أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الشاعر العراقي عدنان الصائغ: في مدينة مثل النجف.. لا بد أن يتلبسك الوجد الشعري

من الصعب أن يشير الشاعر إلى من يكتب

أجرى الحوار: عبد الحسين الخزاعي

"عدنان الصائغ شاعر مبدع يواصل مسيرته عبر حرائق الشعر ويغمس كلماته بدم القلب". هذا ما قاله عبد الوهاب البياتي، وعن نشيد أوروك يقول الشاعر شيركو بيكه س: "أنها قصيدة الفاجعة الجماعية في العراق. ضحايا ينشدون نشيدهم جماعياً أمام مرايا ملطخة بالدم. أنها قصيدة الكورال. تدفق لغوي، لغة متلاطمة الكلمات والصور على الدوام. كما وأن الشعر هنا يشبه سداً في بعض الصفحات إذ يخزن الماء بهدوء ومن ثم تُفتح البوابات لكي يتدفق خارجاً وبقوة ألف حصان شعري".
زار الشاعر مؤسسة الامام الخوئي الخيرية في لندن فاغتنمت الغدير هذه الفرصة فكان هذا اللقاء الممتع معه.

  • بداية تجربتكم الشعرية كانت مع الشعر العمودي ثم هجرتم هذا النوع من الشعر متوجهين إلى شعر النثر أو التفعيلة، ما هي الأسباب وراء ذلك ؟

