أياي بقطع لساني، وعلى أثرها - واستجابة لنصيحة الأصدقاء الذين تجمعوا حولي وخبروا تهديدات فِرق الموت كما يسمونها - غادرتُ المهرجان والبصرة عبر الطريق الصحراوي إلى الكويت، متجهاً إلى لندن حيث أقيم..
لكن هذا لن يوقفني أبداً. سأواصل تحديهم بالكتابة أنا الأعزل الذي لا أملك سوى قلمي في غابة من البنادق.. فالرب الذي أعرفه وأحبه غير الرب الذي يقتلون باسمه، ويففخون باسمه، ويلطمون ويتطبرون باسمه.. ويسرقون الناس باسمه، ويتربعون على المنابر والكراسي باسمه.. إن مشهد الخراب، والاحتلال، والمفخخات، والميلشيات، والعمائم، وعصابات النظام البائد، ومخابرات دول الجوار، أنتج منظومة اجتماعية وثقافية بائسة بدّلت ممدوحها من الجنرال إلى رجل الدين، ومن المسدس إلى المسبحة أو إليهما معاً.. ومن القائد الضرورة إلى الشيخ - المرجع الضرورة.. وهكذا دواليك..
لقد هالني ما رأيتُ من سيطرة الظلاميين والميلشيات المسلحة تحت غبار من تخلف ديني شنيع وقتل على الهوية الطائفية، يمارسه كلا الطرفين، بالإضافة إلى الفساد والرماد الذي يعمُّ كلَّ شيء.. وجدتُ لزاماً عليَّ كشاعر أن أقول كلمتي، وحصل ما حصل..
هذا ما كتبته بعد الحادث في بيان نشرته مواقع الأنترنيت، وقد تسربت القصائد بشكل عجيب. وهبت عاصفة من الكتابات المؤيدة والمساندة والشاتمة. لكن الغريب في ما رأيتُ أن هذه المليشيات والعقليات الدموية الجديدة تسير على خطى النظام السابق وأساليبه المعروفة في التشويه أو التصفية أو كليهما معاً، وتتبع وسائله وتزيد..
◘ كيف رأيت المشهد العراقي وأنت تعود إليه من منفاك محملاّ بلواعج الغربة والحنين ومفاهيم الحرية؟
- ما أريد أن أتحدث به أبعد من المربد، أو ما حدث لي. لا أتحدث عن هذا الغبي المسكين الذي أرسلوه لتهديد شاعر بقطع لسانه.. ربما لا يفهم أو يعرف معنى الشعر، أنه تماماً كهؤلاء الانتحاريين المخدرين الذين يوجهونهم كالرابوتات إلى هذا التجمع أو العرس أو المأتم أو المدرسة أو السوق، ليفجروا أنفسهم، وقد حشّوا دماغه بأنه يفجر ويقتل المستعمرين أعداء الإسلام والأمة والوطن.. وأن أسراباً من الحور العين والغلمان والخمور في انتظاره..
المشكلة أكبر بكثر مما يظن البعض، وممن كتبوا مشكورين، معي أو ضدي.. أنها منظومة ثقافية هجينة بدأت تزحف على البلد وتفرض أجندتها "الطالبانية" الكريهة والقاتلة.. وتزحف على العقل وتشلّهُ...
هذه المنظومة السياسية والدينية، بشكل أخص، تضخمت كروشها فجأة بعد سقوط النظام، وازدادت أملاكها ومسلحوها وتنوعت اسلحتها، فسيطروا على الشارع والحياة وحتى على الحكومة، بشكل أو بآخر، حيث لم يتركوا مدرسة أو وزارة أو ساحة أو.. أو.. إلاّ وملأوها بصورهم وشعاراتهم (معيدين لنا ذكرى تلك الصور الكريهة للقائد المجاهد، بطل التحرير.. والخ، التي خيمت علينا طيلة أكثر من ثلث قرن وسممت حياتنا وهواءنا)..
وطغت المناسابات الدينية على كل شيء، من الدوام الرسمي إلى شؤون الحياة إلى الهواء.. فمن وفاة إمام معصوم، إلى وفاة أبن أو بنت أمام، إلى وفاة وصي أو فقيه، إلى.. إلى... والسواد واللطم، سيدا المشهد..
وبدأوا يتدخلون - بشكل مباشر أو غيره - في مناهج الدرس، وبرامج التلفزيون، وشؤون الثقافة والمجتمع، والزواج وكرة القدم والمكياج والخ، وسجلات الاقتصاد والتنمية والنفط.. والخ..
وانزلْ إلى الشارع تسمع يومياً آلاف القصص التي سيقف عندها أبو الغرائبية ماركيز مذهولاً وقد فاقوا تصوراته بسنوات ضوئية..
كل هذا، بالاضافة إلى مخلفات النظام المقبور، وسياسة الاحتلال البغيض، اللامبالية بما يحدث، وتدخلات دول الجوار، والوضع الاقتصادي المتردي، ومشاهد الخراب والأزبال المتنائرة في كل مكان، وخواء المكتبات واقفال السينمات والحانات، وقصص الرشاوى والسرقات، والإقتتال الطائفي المستتر، والذبح المجاني اليومي، وقوائم التصفيات، والخ، والخ..
كل ذلك انعكس بوضوح على الروح واللغة والإبداع (الشعر، الرواية، القصة، التشكيل، المسرح!، السينما!!، الإغنية!!! والخ).. وهكذا دواليك..
فبدلت بعض الخطابات عناوينها ومضامينها لتلتحق على عجل بالمشهد اليومي وهو غارق بالزناجيل والسواد والكربلائيات أو بدخان المفخخات وأفلام الذبح والكتب السلفية والشعارات الحزبية.. أو راكظٌ وراء لقمة لا يدري كيف وأين يحصل عليها أو لا يهم كيف يحصل عليها.. أو.. أو.. إلى آخر الحكايات التي يلوكها الناس يومياً أكثر مما يلوكون من الخبز....
المشكلة أو قل الطامة تتعلق بيأس الشارع العراقي من أي تغيير..
هل قدرنا أن لا نخرج من هذه الطامة.. هل قدرنا أن نكون أما بيد "جيش القدس" و"فدائيي صدام"، أو "جيش المهدي" و"الفضيلة" و"بدر"، أو جيوش "السلفية"؟.. هل قدرنا: أما صدام، أو الأمريكان.. أما مقتدى، أو الزرقاوي..
لماذا هذه الثنائية الحتمية يا إلهي..
أليس هنالك بديلاً؟ بديلاً واحداً صالحاً للعراق!!
في أحد الأحياء الشعبية، طالعتني قطعة كبيرة عُلِقتْ على باب أحد البنايات، كُتِبَ عليها: "حسينية باب الحوائج"!.
قال لي صديق شاعر عانى ما عانى فيما مضى والآن: لقد كانت سابقاً فرقة "أم المعارك"!!..
حيُّ "القائد" في منطقة القبلة، في البصرة تحول إلى "حي القائم"! (ويقصد به الأمام المهدي، الغائب المنتظر) مجرد تغيير حرف لا أكثر - يا للسخرية ويا للفجيعة معاً -!!!
وفي بغداد، بدل أحد الأحياء الشعبية، أسمه ثلاث مرات: مدينة الثورة / ثم مدينة صدام / ثم مدينة الصدر.
نعم يمكنك الآن أن تشتم وتدين وتنتقد الإرهابي والقاتل ورجل الدين والسياسي والحزبي و.. و.. وما تشاء.. لكن شريطة أن تتحدث بلغة العموم، وأن تكتب بلغة العموم، دون أن تسمي أو تشخصّ أحداً.. نعم، هناك حرية تستطيع أن تتحدث بها بما تريد.. لكن احذر المواضيع الحساسة!.. لا تمسَّ هذه العمامة ومليشيتها المسلحة!!، أو تمسَّ قائد هذا الحزب أو الوزير وتكشف أعماله واختلاساته وتصفياته!!!..
