أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الكتابة الإبداعية في الداخل
مشيٌ في حقول الألغام

(1-2)
عن التجربة الابداعية
والحرب والمنفى..

حوار مع الشاعر عدنان الصائغ
تقديم وحوار داوود أمين

".. رأيتُ بلادي تنهشها الطائراتُ
صرختُ: بلادي
فقصَّ الرقيبُ الحروفَ الأخيرةَ
معتذراً بالدخانِ الذي يحجبُ الأفقَ، واللافتاتِ
صرختُ: بـ…… لا...
........
خسرنا البلادَ          
          خسرنا الأغاني
ورحنا نجوبُ المنافي البعيدةَ
             نستجديَ العابرين
ولي، في الرصافةِ
نخلٌ وأهلٌ
ولكنهم ضيّعوا
               - في الهتافاتِ –
                         صوتَ المغني"


"نشيد أوروك" القصيدة - الديوان، الذي طمأنني أن العراق لا زال وسيظل وطناً للشعر والشعراء، رغم قسوة الواقع، ونذالة الفاشية، هذا الديوان، كان مفتاح بهجتي التي لا تزال ممتدة منذ لحظة قراءته مع شعر عدنان، ومع عدنان نفسه، فهذه القصيدة الاستثنائية، كشفت بوضوح عن موهبة نادرة لشاعر عراقي كنا نجهله نحن الذين نعيش في الخارج!
حين التقيتُ عدنان الصائغ أول مرة.. رأيت عراقياً غايةفي التواضع ودماثة الخلق.. ومع الأيام نمت بيننا مودة وصداقة حقيقية لا تزال تزدهر. وفي لقاءاتنا كنتُ أدرك عمق حزنه وعتبه، بسبب لا معقولية ما تعرض له قبل بضع سنوات، وما لا تزال بعض آثاره باقية لحد الأن!
كانت رغبتي، في اجراء مقابلة مع عدنان، وخوض كل التفاصيل معه، رغبة في استكشاف الحقيقة رغم كل الغبار. رغبة من يساند مبدعاً أُثيرت حوله زوبعة من البيانات والاتهامات والشتائم، ويدرك أنه بريء. كما كانت أيضاً مني، موقفاً واعياً، إزاء مثقف عراقي مرموق يتعرض لارهاب لا منطقي، وغير مقبول.
لذلك، كان عدنان، مثل طير، ينزف، وهو يتحدث، امام الكاميرا التي وضعتها أمامه
كان يتحدث بلسانه ويديه وعينيه، وقسمات وجهه، وكان ينتبه أحياناً فيعتذر لانفعاله، لكن ما لقيه هذا الشاعر العراقي الكبير، يستحق أكثر من مثل هذا الانفعال، فقد تعرض لحملة ارهاب فكري، وقفت السلطة ورموزها واجهزتها، وراء تغذيتها واشاعتها، وتحرك بعضنا – بجهل وربما بدون جهل – لتمريرها والمساهمة في توسيعها!!
كانت مشاريع أسئلتي بين يدي الصائغ، لكنه كان يغدو ويروح حول الموضوع الغريب والمرير، الذي ظل يشغله وهو: لماذا هذه الحملة؟ ولماذا يساهم فيها بعض دعاة التقدم، والمحسوبين على اليسار العراقي والعربي؟
وكنت مثله، ولا أزال أشاطره هذا الاستغراب. الذي لا أعرف له تبريراً!!
وهكذا كان هذا الحوار:

  • لنستهل حديثنا بالبدايات ، كيف كانت، وما هي المصادر المعرفية التي ساهمت في تكوينك؟