  • في مدينة مثل النجف، ضاجة بالكتب والفقه والمساجد والتعازي والشعر والأضداد، لابد أن يتلبسك الوجد الشعري فتجد نفسك أما ناظماً أو حافظاً أو سامعاً له .. وقد دارت بي هذه الأفلاك الثلاثة منذ الصغر بعد أن ضاقت بي قوافيها وأشكالها، فألقت بي في براري النص المفتوح حرفاً منفلتاً أبحث عن سر الإبداع في شعلة بروموثيوس، مثلما ضاقت بي أسلاك الوطن ومقصات رقبائه الرسميين وغير الرسميين فهمت على أرصفة المنفى ناياً شريداً أبحث عن الحرية والجمال بعيداً عن الحروب والطبول.
    بدأتُ شاعراً عمودياً وأكملتُ أكثر من ديوانين قبل أن أكمل السابعة عشرة، لم أطبعهما وضاعا بين أوراقي وتنقلاتي عدا القليل من القصائد والمقطوعات ثبتها في بعض دواويني الأولى.. كثيراً ما أحنّ إليها ويطلبها بعض الأصدقاء.. وقد أخذ الفنان القدير طالب غالي واحدة من تلك القصائد ولحنها وقدمها في شريط جديد ضم قصائد الجواهري والسياب وسعدي يوسف وعبد الكريم كاصد وآخرين.. وقد أعادني اللحن مثل أعادني سؤالك الكريم إلى تلك البدايات المشحونة بوهج الروح والتحدي مستذكراً العديد من شعراء النجف الذين بدأتُ معهم تلك الترانيم الأولى ومسكوناًً برائحة تلك الأماسي التي كانت تضج بها الكوفة وبيوتاتها وشوارعها وأشجارها وجسرها ومقاهيها ومنتدياتها وفيها تعرفت على الشاعر الشهيد علي الرماحي وبدأنا معاً رحلة الكتابة والمراسلات الشعرية التي كانت محط أهتمام وحفظ وتداول أصدقائنا الآخرين حتى أمتلأت أدراجنا وأدارج الأصدقاء بالقصائد العمودية التي كنا نشاكس بها الآخرين أو نشاكس بها بعضنا البعض حينما لا نجد أمامنا من نصب عليه وابل ابياتنا النارية .
    وأتذكر الآن تلك الأمسيات التي كنا نلتقي فيها في مقهى قرب مسجد الكوفة ونروح نخمّس القصائد أو نتسابق في المطاردات الشعرية أو نهجو من نشاء وكان ثمة مخبر بسيط (يرحمه الله ) يراقبنا ويسمعنا عن كثب ثم يهرع إلى دائرته ويختفي .. وكان علي يطلق قهقهاته العالية وراءه، ثم نروح ننشد قصيدة السياب عن المخبر، حتى أصبحت القصيدة شفرتنا كلما حضر هو أو غيره ..
    أقول عن ذلك المخبر يرحمه الله لأنه لم يكن مؤذياً، قياساً لما رأينا بعده من مخبرين بأشكال ولبوس شتى. وقد سمعت أنه مات قبل سنوات.
    في تلك الفترة تعرفتُ أيضاً على الصديق الشاعر محمد حسين، ومحمد سعيد الطريحي ومنه إلى مجلة "العدل" التي نشرنا فيها: الرماحي وأنا شيئاً من قصائدنا. وقادتني مجلة الموعظة للتعرف على الباحث الموسوعي كامل سلمان الجبوري . ثم وجدتني في ندوة الأدب المعاصر أتعرف على الشيخ عبد الصاحب البرقعاوي الذي كان وعلى غياث البحراني ومشتاق شير علي والجابري ومنعم القرشي وآخرين. وفي أحدى الأمسيات التي كنتُ اقرأ فيها وجدتُ نفسي وجهاً لوجه أمام الشاعر عبد الأمير الحصيري، أرتبكتُ في قراءتي لكنني سرعان ما تمالكتُ نفسي وبدأتُ أتصاعد في إلقائي حتى إذا أنتهيتُ وجدته يتقدم لي ويشد على يدي ويقول كلاماً مشجعاً لن أنساه أبداً .. في تلك الأجواء ورغم الحفاوة التي لقيتها قصائدي العمودية هنا وهناك بدأت روحي تتململ على حدود الشكل الشعري، لكن إلى أين أمضي؟ لم أكن أعرف..
    في أتون الحرب العراقية الايرانية المستعرة التي كانت تأكل أيامنا أحسستُ بأن قضبان الشعر العمودي بدأت تتكسر أمام هيجان روحي وشراسة الواقع لأخرج منفلتاً إلى الشعر الحر، الذي وجدته مطواعاً للتعبير عن مكنونات أرواحاً المعذبة على هذه الأرض الدامية، فكتبتُ الكثير الذي شكل أغلب دواويني. وفي بداية التسعينات أحسستُ أن للقصيدة الحرة قيوداً أخرى تكبل بعضاً من سورة الروح، فحاولت الخروج منها إلى فضاءات النص المفتوح بديوان "تكوينات" وآخر جديد لم يصدر بعد أسميته "تأبط منفى". لكن السؤال الذي يؤرقنا دائماً: هل هذه الأشكال نهائية؟  وحتى المدارس الفنية هل هي تهائية؟ بالنسبة لي لا أرى ولا أعتقد ذلك أبداً .. فلا حدود عندي للنص الإبداعي فكثيراً ما أترك للكتابة نفسها أن تأخذني إلى الشكل الذي تختاره نثراً أم حراً أم عمودياً ، بمعنى أنني لستُ أنا الذي أختار الشكل أو الوزن أو المدرسة الفنية وأنما الحالة الكتابية هي التي تفرض شروطها وتحدد مسارها ولغتها وإيقاعها..