هكذا يخبر أو يوصي رئيس التحرير محرره الكاتب في الجريدة..
- ما هي حدود دائرة المواضيع الحساسة!؟
إنها تتسع أو تضيق، من مكان إلى مكان، ومن منبر إلى منبر، ومن جريدة إلى جريدة، ومن مزاج إلى مزاج..
في زمن عدي صدام، صدرت ثلاث قوائم تطالب بتصفية الكتاب العراقيين المعادين للنظام..
في زمن المليشيات الجديدة، أصدرت إحدى الميليشيات الحزبية قوائم تطالب بتصفية الكتاب العراقيين بدعوى أنهم كانوا من المؤيدين للنظام..
قائمة جديدة!!
قائمة قديمة!!
هكذا - في كلا الحالتين - بلا محكمة.. أو مراجعة أو تدقيق.. أو حتى سؤال.. ما أسهل التهمة، وما أسهل الذبح..
والمفارقة الأمرُّ هذه المرة، أن القائمة الجديدة أحتوت على أسماء كانت القائمة القديمة تطالب بتصفيتها!!
أسماء اتهمت في الزمن الماضي بأنها معادية للنظام، هي الآن متهمة بأنها كانت مؤيدة للنظام!!
وكان أسمي - يا للمفارقة البائسة والمرّة - والعشرات غيري، في كلتيهما. أي في كلتا القائمتين.
فهل اتحدوا على ذبحنا!!؟
وسوى الذبح دونك ذبحٌ فعلى أي جانبيك تميلُ
والمعذرة لأبي الطيب ولعجز بيته الآخر: يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ
تكتب أحد الصحف العربية في مانشيتها العريض ليوم 8/05/2006: "يوم "عادي" في العراق: 45 جثة في الطرقات و30 قتيلاً بتفجيرات"
وتنقل صحيفة الشرق الأوسط 5/5/2006 عن وكالة رويترز: قال نائب مدير مشرحة بغداد الرئيسية أمس إن المشرحة تتسلم كل يوم ما بين 35 و50 جثة غالبيتها بها طلقات رصاص وان أصحابها هم على الأرجح ضحايا عمليات قتل طائفية.. وشاعت عمليات القاء جثث مكبلة الأيدي وبها اثار تعذيب في الشوارع. وقال الطبيب ان المشرحة تسلمت 1068 جثة في يناير (كانون الثاني) و1110 في فبراير (شباط) و1294 في مارس (آذار) و1115 في ابريل (نيسان). وصرّحَ بأن 90 في المائة من الضحايا قتلوا بالرصاص"..
أنظرُ إلى الإرهاب الخفي الذي يعم الشارع...
وأسألُ عن "مروان" أبن صديقنا الشاعر المبدع والوديع خزعل الماجدي "صانع الجماليات" كما يصفه د. علي الفواز.
"مروان" الإعلامي الصغير وزميلته الإعلامية اللذان اختطفهما الظلاميون، أثناء عملهما وفي وضح النهار!! ولم يُطلق سراحمها أو تُعرف أخبارهما حتى هذه الساعة..
وأسمعُ عن بشاعة خطف الصديقة المذيعة والشاعرة أطوار بهجت، أثناء عملها، وذبحها من الوريد إلى الوريد..
وأسمعُ عن اغتيال صديقي النبيل الكاتب عباس كاظم مراد، الذي قاده عمله في "لجنة النزاهة" إلى الكشف عن بعض السرقات في إحدى الوزارات، فأردوه قتيلاً..
وأقرأ عن أعتيال الشاعر أحمد أدم وزميله الكاتب الصحفي نجم عبد خضير على يد العصابات الطائفية، في منطقة اللطيفية..
وأسمع قبل أيام قليلة عن أختطاف أبن الشاعر والناقد د. حاتم الصكر، وأبن الناقد المسرحي حسب الله يحيى.. وقائمة الألم تطول..
كم وصل عدد المذبوحين والمختطفين من الصحفيين والكتاب في العراق؟... مائتين، أو أكثر!
إنك لا ترى قيوداً او منعاً أو ممنوعات.. إنك لا ترى حرباً ظاهرة ولا دكتاتورية علنية.. لكنك تحسها وتعيشها في كل لحظة..!
في أخريات الليل، بعد ساعات منع التجوال، كنا نجلس في صالة فندق المربد نقرأ لبعضنا البعض نصوصنا، ونسترجع نصوص الآخرين، فيتجمهر حولنا بعض الأدباء ونزلاء الفندق، فلم أجد إلا ذائقة عالية، وتعطشاً حقيقياً للحرية وللجديد في الثقافة والعالم.. ومثل ذلك تلمسته في جلسات اتحاد الأدباء، والمقهى، وفي شرائح عديدة من المجتمع..
ليس الخلل في العقل الثقافي العراقي العام، أنا متأكد من ذلك، هذا العقل الذي لم يستطع النظام بكل جبروته من سحقه أو تغييره، وأنما الخلل في تلك المنظومات السياسية البائسة وبعض المنظومات الدينية الهجينة بطوائفها المتصارعة والمتطرفة التي انتجت هذه المليشات وهذا المناخ وهذه الأمراض..
لكن أي قصيدة، تقول الذي يجب أن يقال، في هذا المربد، وفي هذا الوضع الدخاني الملتبس..؟ إن الأمر ليغدو انتحاراً!..
جلستُ قرب تمثال السياب، يائساً أو شبه يائس.. وأنا أحدّق في أمواج شط العرب الذي كانت تنساب بعذوبة ولحن، كأنها غير عابئة بما يجري، لتؤكد أن الحياة تستمر وستستمر رغم شيء..
◘ ما الذي حدث لك بالضبط بعد قراءتك لنصوصك المشاكسة قليلاً كما سميتها؟
- قراءتي كانت في الجلسة المسائية، من ذلك اليوم العجائبي (16/4/2006)..
وقفتُ أمام المنصة، وبدأتُ أقرأ في القاعة المحتشدة بشعراء العراق التي كانت وجوههم تتخاطف أمامي مثل فلاشات الكاميرات، أو كالنجوم المحلقة في تلك الليلة البصرية..
قرأت بفرح وحماس لم أتعودهما، وسط تصفيق يتعالى بعد كل مقطع زادني خجلاً وحماساً وارباكاً معاً..
نزلتُ من المنصة بعد أن انتهيت من قراءتي، متجهاً إلى مقعدي المعتاد دائماً في آخر القاعة. لكنني حسبتُ المسافة أطول من أن أصلها وسط تحيات الأصدقاء ومصافحاتهم.. فهرعت إلى أقرب كرسي فارغ.. وجدته..
جاء بعض الأصدقاء وجلس قربي: د. أثير محمد شهاب، محي الدين الجابري و طالب عبد العزيز و.. و..
بعد دقائق، وبينما كنت مسترخياً، أتابع قراءات الشعراء، تقدم مني أحدهم محتدماً بوجه كالح مصفر، من تلك المليشيات الظلامية المسلحة.. وقف قبالتي بوقاحة وصلف، هامساً في البدء، وعندما لم أسمعه جيداً.. لم يتوان من أن يعيد كلامه بصوت أعلى، على مسمع ومرأى الجالسين، ليبلغني برسالة الموت، لأنني أسأت للدين، مهدداً أياي بقطع لساني! وتصفيتي ليجعلوني درساً..