  • - كيف يمكن لشاعر بعد ثلث قرن من الشظايا والشظف والكتب والأرصفة والهلع والغربة أن يتحدث عن البدايات. إذاً، ومن أين  أبدأ؟ من الألم؟ أم من الكتب؟ من طفولة أحلامي الأولى؟ أم من بيتنا النحيل على شط الكوفة، بيتنا الذي سرقته ديون أبي وطيبته ومرضه؟ هل أتحدث عن دعبل بن علي الخزاعي أول ديوان اشتريته في صباي، أم عن مكتبات الكوفة والنجف وسوق السراي التي كنت التهمها رفاَ، رفاً.
    البدايات تتداخل الآن في ذاكرتي، لكن دموع أمي أمام قصيدتي الأولى التي كتبتها عن أبي الراقد في مستشفى الكوفة - وهي تتلألأ أمامي الآن رغم مرور كل تلك السنوات - كانت هي الشهادة الأولى والمصدر المعرفي الأول الذي علمني أن الألم (التجربة)، والقصيدة توأمان. فمن تلك الدموع بدأت رحلة القصيدة عبر شوارع الطفولة واليتم ودخان الحروب ومن ثم إلى صقيع المنفى.
    كنت أرقب أمي طويلاً وهي تخيط الثياب بأجر زهيد أو تتلو القرآن.
    تلك التراتيل أعطتني دفق اللحن السماوي وعلمتني التصاعد مع النغم والذوبان فيه.
    والخياطة علمتني مهارة "اللظم" ربما، والاقتصاد بالنظم.
    وأعود إلى المصادر المعرفية الأخرى. وسأشير قبل كل شيء إلى الحياة نفسها ومن ثم أشير الى الكتب. هل كانا متلازمين في تلك الرحلة أيضاً؟ نعم. وإلا كيف يمكنني الآن أن أفصل عملي: بائع سجائر وبوظا ورقي وندافاً، وعامل مقهى وعامل بناء. كيف أفصل ذلك عن شغفي الأول بالمتنبي وحماسة أبي تمام، وايلوار وأراغون وأغاني أبي الفرج الأصفهاني وأبن المقفع وزكريا تامر ومحمد خضير وكافكا وتولستوي والجواهري، ومعهم روايات عنترة وأرسين لوبين وشرلوك هولمز والسندباد البحري.
    وكيف أفصل سنوات الحرب وهلوسات مستشفى البصرة العسكري- قسم الأمراض النفسية (الذي دخلته مرافقاً لأخي) عن محمد الماغوط والسياب والبياتي وعبد الرحمن منيف وسعدي يوسف، وأخي ممدد أمامي زائغ العينيين. ومن ثم تنقلي بين الثكنات والسواتر والمهرجانات والقصائد والألغام وصولاً إلى إسطبل مهجور عشت فيه عاماً ونصف، ثم إلى عملي في الصحافة وهموم القصيدة في كل معتركاتها.
    كيف أفصلها الآن عن سنوات الشتات في أصقاع المنافي. أو أفصلها عن التنوع الفنطازي في القراءات والأحلام والتجارب والإنكسارات. كل ذلك شكل الإطار العام للبدايات وربما سيمتد للنهايات أيضاً – لا فرق - ومنه يمكن التفرع إلى ذكرياتٍ وأيام حلوة ومرة لا تُنسى: علي الرماحي صديق الصبا والشعر والتحدي، ومنها إلى حميد الزيدي الذي أعدم لمحاولته التسلل خارج الوطن، وعبد الحي النفاخ الذي جُن من القراءة والتعذيب، ومنها إلى شاعر معمم نخره الفقر والكآبة هو الشيخ عبد الصاحب البرقعاوي وندوة الأدب المعاصر التي تعلمت منها الكثير وتعرفت من خلالها على شعراء النجف وأدبائها: عبد الأمير الحصيري، مشتاق شير علي، محمد سعيد ومحمد حسين الطريحي، كامل سلمان الجبوري، محمد عباس الدراجي، غياث البحراني، منعم القرشي، ومحي الدين الجابري، وآخرين..
    وكانت  الكتب حديثنا من مبتداه إلى منتهاه.
    هل كانت الرحلة مضنية؟
    نعم.
    هل كانت ممتعة؟
    نعم.
    إنها كل هذا وذاك من صور الحياة نفسها والكتب نفسها والأصدقاء أنفسهم.

  • قصيدتك مرآة لنبض الشارع. تستوحي فيها الفكرة والصورة من معترك الحياة، كيف هي الآن وأنت تحمل صليباً وتتأبط منفى ؟

  • - أنا شاعر قصيدة يومية، تميل إلى الواقعية السحرية. أعنى بتفاصيل الحياة وأنشغل بها وأشتغل عليها، لهذا لم أستطع القفز على الواقع الذي عشناه، غصناً غصناً، وشظية شظية. وعلى هذا الشكل أفهم الحداثة تعبيراً سحرياً عن الواقع، التصاقاً به وانفلاتاً منه. مأخوذاً بضراوة المفارقة وروحها الحية كنسغ جديد في التعبير.
    بعض الأدباء مروا بالوطن بالطفولة بالحرب بالمرأة، بحصاراتنا المتكررة، ولم يلتفتوا إليها، لا في الداخل عندما كانوا هناك، ولا في الخارج أيضاً، بل وأنت تقرأ قصائدهم لا تعرف إن كان كاتبها فيليبنياً أم أرجنتينياً أم هولندياً أم سويدياً. ورغم إيماني بأن لكل شاعر في الوجود رؤيته الفنية في الكتابة وتجربته في الحياة.. لكنني أتحدث عن صدق النفس والنص..
    وتعال لنر أية أكاذيب يفرضها البعض علينا بالتنظير والتزوير وعلينا أن نصدقهم، وأية ازدواجية تحملها بعض هذه التجارب. ففي سنوات الحرب، وكان الدم يغطي حتى شراشف نومنا، كانوا يتحدثون عن الهيولى والحوذي وزهرة الغاردينيا باسم الحداثة، ولا بأس في ذلك، ربما تهرباً من موضوعة الحرب الكريهة ومن طبولها وإعلامها المفروض. وفي الانتفاضة مرت دبابات الحرس على مدننا وسحقتها سحقاً وقد رأيتُ ورأوا بأم أعينهم أكوام الجثث المحترقة والاغتصابات والاعدامات الجماعية.. وخرجنا جميعاً من الوطن، فماذا كتبوا؟
    لقد ظل هذا البعض ملتصقاً حتى هذه الساعة بالحوذي والبجع، وأضافوا إليها فتاة الحانة الشقراء لكي يكتمل المشهد..
    أنا لا أفهم حتى هذه الساعة كيف يمكن لشاعر سحقت الدبابات وطنه أن يترك كل شيء ولا يتحدث إلاّ عن الحوذي والبجع طيلة حياته.
    وتعجب لماذا لا يخرج إلى شوارع المنفى لاطماً، كما عبر أحد الكتاب.وهذا يقترب من عجب أبي ذر الغفاري في صرخته الشهيرة: عجبت لمن لا يجد قوته كيف لا يخرج بين الناس شاهراً سيفه.
    رغم اختلاف الزمان والمكان والحالة والأداة والتعبير.