  • بمن تأثرتم من شعراء هذه المدرسة الحديثة ؟

  • لم أتأثر بشاعر معين فالقصيدة المبدعة أو البيت الجميل الذي يدهشني يأخذ بتلابيبي إلى مملكته السحرية ولا يفكني من أسره إلا إلى بيت جميل آخر أو أجمل، سواء كان قديماً أو حديثاً، عمودياً أم حراً أم نثراً، شرقاً أو غرباً ..
    هناك شعراء يدهشونك في مرحلة معينة من العمر ثم ينطفئون أو ينطفيء أعجابك بهم، وآخرون يظلون متوهجين بابداعهم على مدى العصور والأمكنة.
    هذه الجذوة هي سر الإبداع الخالد الذي نراه اليوم مبثوثاً في أحجار الأهرامات التي قاومت عواصف الزمن والحروب والنسيان، مثلما نراه في قصائد المتنبي، ونراها في لوحات دافنشي وفان كوخ ومثلما نراها في شطحات النفري و سونيتات شكسبير ومواحع السياب ، والخ والخ.
    كثيرون يا صديقي هم الشعراء الذي أحبتهم وتأثرت بهم منذ بداياتي وحتى الآن.
    عراقياً : أشيد إلى السياب والبياتي وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وفاضل العزاوي وسركون بولص وعبد الكريم كاصد وزاهر الجيزاني وكزار حنتوش وجواد الحطاب وهاشم شفيق وعبد الرزاق الربيعي ودنيا ميخائيل وكزار حنتوش وطالب عبد العزيز وداليا بكري وفليحة حسن وآخرين.
    عربياً: أدونيس والماغوط وأنسي الحاج وأمل دنقل، والخ
    وعالمياً: سان جون بيرس وأليوت وأراغون وأيلوار ووالت وأيتمن ولوركا ومايكوفسكي وهلدريلن والخ.
    قديماً: دعبل بن علي الخزاعي، المتنبي، النفري، امرؤ القيس، والحلاج أبو تمام والخ.

  • لكل كاتب أو شاعر طقوس خاصة يبدع فيها، ما هي الطقوس الخاصة بعدنان الصائغ ؟

  • لا أحب الكتابة الشعرية على طاولة وكرسي. فأغلب القصائد التي كتبتها (وحتى نشيد أوروك) على قصاصات صغيرة أجمعها ثم أنقحها وأتلفها فيما بعد ..
    أحب الكتابة أمام زجاج النوافذ في المقاهي أو الباصات أو الغرف.
    أما زمن الكتابة فكل الأوقات بالنسبة لي تصلح للكتابة وكذلك كل الأجواء: في صخب الأصدقاء أو زحام المدينة، أو في هدوء غابة أو ركن منعزل في مقهى أو بين رفوف مكتبة ..
    في الكتابة النثرية الأمر مختلف، فأنا أحتاج إلى جلسة هي أقرب إلى جلسة عمل، أكتب وأنقح وأشطب. حالياً أميل إلى عمل كل ذلك في جهاز الكومبيوتر، مروضاً الكتابة لشطي وطقسي وعاداتي .. أما الشعر فلم أستطع أن أروّضه، بل هو الذي يملي عليّ شروطه ويجرني من رباط عنقي إليه .. ومثلما لاطقس معين في عملية الكتابة الشعرية .. لا وقت أيضاً ولا موسيقى معينة أيضاً. أحياناً أكتب في الليل أو في آخر ساعات الليل وأحياناً في النهار، النهار الباكر وأحياناً بينهما .. كذلك أجلس أحياناً مع موسيقى وزرات أو باخ وأحياناً مع أغاني صديقة الملاية أو كاظم الساهر أو أم كلثوم، أحياناً تجلسني القصيدة معها ساعات طويلة، وأحياناً تمل وتضجر، فتتركني وتنسحبُ ..
    أحياناً وأنا أقرأ تسحبني القصيدة من دفتي الكتاب أو تلف ذراعها الشفيف حول عنقي وأنا بين الناس لتتركني فاغراً فاهي حيرة ودهشة وترقباً ..