أردتُ - يا لسذاجتي - أن أخرج معه بعيداً عن جو القاعة، لأحاوره وأناقشه بهدوء، وأقول له أن نصوص الحلاج والبسطامي والمعري وأبن سينا والراوندي وتراثنا العربي عاج بأجرأ مما قلت، وأنني ما أسئتُ بنصوصي للدين أبداً كما تتوهم.. و... و..
غير أن الأصدقاء الذين عرفوا معنى تهديداتهم جيداً، أحاطوا بي، وهرع بعضهم هنا وهناك مستنجداً بالمسؤولين عن المهرجان. كان الجميع يهدؤنني، أنا الذي كنتُ هادئاً أكثر من أي وقت مضى، هدوءً بارداً بارداً، أشبه بالذهول أو بالموت، وسط خبيصة البعض، واحتجاج البعض، وفزع البعض، وترقب البعض، ولا مبالات البعض...
[".. وتقولين أتدري سأتزوج. ليكن. تزوجي. لا بأس. سأحتمل. انظري إليَّ كم أنا هاديء، هاديء كنبض رجل ميت" - مايكوفسكي، من قصيدته "ليلي" التي أحبها وذكرها في وصيته، قبل موته منتحراً برصاصة مسدس 1930 -]
تركتُ للأقدار أن تقودني.. أنا الشاعر الأعزل، الغريب عن وطنه مرتين.. أحد الأصدقاء البصريين الرائعين، جرني إلى سيارة مدججة بالحرس والبنادق، بعد اتصاله بقائد عسكري كبير، وأحاطني وصديق ناقد من بغداد.. واتجها بي إلى جهة لم أسألهما عنها.. فقد سلمتُ زمامي لهم، هم الذين يعرفون الوضع جيداً أكثر مني نتيجة بقائهم إلى آخر الوطن.
تراكضت الأفكار والمواقف والمشاهد والهواجس وتذكرتُ عائلتي وأصدقائي ومخطوطتي "نرد النص" التي كانت معي في الهاردسك وقد خفتُ عليها فسلمتها إلى صديقي الناقد ورجوته أن يوصلها إلى زوجتي وولديَّ إنْ لم أصلْهم أنا..
بت ليلتي الرهيبة تلك، مع صديقي الشاعر، بحماية هذا القائد، الذي كان أحد قواد انتفاضة آذار 1991..
في الفجر، عندما استيقظنا كان ثمة مطر وغبار، عالقين بالأرض وبحذائينا اللذين تركناهما عند الباب..
غادرت المهرجان تاركاً وداعات أصدقاء كثر استقبلوني بحفاوة وعناق ودموع.. لكن للأسف لم يمهلني القتلة فرصة الاستمرار في سماع قصائدهم أو - في الأقل - وداعهم.. أو حضور تكريم صديقي الشاعر المبدع عبد الكريم كاصد، شخصية المربد المحتفى بها لهذا العام، والذي حملتنا الرحلة معاً إلى هنا..
لم أشأ أن أبقى، خشية أن أفزع في غسق العيون خبر مقتلي أو قطع لساني.. فانسللتُ عائداً إلى منفاي البعيد، قاطعاً آلاف الأميال والحسرات..
لكن الخبر انتشر بسرعة لم أتوقعها..
طالعتني به صحيفة "الحياة" اللبنانية 18/4 على صفحتها الأولى، وأنا أقف أمام واجهة أحد المكتبات، في الكويت، أقرأ تفاصيل ما حدث مستسلماً لبرودي وذهولي الذي لم يغادراني بعد، وكأنني أقرأ ما جرى لأحد غيري، غير مصدق نجاتي..
لم يكن خوفاً وفزعاً، أنا الذي رأيتُ الموت عن قرب أكثر من مرة، وانما كان ذهولاً عميقاً، بعمق لغز الموت والحياة نفسيهما....
جاء الصديق الشاعر الشفيف دخيل الخليفة ومعه أحد الصحفيين، رجوتهما أن لا يخبرا أحداً فلي في الكويت أصدقاء أدباء كثر، لم أشأ أن أقلقهم بشأني..
قضينا - لحين موعد الطائرة - قسطاً كبيراً من العصر في أحد المقاهي وفي الشوارع نتسكع بلا هدى.. وفي الليل جلسنا القرقصاء على البحر، استرجع ما مرّ بي.. كأني أقرأ في الأمواج حسرات السياب قبلي على بلده..
"أصيحُ بالخليج : يا خليج..
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق"..
وصلتُ لندن وأمطرت علي اتصالات الأصدقاء وبعض الاذاعات والقنوات والمواقع والصحف.... لم أكن أريد للأمر أن يأخذ مساحة أكبر.. ولا أن تُؤول أو تُحمّل نصوصي التي قرأتها، بأكثر مما فيها.. غير أنه حدث..
عينان تسرحان بي أمام نافذة غرفتي الصغيرة المطلة على حديقة Royal Crescent في لندن، التي وصلتها ولساني وقصيدتي، سالمين - والحمد لله - مستعيداً شريط عمري وشِعري ومشاكساتي وخساراتي :
صبياً يتيماً، وبائع سجائر وعامل طابوق، وطالباً تحملني جموع الطلبة إلى باب المدرسة احتفالاً بفوزي بالجائزة الأولى في مسابقة الشعر للثانويات.. وطالباً مفصولاً من المعهد بسبب قصيدة تحتج على إدارة نادي الطلبة رأوا فيها تحريضاً على الدولة، وجندياً أحمل الرقم 495545 ج م متنقلاً لسنين بين الخنادق وسواتر الموت وأعيش لعامين في اسطبل مهجور للحيوانات، وجندياً منتدباً للعمل كصحفي في صحيفة "القادسية" ثم في مجلة "حراس الوطن"، وشاعراً أقرأ في ملتقى السياب قصيدتي "الجنوب" فيغضب منها المسؤولون فأتركها ومخاوفي يتهاديان على أمواج شط العرب، ومحرراً في مجلة "الطليعة الأدبية" ثم مجلة "الكتاب"، ورئيساً لمنتدى الأدباء الشباب ومجلته "أسفار" ومستقيلاً منهما بعد عامين وعددين، وحراً مستقلاً لمْ أنتمِ لأيِّ حزب داخل الوطن أو خارجه ولمْ أمدحْ حاكماً بحرف، وهارباً من الوطن بسبب مسرحيتي "الذي ظل في هذيانه يقظاً"، وغريباً مشرداً في أصقاع المدن أتأبطُ منفاي وقصائدي، ومشاكساً لا أنتمي إلاّ للشعر والجمال، ومعارضاً حراً تلاحقني جريدتا "بابل" و"الزوراء" وتضعني أحداها على رأس قائمة المرتدين، ومشتوماً تطاردني بعض الاشاعات والنصال، وفائزاً بجوائز الشعر في نيويورك وروتردام ومالمو، وعائداً إلى الوطن بعد أكثر من عقد ضيفاً مُكرّماً على مهرجان المربد، وهارباً من جديد أعود إلى منفاي بعد تهديدي بقطع لساني بسبب بعض نصوصي التي قرأتها فيه..
أنحني على طاولتي، معدلاً بعض الأوراق والشجون والكتب التي أمامي..
أتذكر قصيدة لي قرأتها في أحد مرابد الثمانينات، وسط الطبول والقصف، عُدتْ أقصر قصيدة في تاريخه:
دخلَ الشعراءُ الـ"......." إلى القاعةِ
واكتظَّ الحفلُ
لكنَّ الشعرَ... غريباً
ظلَّ أمامَ البابْ
بملابسهِ الرثَّةِ
يمنعهُ البوابْ
لكنها أردتْ أن تقودني إلى ما لا يُحمد عقباه..
وأتذكر قصيدتي في هذا المربد والتي كادت أن تقودني إلى ما لا يُحمد عقباه، أيضاً..
ساخراً من كلِّ شيء!، وباكياً على كلِّ شيء!..
["يســتطيعون أن ينزعوا عني الحيــاة، لكن لـن يطـفئوا غنـائي" - أراغون]...