  • أنت شاعر أمتلك أدواته الإبداعية في زمن كانت الحرب تطحن فيه البلاد والعباد، فجاءت من مفرداتها عناوين دواوينك وقصائدك: (العصافير لا تحب الرصاص، سماء في خوذة، خرجت من الحرب سهواً، وغيرها) حادة ومشاكسة. كيف تنظر لتجربتك في تلك الفترة؟

  • - تفتحت عيون قصائدي على حربين شرستين: الأولى طويلة فجة مريرة طاحنة، والأخرى كارثية، ومعهما حصارات متواصلة ومتنوعة، وجدتُ فيها وطني الجميل وقد تحول إلى كومة أنقاض ومراكز لاستلام الشهداء وخوذ وظلام لا ينتهي، ووجدت نفسي فيها جندياً سريالياً "أفتّشُ بين القنابل والصبرِ عما تبقى من العمر والأصدقاء" كما عبرتُ عن ذلك في ديواني "غيمة الصمغ" 1993، أو "أبحث عن موضع آمن، وقد أظلّم الأفقُ وأسود وجه الزمان" كما عبرت في ديواني "سماء في خوذة" 1988. كانت أمامنا جثث أصدقائنا الجنود منفوخة في الأرض الحرام. وخلفنا مفارز الإعدام والانضباط العسكري والجيش الشعبي ومفارز أخرى وأخرى. فأي خيار لنا أمام هكذا موتين؟ وماذا يمكن القول أمام هذا المشهد؟ ماذا أكتب؟ وكيف يمكنني أن أكون: شاعر غزل؟ ( كما تتشهى فورات شبابنا المكبوتة). أم شاعر مديح؟ ( كما تريد السلطة). هل نصمت وننقطع عن الكتابة والنشر؟ ( كما يقترح علينا أحد الأدباء على صفحات جريدة "المجرشة"؟ (لكن كم سيطول جرشنا هناك؟ وكيف؟). أم نكتب قصائد نشتم فيها السلطة أو "الرئيس"؟ (لقد شتم الرصافي الملك والحكومة وشتمهما الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم وغيرهم؟ ولم تكن العقوبة في أقصاها سوى السجن لأيام أو لشهور، ربما كانت أكثر رحمة من أيام السجن التي ذقناها في "معسكر الدبس" في كركوك عام 1984 لأننا عصينا وشتمنا رئيس عرفاء الوحدة في ساحة العرضات!!. نعم رئيس العرفاء! وليس رئيس الجمهورية!!.. هل أذكر لك كيف عاقبونا؟ لقد أمرونا بالزحف إلى بركة مليئة بالبول والخراء وغطسونا فيها حتى رؤوسنا. ساعتها أحسسنا أن كل شيء كان يغطس معنا).
    وخذ "صور من المعركة" التي جعلوها مشهداً يومياً مألوفاً وليس برنامجاً تلفزيونياً فقط، حيث كانت تلال الجثث تقفز إلينا وقت الغداء من شاشة التلفزيون ونحن وأطفالنا جالسون إلى مائدة الطعام. فمن أين وكيف تهرب من هذه البشاعات، وإلى أين: كتابةً وحياةً وتفكيراً وسلوكاً وحواراً وأحلاماً..!؟
    ["للحرب أثر كبير علي وعلى قصائدي. كيف لا تكون كذلك وقد سرقت من رزنامة عمري عشر سنوات ومن مسامات جسدي حقول البراعم ومن غرفة أحلامي سريري ومكتبتي وكركرة أطفالي ومذياعي الصغير ورسائل أصدقائي. لقد  سرقت الحرب كل أشيائي الجميلة وتركتني مدينة من خراب على خارطة الورق. لذلك لا تجد قصيدة من قصائدي تخلو من هاجس الحرب وإفرازاتها".
    - من حوار مع الصائغ أجرته إحدى الصحف العراقية في الثمانينات عن أثر الحرب في شعره -]
    ترى كم كانت اجابتي تلك تحاول أن تصرخ وتلعن، لكنها لا تستطيع أكثر من ذلك.. وحتى مثل هذا الكلام وغيره عن كراهية الحرب عده البعض تجاوزاً على الخطوط الحمراء...!!
    ما الذي تبدل الآن؟ الذي تبدل هو حجم الخوف الذي كان يتلبسنا في كل كلمة نقولها أو نسربها داخل طاحونة الحرب والدكتاتورية هناك، وفي هواء الحرية الذي نتمتع به هنا، لنقول كل شيء بلا خوف أو مقص رقيب أو قص عنق..