  • لمن تكتب ؟

  • أكتب لنفسي وللناس وللأرصفة والعالم وللزمن اللامرأي في آن واحد. أنها الكتابة، ذلك التأريخ السري لخلجات الإنسان والعصر معاً، وهي بالتالي تحمل كل هذا وتعنيه أيضاً .. ولأنها هكذا فمن الصعب أن يشير الشاعر إلى من يكتب، لأنه عندما يكون في ملكوت الكتابة يكون مشغولاً ومشغوفاً بهاجس الكتابة أكثر بكثير من عنايته بمعرفة لمن يكتب ولمن يتوجه ومن هو متلقيه. لقد أنتهت – برأي - تلك الطروحات التي أكلت الكثير من عمر الأبداع. وتلك التنظيرات التي كانت تهزج بالأدب الثوري والأدب الملتزم، ذلك أن الكتابة الإبداعية – بحد ذاتها – هي ثورة جمالية ضد القبح والظلم ، والكتابة الرديئة هي تواطيء وتدليس وهذا يقترب من قول ماركيز: أن واجب الكاتب الثوري هو أن يكتب جيداً. متطابقاً من منظور آخر مع مقولة سارتر : اينما يكون الظلم فنحن الكتاب مسؤولون عنه.
    فقد أنتهى زمن القصائد الحماسية، دينيةً كانت أم وطنية أم سياسية. والكتابة الرديئة هي ضد القيم التي تنادي بها وفي هذا الصدد نرى محمود درويش يقول: "أن كتابة قصيدة رديئة عن فلسطين هي اساءة لفلسطين". من كل هذا أرى أن الكتابة الجديدة لم تعد شعاراً براقاً أو وصية أو تحشيد، أو تذوق جمالي صرف بل هي كل هذا وأكثر .. فهي الحاضنة لكل اختلاجات البشرية على مر التأريخ.

  • أين تضع السياسة في هرم حياتك اليومية ؟

  • رغم أنني لست منتمياً لأي حزب سياسي، إلا أنني أجد نفسي محكوماً بهذا المفهوم الذي أصبح القاسم المشترك لكل حياة الشعوب وهي وتكافح من أجل حريتها وجزها وكرامتها .. وفي بلدي حيث لا صوت إلا لصوت الحزب الواحد، ظل الناس المستقلون ( وهم كثر) يرون أبعد ويحللون أعمق ويكتمون في دواخلها مفاهيم سياسية أكثر نضوجاً وثوريةً ووطنيةً مما نراه اليوم حيث أصبحت السياسة لدى البعض تجارة يتنقلون بها من هذا الدكان إلى ذاك المزاد يشترون ويبيعون وفقاً للعرض والطلب .. فاختلط المشهد ( وهذا ما يسعى اليه النظام والقوى الإمبريالية معاً) تحت سحب الغبار والتشويش التي طالت الوطن والناس والتأريخ. حتى أصبحت هذه الكلمة الثورية المحببة: السياسة أو المعارضة وكأنها تهمة يحاول البعض أن يتجنبها. نعم السياسة هي روح العصر شريطة أن ترتبط بالهم الوطني الخالص وليس لإأسترزاق والمكاسب ..
    ومن هذا المفهوم تغدو العملية السياسة متلاصقة ومتداخلة مع عملية الكتابة في كل ما يكتبه المبدع حتى وأن كان يتحدث عن حبيته ولي قصيدة تقترب من هذا المفهوم: " قلت أني أحبك حتى الـ .. فقاطعني الشرطي إلى حافة الوردة التالية".  وأتذكر مرة في عمان أواخر عام 1993  كنتُ أعمل في صحيفة " آخر خبر " الأردنية وكان أمامي صورة لحصان فاطس ملقى على الرصيف وكان علي أن أكتب تعليقاً ضمن صفحة مخصصة لصورة العدد والتعليق عليها، فكتبت كلاماً عن الحصان .. بعد يومين أتصلت السفارة العراقية في عمان تحتج على ما كتبته وحينما أبدى رئيس التحرير اندهاشه واستغرابه قالوا له أن كاتب المقال أو التعليق كان يقصد الإساءة إلى "السيد الرئيس" ..
    أنا نفسي ازددت استغراباً أيضاً، فلم يكن في نيتي أن أشتم أحداً وأنما أن أكتب عن هذا الحصان الفاطس الملقى على الأرض وسط كومة الذباب. لكن يبدو أن قلمي قادني دون أدراك مني إلى كلام أزعج رجال الأمبراطور. وإذا أخذنا مقولة جورج اورل أن الأنسان كائن سياسي، فهي تشخيص يجد صداه أكثر لدينا نحن الشعوب المبتلاة بالدكتاتوريات.. وأذكر انني اشتركت عام 1997 في مهرجان أيام الشعر العالمية في مالمو حيث ألقيت قصيدة عن الجندي الذي اصبحت لحيته حديقة، وألقى الشاعر الهولندي ياب  بلونك Jaap Blonk قصيدة "الوزير لا يحب هذا الكلام" بشكل فنطازي أضحك الجميع، وعاد الى بلاده آمناً محفوفاً بالحمائم.. ترى ماذا يحدث لنا لو تفوهنا بربع كلامه وعدنا إلى بلادنا.