 

* * *

 

 


مختارات شعرية

 

 

 

 

 

 

 

 

نص
نسيتُ نفسي على طاولةِ مكتبتي
ومضيتُ
وحين فتحتُ خطوتي في الطريق
اكتشفتُ أنني لا شيء غير ظلٍّ لنصٍ
أراهُ يمشي أمامي بمشقةٍ
ويصافحُ الناسَ كأنه أنا
2/2/2000 مالمو
* * *
(.....)
هذهِ المِئذنَةْ
جسدٌ ناعظٌ من عذاباتنا
يتوسلُ
للقبتين
أو الريحِ
أن تحظنَهْ
10-2-2005 لندن
* * *
كأس
في الحانة،
كانتْ بغدادُ،
خيوطَ دخان
تتصاعدُ
من أنفاس الجلاّسْ
وأصابع عازفة،
تتراقص سكرى،
بين الوتر المهموسِ،
وبين الكأسْ
وإلى طاولتي، يجلس قلبي
ملتحفاً غصتَهُ
يرنو ولهاً للخصر المياسْ
ووراء زجاج الحانة أشباحٌ تترصدني،
تحصي الأنفاسْ
وأنا محتارٌ - يا ربي -
أين أديرُ القلبَ؟
وأين أديرُ الرأسْ؟
6/4/2001 مالمو
* * *
إلى أصدقائي الشعراء
.... يرحلُ الشعراء
ولا يرحلون
............
وقد......
يوغلون..
إلى آخر النجم
أو آخر الوهم

قد يحتسونَ النبيذ المعتّقَ، صرفاً
وقد يحتسونكَ، صرفاً

وقد يشعلونَِ لك الشمعَ
أو يشحذونَ لك النصلَ

لكنهمْ..
سوف يبقون
منهلكَ العذبَ
موئلكَ الصعبَ
يبقون أخوتكَ الطيبينَ
وأعداءَك النبلاءْ
لندن 13/8/2002 الهايدبارك
* * *
العراق
عندما الأرضُ، كوّرها الربُّ، بين يديه
وقسّمَ فيها:
اللغاتِ
النباتَ
الطغاةَ
الغزاةَ
الحروبَ
الطيوبَ
الخطوطَ
الحظوظَ
اللقا...
والفراقْ
ووزّعَ فيها:
العبادَ
السوادَ
الوصايا
البلايا
الحواسَ
الجناسَ
الطباقْ

اعتصرتْ روحَهُ غصّةٌ
فكان....
العراقْ
21/1/2006 BRISTOL/ بريطانيا
* * *
غربة (1)
مرةً، في القصيدةِ
لو شئتِ لي، نبتني، وطناً
كان يكفي لكي نتلاقى
مرةً.. كنتِ في لوحةِ المستحيلِ
تسيرين جنبي
فأزدادُ منكِ التصاقا