    لكن يبقى السؤال الأهم هو كيف عبّرنا، وماذا كتبنا؟
    كنا نفكر دائماً – أمام قسوة المشهد وقسوة الرقيب – بأن لا بد من إيجاد طريق آخر للتعبير. لابد من كتابة مغايرة تأخذ من الخطاب المستتر التماعاته الذكية والخفية، وتتنوع عليه لغةً واسلوباً ومضموناً وشكلاً ومشاكسة وتحدياً من جانب، ومن جانب آخر وتأخذ من الاتجاهات والأساليب المختلفة فنيتها وأشكالها وحداثتها.
    وهذا الطريق برأيي أكثر وصولاً وبقاءً وجدوى، وأرسخ تأسيساً أمام الانهيارات السريعة التي عشناها بكامل صورها، الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والثقافية والسياسية. وعلى هذا يمكنك أن تشمَّ حتى في قصائد الحب التي كتبناها هناك، رائحة الرفض الخفية.
    خذ هذا المقطع مثلاً من "بريد القنابل"
    ["أنت لا تفهمين إذاً
    رجل في كتاب
    سوف يعبر مبنى الجريدة  شعركِ هذا الصباح
    فيشغلني عن دوار القصيدة
    أتأمل فوضاك من فتحة في القميص
    وفوضاي في الورقة"
    – من ديوان "سماء في خوذة" – بغداد 1988]
    ثم فجأةً ، تقفز الى سطور ذلك المشهد الرومانسي صور القذائف والأشلاء
    ["مَنْ سيرتّبُ هذا الصباح القلق
    الفناجين باردة كالصداقات
    والحرب تعلك أيامنا
    أقلبي الصفحة الآن
    برجك تشغله الوفيات
    وبرجي تملؤه الطائرات…
    أنت لو تفهمين إذاً كيف تجمعني الحربُ في طلقة
    ثم تنثرني في شظايا المدن
    اقلبي الصفحة الآن لا وقت
    أن القنابل تقتسم الأصدقاء".. الخ
    – المصدر السابق –]
    ولا زلت حتى هذه اللحظة وأنا في جنوب القطب تلاحقني كوابيس الحرب التي عشتها بين الحجابات والأسلاك والصحف والأسطبل والقذائف والنساء والحانات والشهداء والكراجات..
    هذا الواقع المشظى هو الذي شتتني كتابةً وحياةً وأحلاماً.
    وهذه الحياة المشظاة لم أخترها بملء إرادتي، كما لم يخترها الملايين من أبناء شعبي المبتلى منذ أن فتحنا عيوننا على الدنيا، في بلادنا المكبلة بالقمع والحروب والدكتاتوريات المتعاقبة التي أوصلتنا اليوم إلى ما نحن عليه.
    من هنا أشير إلى تباين طرق الكتابة عن الحرب لدى هذا الشاعر أو ذاك، واختلاف وجهة النظر والتناول والهدف والطرح. فكانت الكتابة عن الحرب تشي بالموقف منها سلباً او ايجاباً، تأييداً أو رفضاً.
    وكنت والكثير من أبناء جيلي لنا موقفُ رافضٌ لها، وكان التعبير عن هذا الرفض يتدرج في الإسلوب والوضوح من شاعر إلى شاعر ومن قصيدة إلى أخرى حسب ما يسمح به مناخ الكتابة والرقابة.
    وتستطيع أن تتلمس ذلك في نصوصنا المنشورة هناك
    [كتبتْ صحيفة المحرر في باريس 16/8/1993 عن تجربته: "واحد من أخطر شعراء الحرب الذين أنجبهم جيل الثمانينات الشعري في العراق، عاش الحرب بكل تفاصيلها في جبهات الموت سنوات طويلة ولأنه يكره الحرب جداً قدر حبه للعصافير فقد كانت الحرب متشبثة به ربما كانت بحاجة ماسة إلى من يكتب تأريخها السري غير ذلك التأريخ العلني الذي يدونه مزورو الحرب وفي مقدمتهم شعراء المديح العالي"].
    وكنت قد خرجت من الوطن قبل نشر هذا المقال بأقل من شهر.