  • كيف تقيم الأدب في الداخل خلال سنوات الحرب، والمهرجانات التي كانت تقام هناك؟

  • ذات مربد وقف شاعر عربي كبير نحبه حد الهوس، على قاعة مسرح الرشيد في مهرجان المربد مخاطباً وزير الثقافة والأعلام لطيف نصيف جاسم بـ" وزير الشعراء". كثير من الشعراء والمثقفين العرب وحتى الأجانب كانوا يفعلون ويقولون مثل ذلك عنه وعن سيده أكثر، حتى أن شاعراً عربياً من الدرجة العاشرة كتب قصيدة عن الفاو فأمر الرئيس بأن يكتب منها بيتان بماء الذهب.. كنا نتعجب لماذا يقول البعض مثل هذا الكلام ولماذا يمجدون الحرب ومشعلوها ويأتون وفوداً الى جبهات القتال لزيارتنا، فإذا كنا مجبرين كجنود على المكوث في السواتر فلماذا يفعلون ذلك؟.. كنا نتسلل من الجبهات بطين بساطيلنا وأحزاننا الكاكية السرية الى مهرجان المربد، لكي نرى الأسماء الكبيرة ونلتقي بها ، ونحاول مع الصحف والأجيال الشعرية الأخرى أن نوصل نصوصنا ونتواصل. (يذكر الشاعر الجزائري عياش يحياوي في أحدى الصحف الجزائرية التي تسللت إلينا قصاصتها منتصف الثمانينات: "لقد طوفت كثيراً والتقيت بأبرز الشعراء العرب في عواصم مختلفة ولكن لم يبق في ذاكرتي غير ألق الشعر في العراق وغير كبرياء النخلة العراقية لقد زرت الموصل معهد شعر أبي تمام والكوفة والنجف وكربلاء مسرح الفاجعة وسر من رأى وقصر المتوكل والبصرة مدينة الحسن البصري والأشعري.. سلخت من عمري أيام قصار رغم طولها تمثل خمس رحلات وفيها تعرفت على مقامات الشعر العراقي وأنديته، على حزن السياب مرتفعاً بمثاله الإبداعي وعلى عدنان الصائغ الدرويش الذي قال عنه كبار الشعراء والنقاد ما يمثل موهبته بالندرة والاختراق والإنفلات من طابور النصوص الشعرية المعتادة على أرصفة الصحف، ويوم كنا نركب الحافلة مع الوفود في اتجاه مقام الجندي المجهول طلب مني أن أقرأ له الجديد من شعري، أذكر أني قرأت له مطلعاً من قصيدتي "النمل والنسيان" فراح يرتفع وينزل على الكرسي كالطفل الحالم المجنون وهو يطلب ممن يجاوروننا الاستماع إلى هذه القصيدة. ولقد كنت حزيناً دائماً لأن عدنان الصائغ وأمثاله من الشعراء في العراق لا يشاركون في المربد الشعري. أنه يحاول بث روح أخرى في نص القصيدة، روح عمادها تكثيف الموقف الشعري والغرف من نهر الحياة العادي وخطف المفردات وهي تعبر كالبرق في سماء التجربة وتوظيفها لتمارس طقوسها الجنونية المتجددة أنه مولع بالمنسي والهامشي في حياة الناس إنطلاقاً من زخم تجاربه الذاتية. وأحدثكم عن شاعر آخر أنبل ما فيه أنه ما زال مرتبكاً مثل طفل مذنب خصوصاً إذا أطيل النظر إليه، أنه عبد الرزاق الربيعي، منذ أول يوم رأيته أحسست أن هذا الفتى النحيل سيشتعل عوده بالشعر لأني رأيت فتيل الشعر أكثر الأنساغ اتقاداً في سيمائه وسلوكه. طالما حدثني ونحن في غرفة الفندق أو ردهاته عن أحزانه وخصوصياته أنه يحلم بالطيران وكأي فنان يكره الموت والرصاص والدمار والأيديولوجيا".. لكن بحجم فرحتنا بالمقالة تعرضنا لمضيقات واستفسارات شتى، بسببها. ( بعدها بسنة أو سنتين سيدعونني للمربد لأقرأ شهادة شعرية "يوميات من مفكرة القنابل" تعرضت للكثير من القص. وأقرأ - على مسرح الرشيد - أقصر قصيدة في تاريخ المربد كله. أقول فيها: "دخل الشعراء "الـ …" الى القاعة / واكتظ الحفل / لكن الشعر غريباً ظل أمام الباب / بملابسه الرثة يمنعه البواب" وهي منشورة في ديواني "سماء في خوذة" بغداد 1988) وأذكر أن الصديق الشهيد القاص حاكم محمد حسن كان هارباً من الخدمة العسكرية لكنه كان يحضر المربد وجلسات الأدباء في الفندق، وركب مرة قطار المهرجان إلى البصرة وهو يضحك هامساً لنا بأن مفارز الإنضباط العسكري لن تفتش القطار فلا أحد يصدق أن بين هؤلاء الشعراء "جندياً أفراراً "..  بعد شهور ألقي القبض عليه، وأعدم. وعبثاً ذهبت رسالة الاسترحام التي وقعها أدباء كثيرون( منهم بعض أدباء السلطة المعروفين)  إلى وزير الثقافة والإعلام عن طريق مدير مكتب إعلامه النقيب القاص علي خيون. وقد ألتقيت أخ الشهيد في عمان وحدثني عن تفاصيل إعدامه المروعة. أعود فأقول كنا نعيش انفصاماً بين دوي قصائد المديح ودوي قذائف الحرب وبينهما لا نستطيع البوح أو التعبير. لكن للحقيقة يمكن القول كانت هناك بعض الأسماء والنصوص المشاركة في المهرجانات، تشع بإبداعاتها المشرقة وإسهاماتها المغايرة وسط الدوي والتصفيق والدخان والتهريج.