مرةً، في المواويلِ
.. أو في العويلْ
مرةً، في الصباح القتيلْ
مرةً، في الرصاصِ الذي أورثَ الدمَ
جيلاً فجيلْ
.........
مرةً، في اخضراركِ..
آخيتُ بين الندى المرِّ،
والسوسنةْ
ومِلتُ على صدركِ البضِّ، كي أحضنَهْ
فلمْ أرَ إلاّ ضلوعاً تشدُّ الرحيلْ
.................
كيفَ من بعدِ عشرين عاماً
أعدتِ العراقَ الجميلْ
أعدتِ العراقا
أعدتِ النخيلَ،
الضفافَ التي سامرتنا
الأغاني التي أرّقتنا
فكنتِ أشفَّ وصالاً
......... وكنتُ أشدَّ احتراقا
...........
مرةً..
مرةً
ربما، نلتقي صدفةٍ
آهِ.. يا غـربتي، آهِ.. يا وطني -
فنذوبُ عناقا
21/7/2004 لندن - ديوان الكوفة
* * *
عابرة
أكونُ لكِ الجسرَ
هل كنتِ لي نزهةً في أقاصي القصيدة...؟
أكنتِ ترين الأصابعَ - إذ تتشابكُ -
سلّمَكِ الحجريَّ... إلى المجدِ
أحني دمي، كي تمرَّ أغانيكِ، من ثقبِ قلبي
إلى مصعدِ الشقةِ الفارهةْ
وأختارُ لي ركنَ بارٍ
لأرقبَ في طفحِ الكأسِ ضحكتَكِ العسليةَ
في الحفلِ،... في آخرِ الذكرياتِ
تسيلُ على الطاولاتِ
فتشربها الأعينُ القاحلةْ
فأقنعُ نفسي:
بأن المسافاتِ كذبُ خطى
والصداقاتِ كذبٌ أنيقٌ
والنساءَ الجميلاتِ... تكرارُ آهْ
26/6/1992 النجف
* * *
بريد القنابل
أنتِ لا تفهمين إذنْ
رجلٌ في كتابْ
سوف يعبرُ مبنى الجريدةِ، شعرُكِ هذا الصباح
فيشغلني عن دوارِ القصيدةْ
أتأملُ فوضاكِ من فتحةٍ في القميصِ
وفوضاي في الورق
سيمرُّ بي العطرُ
يأخذني لتفاصيل جسمكِ
أو لتفاصيلِ حزني
من سيرتّبُ هذا الصباحَ القَلِقْ
الفناجينُ باردةٌ كالصداقاتِ
والحربُ تعلكُ أيامنا
وأنا في انتظارِ الندمْ
اقلبي الصفحةَ الآنَ
برجُكِ تشغلهُ الوفياتُ
وبرجي تملؤهُ الطائراتُ
.....................
.......................
أنتِ لو تفهمين إذن
كيف تجمعني الحربُ في طلقةٍ
ثم تنثرني في شظايا المدنْ
اقلبي الصفحةَ الآنَ
لا وقتَ..
إنَّ القنابلَ
تقتسمُ الأصدقاءْ
1988 بغداد
* * *
تكوينات
أجلس أمام النافذة
أخيطُ شارعاً بشارع
وأقولُ متى أصلكِ
*
العصفورُ يصدح
داخل قفصه
أنا أرنو إليه
وكذلك قطة البيت
كلانا يفترسُ أيامه
*
كم عيناً فقأتَ
أيها المدفعي
لتضيء على كتفيك
كلُّ هذه النجوم
*
منطرحاً على السفح
يسألُ :
هل من شاغر في القمة ؟
*
لا تقطف الوردةَ
انظرْ ...
كم هي مزهوة بحياتها القصيرة
*
كلما كتب رسالة
إلى الوطن
أعادها إليه ساعي البريد
لخطأ في العنوان
*
للفارس في الحفل
وسام النصر
وللقتلى في الميدان
غبارُ التصفيق
وللفرس في الإسطبل
سطلٌ من شعير
*
لكثرة ما جاب منافي العالم
كان يمرّ منحنياً
كمن يتأبط وطناً
*
حين طردوه من الحانة
بعد منتصف الليل
عاد إلى بيتهِ
أغلق الباب
لكنه نسي نفسه في الخارج
*
أكلُّ هذه الثورات
التي قام بها البحرُ
ولم يعتقله أحد
*
أعرف الحياةَ
من قفاها
لكثرة ما أدارت لي وجهها
*
تنطفيء الشمعةُ
واشتعلُ بجسدكِ
ما من أحدٍ يحتفل بالظلام
*
تجلس في المكتبة
فاتحةً ساقيها
وأنا أقرأ .. ما بين السطور
*
بين أصابعنا المتشابكة
على الطاولة
كثيراً ما ينسجُ العنكبوتُ
خيوطَ وحدتي
*
على جلد الجواد الرابح
ينحدر عرق الايام الخاسرة
* * *
رسام
قبل أن يكملَ رسمَ القفص
فرّ العصفور
من اللوحة
* * *
حساب
أيها الرب
إفرشْ دفاترك
وسأفرش أمعائي
وتعال نتحاسبْ
* * *
سهم
لحظة الانعتاق الخاطفة
بماذا يفكرُ السهم
بالفريسة
أم ...
بالحرية
* * *
شكوى
نظر الأعرجُ إلى السماء
وهتف بغضب:
أيها الرب
إذا لم يكن لديك طينٌ كافٍ
فعلام استعجلتَ في تكويني
* * *
غياب
رسمَ بلاداً
على شرشف الطاولة
وملأها بالبيوت المضيئة والجسور والأشجار والقطط
قطعَ تذكرةً
وسافرَ إليها
محمّلاً بحقائبه وأطفالهِ
لكن رجالَ الكمارك
أيقظوهُ عند الحدودِ
فرأى نادلَ البار
يهزهُ بعنفٍ:
إلى أين تهربُ بأحلامك
ولم تدفعْ فاتورةَ الحسابْ
* * *
خطوط
أنتَ تمضي أيها المستقيم
دون أن تلتفتَ
لجمالِ التعرجاتِ على الورقِ
أنتَ تملكُ الوصولَ
وأنا أملكُ السعة
1998 مالمو
* * *
الإسكافي الكهل
جالساً
على الرصيفِ
أمامَ صندوقهِ
يرنو
لأيامِهِ التي
ينتعلها الناس
1996 دمشق
* * *
ثمالة
انطفأتْ أضواءُ الحانة
وانطفأ العالمْ
لكن الرجل المخمورْ
ظل يدورْ
بحثاً عن سببٍ واحدْ
يوصلهُ ... للبيتْ
31/1/1993 بغداد
* * *
ثلج
يسقطُ الثلجُ
على قلبي
في شوارعِ رأسِ السنةِ
وأنا وحدي
محاط بكلِّ الذين غابوا
* * *
عقدة
الفاشيون
والشعراء المخصيون
يقفون..
على طرفي حبلٍ،
معقودٍ
في عنقي
و...
يشدون
* * *
رقعة وطن
ارتبكَ الملكُ
وهو يرى جنودَهُ محاصرين
من كلِّ الجهاتِ
والمدافعَ الثقيلةَ تدّكُ قلاعَ القصرِ
صرخ:
- أين أفراسي؟
- فطستْ يا مولاي
- أين وزيرُ الدولة
- فرَّ مع زوجتكَ يا سيدي في أولِ المعركةِ
تنحنحَ الملكُ مُعدّلاً تاجهُ الذهبي
وعلى شفتيه ابتسامةٌ دبقةٌ:
- ولكن أين شعبي الطيب؟
لمْ أعدْ اسمعه منذ سنينٍ
فأنفجرَ الواقفون على جانبي الرقعةِ بالضحكِ
- لقد تأخرتَ يا سيدي في تذكّرنِا
ولم يبقَ لنا سوى أن نصفّقَ للمنتصرِ الجديد
تموز 1997 باحة قصر هاملت - الدنمارك
* * *
أنا وهولاكو
قادني الحراسُ إلى هولاكو
كان متربعاً على عرشِهِ الضخمِ
وبين يديهِ حشدٌ من الوزراءِ والشعراءِ والجواري
سألني لماذا لمْ تمدحني
ارتجفتُ مرتبكاً هلعاً: يا سيدي أنا شاعرُ قصيدةِ نثر
أبتسمَ واثقاً مهيباً:
لا يهمكَ ذلك..
ثم أشارَ لسيافِهِ الأسودِ ضاحكاً:
علمْهُ إذاً كيف يكتبُ شعراً عمودياً بشطرِ رأسِهِ
إلى شطرٍ وعجزٍ
وإياكَ أن تخلَّ بالوزنِ
وإياكَ من الزحافِ والعللِ
امسكني السيافُ من ياقتي المرتجفةِ،
وهوى بسيفِهِ الضخمِ
على عنقي
فتدحرجَ رأسي،
واصطدم بالنافذةِ التي انفتحتْ من هولِ الصدمةِ.
فاستيقظتُ هلعاً يابس الحلق، لأرى عنقي مبللاً بالعرق، وكتابَ الطبري ما زالَ جاثماً على صدري، وقد اندعكت أوراقه تحت سنابكِ خيولِ هولاكو التي كانت تنهب الممالك والقلاع، وأمامي وشيشُ التلفزيونِ الذي انتهى بثُهُ بنهايةِ خطابِ الرئيسِ الطويلِ.
قفزتُ مرعوباً،
رأيت فراشي ملطخاً بدمِ الكتبِ التي جرفها نهرُ دجلة، ممتزجاً بالطمي والجهشات
حاولتُ أن أجمعَ شطري رأسي اللذَين التصقا بجانبي التلفزيون
وأصبحا أشبه بسماعتين يبثانِ الوشيشَ نفسَهَ.
في الصباحِ.......
على غيرِ العادةِ ،لم اقرأ نعيي في الجريدةِ ،
ولمْ تقفْ سيارةُ الحرسِ أمامَ البيتِ وعليها جنازتي ،
ولمْ أعرفْ تفاصيلَ ما حدثَ ،
ذلك لأنَّ هولاكو ضجرَ من الوشيشِ
فقامَ بنفسِهِ وأطفأَ التلفزيونَ
وعادَ إلى كتابِ الطبريِّ ثانيةً،
مبتسماً واثقاً مهيباً ،
بعد أن رفسني بخصيتي
لأنني نمتُ
قبل أن أكملَ بقيةَ سيرتِهِ
1/11/1998 مالمو
* * *
رقيب داخلي
منذ الصباح
وهو يجلسُ أمامَ طاولتهِ
فكّرَ أن يكتبَ عن ياسمين الحدائق
فتذكرَ أعوادَ المشانق
فكر أن يكتب عن موسيقى النهر
فتذكر أشجار الفقراء التي أيبسها الحرمان
فكر أن يكتب عن قرنفل المرأة العابق في دمه
فتذكر صفير القطارات التي رحلت بأصدقائه إلى المنافي
فكر أن يكتب عن ذكرياته المتسكعة تحت نثيث المطر
فتذكر صرير المجنزرات التي كانت تمشط شوارع طفولته
فكر أن يكتب عن الهزائم
فتذكر نياشين العقداء اللامعة على شاشات الوطن
فكر أن يكتب عن الانتصارات
فتصاعد في رأسه نحيبُ الأرامل
ممتزجاً برفات الجنود المنسيين هناك
................
في آخر الليل
وجد سلةَ مهملاته مملوءةً
وورقته فارغة بيضاء
* * *
دبابيس
النجوم، التي يتوهمها المطبعي، حروفاً متناثرةً على أديم الليل
النجوم، التي يراها المدفعي، دموعَ الأرامل
التي سيخلفها بعد كل قذيفة
النجوم، التي يحسوها السكّيرُ، حبيباتٍ طافيةً
من الذكريات المرّة
النجوم، التي يتلمسها السجينُ، سجائرَ مطفأة
في جلده
النجوم، التي تمسحها العاهرة، بقايا الفحولات المنطفئة بين فخذيها
النجوم، التي يتأملها العابدُ، رذاذَ ماء الوضوء
على سجادة الكون
النجوم
دموعنا المعلقة ـ بالدبابيس ـ في ياقة السماء
ترى أين تختفي
عندما تفتحين نافذتكِ ..
في الصباح
* * *
في حديقة الجندي المجهول
الجندي الذي نسي أن يحلقَ ذقنَهُ
ذلك الصباح
فعاقبه العريفْ
الجندي القتيل ، الذي نسوه في غبار الميدان
الجندي الحالم ، بلحيتهِ الكثّة
التي أخذتْ تنمو
شيئاً، فشيئاً
حتى أصبحتْ ـ بعد عشر سنوات ـ
غابةً متشابكة الأغصانْ
تصدحُ فيها البلابلْ
ويلهو في أراجيحها الصبيانْ
ويتعانق تحت أفيائها العشاقْ
..........
................
الجندي ..
الذي غدا متنزهاً للمدينة
ماذا لو كان قد حلقَ ذقنَهُ ، ذلك الصباح
عمان 28/9/1993
* * *
قبلة