  • عشت تلك الحياة بكل قسوتها وتفاصيلها وشظاياها، وأشار بعض النقاد والصحف إلى تجربتك الحارة والمغايرة، بأي معنى كنت كذلك، وكيف تقّيم نصك الآن؟

  • - أنها تجربة في الكتابة أشبه بهذيان أسود، طويل، مرّ، وحاد. أو قل هي مغامرة شعرية، قاسية ولذيذة وصعبة وشرسة، تشبه المشي في حقول الألغام، كما وصفتها في حوارات سابقة. أن تجربة المشي بين الألغام على الأرض وسواتر الحروب التي عشتها كجندي مشاة، علمتني الكثير من طرق المشي بين حقول الألغام على الورق. وتجد انعكاسات ذلك على تجربتي الشعرية هناك. من يدري ربما هي التي أنقذتني من الزلل أو الانفجار أو الغياب الأبدي. نعم لقد آمنت بأن القصيدة دريئتي. لأخلص من كل ذلك إلى أن الإبداع والصدق في أحيان كثيرة يصبحان هما الحصن المنيع من كل الشظايا والأخطاء.
    هل نجحت في تقديري أم أخطأت؟، هذا أمر أتركه للزمن وللباحثين ولجميع القراء، خاصة من قرأني هناك.
    وإذ تطرح الباحثة السويدية مارينا ستاغ في كتابها "حدود حرية التعبير" استغرابها ودهشتها من وسائل وحالات المنع والرقابة في مصر تذكر مقالة لرونالد توماس يقول فيها: "إن السؤال الوثيق الصلة بأي مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني ليس هو: هل هناك رقابة أم لا؟ وإنما هو بالأحرى: تحت أي نوع من الرقابة نعيش؟" ترى ما الذي ستقوله تلك الباحثة لو قدر لها أن تطلع على سجلات الرقابة وحدود الكتابة في بلدنا!؟
    هناك ألف عين لرقيب! وألف عين لمخبر! وألف عين لكاتب تقارير!..
    عليك أن تراوغهم جميعاً لتصل إلى نصك الذي تريد.
    وتعال معي واقرأ كتاب "المقاومة بالحيلة - كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم" الذي صدر قبل فترة عن دار الساقي في لندن، وافرش تنظيرات مؤلفه المفكر المثير جيمس سكوت على تجاربنا ونصوصنا في الداخل تكتشف كيف كنا هناك نسرّب ما نريد قوله بين السطور وتحتها، دون أن نكون قد اطلعنا على كتابه هذا. فالحياة لا جيمس سكوت هي التي علمتنا ذلك. كانت خلف نصوصنا المعلنة على صفحات الصحف عالماً خبيئاً يضج بالإحتجاج والغضب.
    لكن المفارقة المرّة أن رقيب السلطة كان أحياناً لا ينتبه ولا يلتفت إلى تلك الاشارات الخفية في نصوصنا فيعمد بعض "أدباء التقارير" الى تنبيهه. والمفارقة الأنكى أنهم انتقلوا – معنا أو قبلنا أو بعدنا - إلى المنافي وأخذوا يمارسون دوراً لا يقل عن دورهم هناك بالاضافة إلى مهمة التشويش والتشويه، وغير ذلك.
    نعم، هؤلاء هم أنفسهم، الذين كانوا هناك يتهمون قصائدنا بأنها تقترب من الأدب المعادي، راحوا هنا يتهمون قصائدنا تلك بأنها كانت تقترب من الأدب التعبوي!!
    والشيء بالشيء يذكر، فأقول إن قصيدتي "خرجت من الحرب سهواً" تولى بعض هؤلاء تدبيج التقارير للسلطة بأنها تدين الحرب والنظام وأنها تخفي أشياء وأشياء. وراحوا يتساءلون بخبث: ماذا يقصد بكذا؟ ولمن يشير بكذا؟
    ["أنا خارجٌ من زمان الخيانات
    نحو البكاء النبيل على حلمٍ أخضرٍ حرثته الخنازير والسرفات.
    أنا خارج من مدار القصيدة، نصف طليق، ونصف مصفد..
    على شفتي شجرٌ ذابل، والفرات الذي مر لم يروني. ورائي نباح الحروب العقيمة يطلقها الجنرال على لحمنا. فنراوغُ أسنانها والشظايا التي مشّطتْ شَعْرَ أطفالنا قبلَ أنْ يذهبوا للمدارسِ والوردِ. أركضُ، أركضُ، في غابةِ الموتِ، أجمعُ أحطابَ مَنْ رحلوا في خريفِ المعاركِ، مرتقباً مثل نجمٍ حزينٍ، وقد خلفوني وحيداً هنا، لاقماً طرفَ دشداشتي وأراوغُ موتي بين القنابلِ والشهداءِ. أنا شاعرٌ أكلتْ عمرَهُ الكلماتُ، فكيفَ أرتّبُ هذي الحروفَ وأطلقها جملةً، دونَ أنْ يزلقَ القلبُ - مرتبكاً - من لساني وينفجرُ اللغمُ، أركضُ، أركضُ، قلبي على وطني: أينَ يدفنُ أبناءَهُ؟.. الأرضُ أصغرُ من دمعِ أمي، أنفّضُ عن جلدِ طفلي الرصاصَ، فيجمعهُ في إناءِ الطحينِ"...الخ.. – من ديوان "غيمة الصمغ" بغداد 1993]
    وقد أوقفني أحدهم يومها متسائلاَ: من هو الجنرال الذي أطلق كلابه على لحمنا؟
    فوجئت بسؤاله القاتل، لكنني بلعتُ ارتباكي وأجبته بسرعة وحذر: وهل هناك غير شوارسكوف يا أخي!..
    كانت هذه إحدى طرق أو قلْ "نِعَم" التورية والخطاب المستتر..
    كانت التورية بحق طوق نجاة في ذلك الخضم المدلهم..
    أنظرِ الآن وأتعجب: كيف خرجتُ من مقصاتهم سهواً، أكثر من تعجبي كيف خرجتُ من الحرب سهواً. أتذكر قولاً جميلاً ومعبّراً لأحد المفكرين الكبار، كنت أردده مع نفسي دائماً: "أن المبدع الحقيقي هو الذي يراوغ شرطيه"، ليبقى محافظاً على نقائه وبقائه معاً، في الأزمنة المغبرة.. كثيرون ظلوا قابضين على جمر إبداعهم وصدقهم رغم الاكتواء والمغريات والضغوط. وحين خرجوا ظل موقفهم أكثر لمعاناً وسطوعاً.  وآخرون ضلوا وسقطوا في أول الشوط أو في آخره مدحاً وردحاً وتهريجاً.. وحين غادروا إلى الخارج رأيناهم يتساقطون على أبواب الأنظمة القمعية الأخرى أو التنظيمات المشبوهة، ولا غرابة، ذلك أن بذرة السقوط كانت في داخلهم.. وهذه البذرة - أو الضمير - هي التي ترسم للأديب أو الفنان أو المفكر، طريقه هنا أو هناك. وأنا لا أسمي أسماً. فهذا ليس شغلي، وإنما أحاول أن أشخّص حالة لنخرج منها بنتيجة واضحة ومثيرة في آن، هي كيفية التحصين والتوصيل معاً من جانب، أو السقوط والفشل من جانب آخر، في كل أزمنة التأريخ الأدبي والسياسي والإنساني.ويمكن الاطلاع  والتوصل إلى تلك المعادلة من خلال دراسة نتاجات المبدعين العراقيين هناك وليس بعيداً وصعباً ذلك على الباحث الجاد. كما فعل باحث مهم مثل جيمس سكوت في دراسته لنتاج شعوب وأقوام في أقصى الأرض.