  • ألم يشكل الإعلام رأياً عاماً للتشجيع على الحرب وتمجيدها ؟

  • لا.. ولا الخطابات ولا الأوسمة ولا المكارم ولا الطبول ولا المهرجانات ولا.. ولا غيرها استطاعت أن تقنع العراقيين بشرعية الحرب وضرورتها وجدواها، ولم تشكل رأياً عاماً معها، وقديما قال الشاعر الجاهلي : " وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتموا وما هو عنها بالحديث المرجّمِ " وقد أنشدت الجماهير في ظلام ليلها الطويل بعد قصف الطائرات لمحطات الكهرباء أثناء حرب الخليج الثانية هذه الاهزوجة التي تختصر الكثير: "من صاروخ العابد للفانوس أسمع يالقائد ". لكن يمكن القول أن الحرب شكلت لدى البعض القليل، القليل جداً من المستفيدين والموهومين – عرباً وعراقيين- رأياً بضرورتها أو حتميتها " التأريخية" وهذه الشريحة موجودة في كل زمان ومكان، لكنها لا تمثل الشعب الذي تحمل وذاق مرارتها، أبداً بأي حال من الأحوال. سواء في حرب الخليج الأولى أو الثانية، أو في حروب الشمال. وإلاّ لماذا ملأوا الشوارع والجبهات بنقاط التفتيش ولجان الإعدام للجنود الهاربين من الحرب.
    لقد أفرزت تلك الفترة أكداساً من أدب الحرب يمكن أن تملأ شاحنات وقطارات لكن ما يصل منه الى محطة الإبداع والأصالة والصدق والتميز قليل ، وقليل جداً. وهذا القليل الجيد يجب أن يشار له.