وهما يتكآن على سياج الياسمين النمام
يهمُّ بتقبيلها
فتلفتُ القبلةُ من فمِهِ
وتسقطُ على العشبِ
محدثةً رنيناً أخضرَ
ينحني ليلتقطها
فتضحك ...
ذلك أن القبلَ الساقطةَ
كقطراتِ المطرِ
سرعان ما تجف
* * *
مرايا متعاكسة
أحياناً
... يوقفني وجهي في المرآة
- أنتَ تغيّرتَ ..
... تغيرتَ كثيراً
أتطلعُ مذعوراً
لا أبصر في عينيّ سوى شيخٍ
يتأبطُ عكازَ قصائدِهِ
... متجهاً نحو البحر
يتمرى في صفحته الزرقاء
فيرى في أعماق الموج
ولداً في العشرين
يتطلعُ مبهوراً
في وجهِ المرآة ...
لا يدري الآنْ
أيهما كانْ
* * *
اجاممنون
عائداً ...
من غبارِ الحربِ
بقلبٍ مجرّحٍ
وذراعين من طبولٍ وذهب
حالماً بشفتي كليتمنسترا ، العسليتين
اللتين كانتا في تلك اللحظة
تذوبان على شفتي عشيقها ايجستوس
ليلةً ، ليلة
عندما فتحَ البابَ
رأى في دبقِ شفتيها
آلافَ الجثثِ التي تركها في العراء
فتذكّرَ
أنه نسي أنْ يتركَ جثتَهُ هناك .
* * *
قافية.....
أخذتُ الحياةَ
على محملِ الجدِّ
- دهراً -
فأتعبني حالُها
رأيتُ بكنهِ اليقين منازلَها، قلّباً
يعلو المنابرَ جُهّالُها
ويكري المحاصيلَ أنذالُها
وينهشُ في قيلِها قالُها