  • لقد سمعنا للعديد من العراقيين والعرب شعراً يزهو بالحرب، هل كانت الحرب مرفوضة من قبل الجميع، أم كانت للبعض إنتصاراً يدعو للزهو، ربما تعويضاً عن خسارات سابقة؟

  • - ذات مربد وقف شاعر عربي كبير نحبه حد الهوس، على قاعة مسرح الرشيد في مهرجان المربد مخاطباً وزير الثقافة والإعلام لطيف نصيف جاسم بـ
    "وزير الشعراء".
    البعض من الشعراء والمثقفين العرب وحتى الأجانب كانوا يقولون مثل ذلك الكلام المجاني عنه وعن سيده أكثر وأكثر، حتى أن شاعراً عربياً من الدرجة العاشرة كتب قصيدة عن الفاو فأمر "الرئيس العراقي بطل التحرير" بأن يُكتب منها بيتان بماء الذهب.. وقد ألفنا عشرات الأبيات والطرائف السرية عن الشاعر وبيتيه الذهبيين.
    كنا بحيرتنا الأولى نتعجب لماذا يقول البعض مثل هذا الكلام؟
    ولماذا يمجدون الحرب؟
    ومشعلوها؟
    ولماذا تأتي وفود الشعراء والأدباء والفنانين، أسراباً أسراباً، الى جبهات القتال لزيارتنا؟
    فإذا كنا مجبرين كجنود على المكوث في السواتر، فلماذا يفعلون ذلك؟
    لكن يمكن القول أيضاً:
    إن هناك الكثير من النصوص والأسماء العراقية والعربية والأجنبية المشاركة في المهرجانات، كانت مختلفة تماماً بطروحاتها وبإبداعاتها المشرقة وإسهاماتها المغايرة وسط الدوي والتصفيق والتهريج والدخان.
    كنا نتسلل من الجبهات بطين بساطيلنا وأحزاننا الكاكية السرية الى مهرجان المربد، لكي نرى تلك الأسماء الكبيرة التي قرأنا لها بحب واعجاب ونلتقي بها، ونحاول مع الصحف والمجلات ومعهم أن نوصل نصوصنا ونتواصل معهم، ونطلع على الجديد والمــختلف الذي انتقطع عنا تماماً.
    [كتب الباحث والكاتب المرموق د. علي الشوك عن زيارته لبغداد في مربد عام 1989: "التقيتُ بالعديد من الأدباء العراقيين في فندق ميليا منصور وفي أماكن أخرى.. كانوا يعانقونني كشبح هبط من المريخ"- مجلة المدى ع1 1/1/1993-
    وكتب الشاعر الجزائري عياش يحياوي منتصف الثمانينات في مقالة له بأحدى الصحف الجزائرية:
    "لقد طوفتُ كثيراً والتقيت بأبرز الشعراء العرب في عواصم مختلفة ولكن لم يبق في ذاكرتي غير ألق الشعر في العراق وغير كبرياء النخلة العراقية لقد زرت الموصل معهد شعر أبي تمام والكوفة والنجف وكربلاء مسرح الفاجعة وسر من رأى وقصر المتوكل والبصرة مدينة الحسن البصري والأشعري.. سلخت من عمري أياماً قصاراً رغم طولها تمثل خمس رحلات وفيها تعرفت على مقامات الشعر العراقي وأنديته، على حزن السياب مرتفعاً بمثاله الإبداعي وعلى عدنان الصائغ الدرويش الذي قال عنه كبار الشعراء والنقاد ما يمثل موهبته بالندرة والاختراق والإنفلات من طابور النصوص الشعرية المعتادة على أرصفة الصحف، ويوم كنا نركب الحافلة مع الوفود في اتجاه مقام الجندي المجهول طلب مني أن أقرأ له الجديد من شعري، أذكر أني قرأت له مطلعاً من قصيدتي "النمل والنسيان" فراح يرتفع وينزل على الكرسي كالطفل الحالم المجنون وهو يطلب ممن يجاوروننا الاستماع إلى هذه القصيدة. ولقد كنت حزيناً دائماً لأن عدنان الصائغ وأمثاله من الشعراء في العراق لا يشاركون في المربد الشعري. أنه يحاول بث روح أخرى في نص القصيدة، روح عمادها تكثيف الموقف الشعري والغرف من نهر الحياة العادي وخطف المفردات وهي تعبر كالبرق في سماء التجربة وتوظيفها لتمارس طقوسها الجنونية المتجددة. أنه مولع بالمنسي والهامشي في حياة الناس إنطلاقاً من زخم تجاربه الذاتية. وأحدثكم عن شاعر آخر أنبل ما فيه أنه ما زال مرتبكاً مثل طفل مذنب خصوصاً إذا أطيل النظر إليه، أنه عبد الرزاق الربيعي، منذ أول يوم رأيته أحسست أن هذا الفتى النحيل سيشتعل عوده= بالشعر لأني رأيت فتيل الشعر أكثر الأنساغ اتقاداً في سيمائه وسلوكه. طالما حدثني ونحن في غرفة الفندق أو ردهاته عن أحزانه وخصوصياته أنه يحلم بالطيران وكأي فنان يكره الموت والرصاص والدمار والأيديولوجيا"...]
    لكن بقدر فرحتنا بالمقالة المذكورة هذه تعرضنا لمضيقات واستفسارات شتى بسببها..
    بعد ذلك سيدعونني للمربد لأقرأ - على مسرح الرشيد في بغداد – أقصر قصيدة شهدها المهرجان، هي هذه السطور فقط:
    ["دخل الشعراء "الـ …"
    الى القاعة
    واكتظ الحفل
    لكن الشعر..
    غريباً ظل أمام الباب
    بملابسه الرثة
    يمنعه البواب –
    - من ديوان "سماء في خوذة"-]
    وفي عام 1988 سأقرأ في المربد أيضاً شهادة شعرية تحت عنوان "يوميات من مفكرة القنابل"  ورغم أن بعض سطورها تعرض للقص. لكن يمكنني القول انها أوصلت شيئاً وقد طبعت ضمن كراسات المهرجان:
    [".. فكّرْ جيداً، الطرق متشعبة، والقصيدة أيضاً مشتتة بينك والاخرين، قصائد عمودية تتسلق المنابر والأكف الجاهزة للتصفيق (كالذائقة السلفية مثلاً) تصفيق.. تصفيق..(لا تحلم بتصفيق الجمهور فأنت مغتربٌ بالقصيدة) وأمامك لكي تضمد جرحيكما الشرسين –  أنت والقصيدة – زمن أزرق قادم.. لتوضيح كل شيء وخاصة حداثتك الجديدة..، حداثتك – وبأختصار – أن تعيش عصرك وتفكر وتكتب و... بلغة عصرك لا بلغة عصور الآخرين، ماضياً أو مستقبلاً.. صمت صمت أيضاً.. مبطن بالمخاوف.. صمت مزوّق باللامبالاة أو الغباء وربما اللاوعي.. يا للهول (انهم لن يقولوا: كانت الأزمنة رديئة بل سيقولون: لماذا صمت الشعراء؟ - برخت - في أعقاب انتصار النازية وسيادتها على المانيا) قصائد غارقة في الضباب (القاتل واضح والضحية واضحة فلماذا الغموض – الشاعر معين بسيسو) ضبابية لا ترى من خلالها أي شيء.. قصائد للبيع، قصائد في البرج العاجي، قصائد مكعبة وميكانيكية ويومية تافهة، واخرى طازجة محفوظة في ثلاجة الشاعر جاهزة للقلي أو الطهي أو للـ...(..) ولا يحق لك أن تستريح طالما هذا القلق المدمر يموج في أعماقك المتصارعة، طالما الحرب طالما ان هناك خطأً واحداً على وجه الأرض يهدد الجمال والشجر والأطفال.
    لكنك خارج من بين لحم وعظم الموت كوريد مقطوع بشظية لن تخدرك الشراشف البيضاء وفاليوم الجيل (كما فعلوا للأجيال السابقة) ما هذا الهذيان.. أعرف أنكم سوف تلعنونني لأنني أضعت من وقتكم الطيب الكثير.."
    - من كراسة "الشعر العربي عند نهايات القرن العشرين" شهادة 1988-]
    فكانت أشبه بصرخة احتجاج مكتومة أو هذيان جندي جريح وسط ذلك الكرنفال.
    وفي تلك الأيام، أيام المربد، أذكر أيضاً أن الصديق الشهيد القاص حاكم محمد حسين كان هارباً من الخدمة العسكرية لكنه كان يحضر المهرجان وجلسات الأدباء في الفندق، وركب مرة قطار المربد إلى البصرة وهو يضحك هامساً لنا بأن مفارز الإنضباط العسكري لن تفتش القطار فلا أحد يصدق أن بين هؤلاء الشعراء جندياً "فاراً"..  بعد شهور ألقي القبض عليه في أحد شوارع بغداد وأعدم. وعبثاً ذهبت رسالة الاسترحام التي وقعها أدباء كثيرون منهم بعض أدباء السلطة المعروفين (حميد سعيد، سامي مهدي وعبد الأمير معلة)، ورفعوها إلى وزير الثقافة والإعلام وإلى وزير الدفاع عن طريق مدير مكتبه النقيب القاص علي خيون. وقد ألتقيتُ أخ الشهيد في عمان في عام 1994 وحدثني عن تفاصيل إعدامه المروعة.
    أعود فأقول: كنا نعيش انفصاماً بين تلك الأجواء العابقة بالشــعر
    والوجوه الأدبية المعروفة، وبين دوي قذائف الحرب. وبينهما لا نستطيع البوح أو التعبير.
    لكن يمكنني القول والتأكيد أيضاً:
    لا المهرجانات ولا الخطابات ولا الأوسمة ولا المكارم ولا الطبول ولا المهرجانات ولا.. ولا غيرها استطاعت أن تقنع العراقيين بشرعية الحرب وضرورتها وجدواها، ولم تشكل رأياً عاماً متضامناً معها، وقديما قال الشاعر الجاهلي: "وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتموا وما هو عنها بالحديث المرجّمِ".
    لكن من يستطيع التصريح بمكنوناته، ليس خوفاً على نفسه فقط وإنما خوفاً على عائلته أيضاً.
    لقد ذاق الشعب العراقي من مرارة حروبه المتكررة ما لم يذقه شعب آخر في المنطقة، وتحمل وخبر مرارتها، سواء في حرب الخليج الأولى أو الثانية، أو في حروب الشمال خلال عقوده الثلاتة الأخيرة على الأقل.  
    هذه الشعب التي أنشد في ظلام ليله الطويل، وفي غفلة من آذان العسس وانشغالهم، بعد قصف طائرات التحالف لمحطات الكهرباء أثناء حرب الخليج الثانية، أنشد هذه الاهزوجة العفوية المعبرة والتي تختصر الكثير: "من العابد للفانوس، أسمع يالريس".
    (والعابد: هو الصاروخ الذي صنعه حسين كامل، في هيئة التصنيع العسكري، تلك الهيئة التي امتصت كل خيرات البلد..)
    من جانب آخر يمكن القول أن الحرب شكلت لدى البعض القليل جداً، من المستفيدين أو الموهومين أو الموالين – عرباً وعراقيين وأجانب- رأياً بضرورتها وحتميتها "التأريخية" وهذه الشريحة  موجودة في كل زمان ومكان، لكنها لا تمثل الشعب العراقي، ولا تمثل الثقافة العراقية على الإطلاق.
    لقد أفرزت تلك الفترة أكداساً من أدب الحرب يمكن أن تملأ شاحنات وقطارات، ذهبت كلها إلى سلال قمامات النسيان. لكن الإبداع الحقيقي والأصيل والصادق والمتميز كان موجوداً أيضاً تحت أو وسط تلك الأكداس. وهذا الجيد وإن كان قليلاً هو الذي سيبقى خالداً ومشعاً، وهو ما يجب الإلتفات إليه والإشارة له والاشادة به.