  • بماذا تعرف: الوطن، الغربة، الذكرى، الجواهري، البياتي، الكوفة ؟

  • للوطن أقول : لي بظل النخيل بلاد مسورة بالبنادق كيف الوصول إليها وقد عد الدرب ما بيننا والعتاب. أنها محنة بعد عشرين أن تبصر الجسر غير الذي قد عبرت، السماوات غير السماوات والناس مسكونة بالغياب
    وللغربة أقول: أيهاذا الغريب الذي لم يجد ولحظة مبهجة كيف تغدو المنافي سجوناً بلا أسيجة
    الذكرى: الى م تطاردني الهي ، الى م سأبقى أجوب وأبكي العراقا
    والجواهري: أعيد أبياته دائماً: يادجلة الخير..
    وللبياتي: هكذا تبدأ المسألة. شاعرٌ يرتقي الجلجلة
    والكوفة: كل صباح أفتح نافذتي وأتطلع إلى البعيد البعيد فأراها أمامي بشوارعها ومكتباتها وأناسها وجسرها . واليها كتبتُ ديوانيً عام  1986سميته "أغنيات على جسر الكوفة" .واليوم أقول في ديواني الجديد الذي لم يصدر بعد: على جسر مالمو .. رأيتُ الفرات يمد يد ويأخذني قلتُ أين ولم أكمل الحلم حتى رأيت جيوش أمية من كل صوب تطوقني.

  • ربطتك مع الشاعر علي الرماحي ذكريات ورحلة طويلة انتهت به الى الأستشهاد وأنتهت بك إلى المنفى، هل لك ان  تصف لنا ذلك ؟

  • مازال علي الرماحي يعيش معي ويحثني على أستكمال مشروعه الذي لم يستطع القتلة أنهاءه فصوته مازال يتردد في حارات الوطن وأصقاع العالم من استراليا إلى أوربا ومن بيروت إلى اليمن، حاداً غاضباً ملعلعاً..
    لقد أخذوه ذات صبيحة سوداء من عام 79 حيث وقفت سيارة لاندكروز أمام دائرة الزراعة في خان النص التي كان يعمل فيها مهندساً زراعياً، هرعتُ لبيتهم قرب معمل أحذية باتا على أطراف الكوفة، لأجد أباه مرتعشاً من الخوف ، أصفر الوجه وهو يشير لي بحذر ورعب أن أبتعد فوراً عن البيت والمنطقة فقد وصلوا مبكرين ونبشوا كل أوراقه وكتبه.
    كان علي صوتاً دافقاً صافياً لايعرف المهادنة وظلت قصائده تتردد على المنابر والمجالس الحسينية وتتناسل حتى اخترقت حدود الوطن والزمن..
    علاقتي بعلي الرماحي تمتد طويلاً وعميقاً في الروح ..
    فقد بدأنا معاً تجاربنا الأولى ، وكان يعد بالكثير الكثير، لكنهم عاجلوه على حين غرة .. فمضى تاركاً لنا تراثاً ضخماً – رغم قصر فترة حياته – سيظل أبداً تردده وتحفضه الأجيال أدباً شفاهياً ومكتوباًعصياً على النسيان ..

  • ما هو جديد الصائغ ؟

  • أنجزت قبل أيام ديواني "تأبط منفى" ويضم القصائد الجديد التي كتبتها في السنوات الأخيرة وهو جاهز للطبع.
    كما لا أزال منهمكاً بأنجاز كتاب "أشتراطات النص الجديد" وفيه رؤية للكتابة الجديدة والنص المفتوح .


    نشر في مجلة الغدير – لندن / العدد 28 – آب 2000

     
    البحث Google Custom Search