فغسّلتُ كفيَ منها، ثلاثاً
وأضربتُ عما تزاحمَ سؤّالُها

فما عدتُ أحسبُ إنْ شرقتني
وإنْ غربتني
وإنْ أصعدتني
وإنْ أنزلتني

فدولابُها لا يقرُّ
على حالةٍ
وأن صَدَقتْ في عيونِ المغفّلِ آمالُها
26/3/2005 لندن
* * *
العبور إلى المنفى

أنينُ القطارِ يثيرُ شجنَ الأنفاقْ
هادراً على سكةِ الذكرياتِ الطويلة
وأنا مسمّرٌ إلى النافذةِ
بنصفِ قلب
تاركاً نصفَهَ الآخرَ على الطاولة
يلعبُ البوكرَ مع فتاةٍ حسيرةِ الفخذين
تسألني بألمٍ وذهول
لماذا أصابعي متهرئة
كخشب التوابيت المستهلكة
وعجولة كأنها تخشى ألاّ تمسك شيئاً
فأحدّثها عن الوطن
واللافتات
والاستعمار
وأمجاد الأمة
والمضاجعاتِ الأولى في المراحيض
فتميلُ بشعرها النثيث على دموعي ولا تفهم
وفي الركنِ الآخرِ
ينثرُ موزارت توقيعاتِهِ على السهوبِ
المغطاة بالثلج...
وطني حزينٌ أكثر مما يجب
وأغنياتي جامحةٌ وشرسة وخجولة
سأتمددُ على أولِ رصيفٍ أراه في أوربا
رافعاً ساقيَّ أمام المارة
لأريهم فلقات المدارس والمعتقلات
التي أوصلتني إلى هنا
ليس ما أحمله في جيوبي جواز سفر
وإنما تأريخ قهر
حيث خمسون عاماً ونحن نجترُّ العلفَ
والخطابات....
.. وسجائر اللفِّ
حيث نقف أمام المشانق
نتطلعُ إلى جثثنا الملولحة
ونصفقُ للحكّام
.. خوفاً على ملفات أهلنا المحفوظةِ في أقبية الأمن
حيث الوطن
يبدأ من خطاب الرئيس
.. وينتهي بخطاب الرئيس
مروراً بشوارع الرئيس، وأغاني الرئيس، ومتاحف الرئيس، ومكارم الرئيس، وأشجار الرئيس، ومعامل الرئيس، وصحف الرئيس، وإسطبل الرئيس، وغيوم الرئيس، ومعسكرات الرئيس، وتماثيل الرئيس، وأفران الرئيس، وأنواط الرئيس، ومحظيات الرئيس، ومدارس الرئيس، ومزارع الرئيس، وطقس الرئيس، وتوجيهات الرئيس....
ستحدّق طويلاً
في عينيّ المبتلتين بالمطر والبصاق
وتسألني من أي بلادٍ أنا...
* * *
نصوص مشاكسة قليلاً(*)

أبواب
أطرقُ باباً
أفتحهُ
لا أبصر إلا نفسي باباً
أفتحهُ
أدخلُ
لا شيء سوى بابٍ آخر
يا ربي
كمْ باباً يفصلني عني
* * *
شيزوفرينيا
في وطني
يجمعني الخوفُ ويقسمني:
رجلاً يكتبُ
والآخرَ - خلفَ ستائرِ نافذتي -
يرقبني
* * *
حيرة
قال أبي:
لا تقصصْ رؤياكَ على أحدٍ
فالشارعُ ملغومٌ بالآذانْ
كلُّ أذنٍ
يربطها سلكٌ سرّيٌ بالأخرى
حتى تصلَ السلطانْ
* * *
العراق
العراقُ الذي يبتعدْ
كلما اتسعتْ في المنافي خطاهْ
والعراقُ الذي يتئدْ
كلما انفتحتْ نصفُ نافذةٍ..
قلتُ: آهْ
والعراقُ الذي يرتعدْ
كلما مرَّ ظلٌّ
تخيلّتُ فوّهةً تترصدني،
أو متاهْ
والعراقُ الذي نفتقدْ
نصفُ تاريخه أغانٍ وكحلٌ..
ونصفٌ طغاهْ
* * *
الحلاج
أصعدني الحلاجُ إلى أعلى تلٍّ في بغداد
وأراني كلَّ مآذنها ومعابدها
وكنائسها ذات الأجراسْ
وأشار إلي:
- أحصِ...
كم دعوات حرّى
تتصاعد يومياً من أنفاسِ الناسْ
لكن لا أحدَ
حاولَ أن يصعدَ
في معناهُ إلى رؤياهُ
ليريهِ..
ما عاثَ طغاةُ الأرضِ
وما اشتطَّ الفقهاءُ
وما فعلَ الحراسْ
* * *
نقود الله
على رصيفِ شارعِ الحمراء
يعبرُ رجلُ الدين بمسبحتِهِ الطويلةِ
يعبرُ الصعلوكُ بأحلامِهِ الحافيةِ
يعبرُ السياسي مفخّخاً برأسِ المال
يعبرُ المثقف ضائعاً
بين ساهو وحي السلّم
الكلُ يمرُّ مسرعاً ولا يلتفتُ
للمتسولِ الأعمى
وحدهُ المطرُ ينقّطُ على راحتِهِ الممدودةِ
باتجاهِ الله
* * *
الحلاج، ثانيةً
مَنْ ينقذني من بلواي
ما في الجبةِ إلاّهُ
وما في الجبةِ إلاّيْ
وأنا الواحدُ
وهو الواحدُ
كيفَ اتحدا
كيف انفصلا
في لحظةِ سكرِ
بين شكوكي فيهِ
وتقواي
* * *
تهجدات
لم ترَ ربَكَ
إلا بالنصلِ وبالدمْ
وأنا أبصرهُ...
في الكلْمةِ
في النغمةِ
في زرقةِ عينيها،
واليمْ
*
آياتٌ
نسختْ
آياتْ
وتريدُ لرأسِكَ أن يبقى
جلموداً
لا يتغيرُ والسنواتْ
*
يا هذا الفانْ
ولتنظرْ
كيف تحاورََ ربُّكَ والشيطانْ
أكثيرٌ أن تتعلمَ
كيف تحاورُ انسانْ
*
لا ناقوسَ
ولا مئذنةٌ
- يا عبدُ -
لماذا
لا تسمع
ربَكَ
في
الناي
*
ربي
واحدْ
لا كاثوليكيٌّ
لا بروستانتيٌّ
لا سنيٌّ
لا شيعيٌّ
مَنْ جزّأهُ
مَنْ أوّلهُ
مَنْ قوّلهُ
من صنّفهُ
وفقَ مذاهبهِ،
ومطالبه
ودساتره
وعساكره
فهو الجاحدْ
*
خلفاءٌ أربعةٌ
تركوا التاريخ
وراءَهمُ
مفتوحَ الفمْ
وبقينا، للآن، ننشّفُ عنهم
بقعَ الدمْ
عجبي..
كيف لنصٍّ
أن يُشغلَ بامرأةٍ تحملُ أحطاباً
ويغضَّ الطرفَ
لمَنْ سيؤولُ
الحكمْ
* * *
تأويل
يـملونني سطوراً
ويبوبونني فصولاً
ثم يفهرسونني
ويطبعونني كاملاً
ويوزعونني على المكتباتِ
ويشتمونني في الجرائدِ
وأنا
لمْ
أفتحْ
فمي
بعد
* * *
ــــــــــ
(*) القصائد التي شارك فيها الشاعر مساء 16/4 في مهرجان المربد الثالث، الذي أقيم في مدينة البصرة للفترة 15-17 نيسان 2006، وتعرض على اثرها للتهديد بالقتل وقطع اللسان من قبل بعض الميلشيات الظلامية المسلحة، بتهمة التطاول على المقدس. وعلى إثرها غادر المهرجان، عابراً الحدود الصحراوية، متجهاً إلى الكويت ومنها إلى مقر اقامته في لندن..

بعض من سيرته:

• ولد الشاعر عدنان الصائغ في مدينة الكوفة، في العراق، عام 1955. عمل في الصحف والمجلات العراقية والعربية. غادر الوطن صيف 1993 نتيجة للمضايقات الفكرية والسياسية التي تعرض لها. وتنقل في بلدان عديدة، منها عمان وبيروت، حتى وصوله إلى السويد خريف 1996، واقامته فيها لسنوات عديدة، ثم ليستقر بعدها في لندن منذ منتصف 2004.
• عضو اتحاد الأدباء العراقيين. عضو اتحاد الأدباء العرب. عضو اتحاد الأدباء والكتاب السويديين. عضو نادي القلم الدولي في السويد.
• شارك في العديد من المهرجانات الشعرية، في انحاء كثيرة من العالم، مثل: العراق، السويد، هولندا، انكلترا، اليمن، لبنان، الدنمارك، النرويج، مصر، الكويت، قطر، السودان، الأردن، سوريا، وعُمان والإمارات وألمانيا، ايطاليا، كولومبيا.
• صدرت له المجموعات الشعرية: (انتظريني تحت نصب الحرية - بغداد 1984/ أغنيات على جسر الكوفة - بغداد 1986/ العصافير لا تحب الرصاص - بغداد 1986/ سماء في خوذة - ط1 بغداد 1988 ط2 القاهرة 1991 ط3 القاهرة 1996/ مرايا لشعرها الطويل - ط1 بغداد 1992 ط2 عمان - مدريد 2002/ غيمة الصمغ- ط1 بغداد 1993 ط2 دمشق 1994 ط3 القاهرة 2004/ تحت سماء غريبة - ط1 لندن 1994 ط2 بيروت 2002 ط3 القاهرة 2006/ تكوينات - بيروت 1996/ نشيد أوروك "قصيدة طويلة" - بيروت 1996 ط2 بيروت 2006/ تأبط منفى - ط1 السويد 2001 ط2 القاهرة 2006).
• صدرت له مختارات شعرية: "خرجتٌ من الحرب سهواً" القاهرة 1994/ "صراخ بحجم وطن" السويد 1998. ومجلد "الأعمال الشعرية" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت 2004 .
• صدرت له "تلك السنوات المرّة، والمنفى الآخر" شهادتان في الشعر والحرب والمنفى عن منشورات مجلة "تموز" - السويد 2006.
• تُرجمت مختارات من أشعاره إلى لغات عديدة: السويدية والإنجليزية والفرنسية والهولندية والايطالية والأسبانية والبولونية والإيرانية والكردية والالمانية والرومانية والنرويجية والدنماركية. وصدرت بعضها في كتب:
باللغة السويدية (ت: ستافان ويسلاندر Staffan Wieslander وبوديل جريك Bodil Greek - مالمو 2000). وبالهولندية (ت: ياكو شونهوفن Jaco Schoonhoven - روتردام 1997). وبالاسبانية (ت: دار الواح مدريد - 1997).
• أصدرت مجلة "ضفاف" في النمسا عددها الخاص (ع9 فبراير 2002)، عن تجربته تحت عنوان [الصائغ في مرايا الإبداع والنقد] بـ 274 صفحة، ضم 41 ناقداً وباحثاً وشاعراً من العراق والوطن العربي.
• نُوقشت في كلية التربية - جامعة بغداد عام 2006 أول رسالة ماجستير حول تجربة شاعر من جيل الثمانينات في العراق، حملت عنوان [شعر عدنان الصائغ دراسة اسلوبية]، قدمها الباحث والشاعر عارف الساعدي، ونال فيها شهادة الماجستير في الأدب الحديث، بدرجة امتياز.

• حصل على الجائزة الأولى في مسابقة الشعر الكبرى في العراق عام 1992 عن قصيدته "خرجتُ من الحرب سهواً".
• حصل على جائزة هيلمان هاميت العالمية HELLMAN HAMMETT للإبداع وحرية التعبير- عام 1996 في نيويورك.
• وعلى جائزة مهرجان الشعر العالميPOETRY INTERNATIONAL AWARD عام 1997 في روتردام.
• وعلى الجائزة السنوية لإتحاد الكتاب السويدين - فرع الجنوب Författarcentrum Syd، للعام 2005 في مالمو.

www.adnan.just.nu
adnan2000iraq@hotmail.com

 


صدر ضمن هذه السلسلة:

1- أحمد فؤاد نجم.. شاهد على الشعر
2- سعدي يوسف.. الشيوعي الأخير
3- نصير شمه.. أجنحة الموسيقى السبعة
4- شاكر لعيبي.. عزلة الحمل
5- منصف المزغني.. عصفور من حبر
6- قاسم حداد.. مجنون ليلى
7- عدنان الصائغ.. تأبط منفى
8- سميح القاسم.. الجانب المعتم من التفاحة، الجانب المضيء من القلب
9- ميسون صقر.. غربية على الخليج
10- صلاح الدين بوجاه.. النخاس

 

 

 
البحث Google Custom Search