  • كيف تعامَلَ الأدباء هناك مع هذا الواقع المستبد؟

  • - هناك وسائل أوجدها الناس بشرائحهم ومثقفيهم للتنفيس منها البسيط: كالنكتة السياسية والأغنية والتجمعات. ومنها المركب: كالكتابة والمسرح والفن التشكيلي والترجمة واستنساخ الكتب حيث راجت عملية الاستنساخ بشكل لم يشهد له مثيل في تاريخ بلد مثل العراق رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، والرقابة المشددة، (انظرْ إلى كثرة الغارات الأمنية على سوق السراي مثلاً، ولهذا السبب لا غيره أُعتقل الصديق القاص المبدع حميد المختار) ولهذا أيضاً تخاف الدولة من الانترنيت والفاكس والصلاة والمساجد والحانات والجامعات وغير ذلك. ومن القصائد والكتب والصحف والمجلات التي تتسلل الينا من وراء الحدود. لقد كانت تصلنا بعض النصوص المبدعة. تتسلل إلينا من خلف قضبان سجننا الكبير وكأنها تسندنا وترينا أن خلف أسوار هذا الليل ثمة فجراً وحياة وثقافة متأصلة ومتواصلة، وكنا نتمنى أن تبقى متوهجةً لا تطفئها رياح المصالح والانقسامات والمناوشات هنا وهناك. أي كارثة لو فقد الذين في الداخل بوصلة الأمل بالمستقبل. لقد وصل إلينا الكثير من نتاجات المبدعين في الخارج. فقرأنا هناك دواوين كثيرة لسعدي يوسف وفاضل العزاوي وسركون بولص وهاشم شفيق ومظفر النواب و د. صلاح نيازي وكريم كاصد وفوزي كريم وكثيرين جداً، وبعض قصص وروايات غائب طعمة فرمان وابراهيم أحمد وسليم مطر و.. و.. وقرأنا كتب هادي العلوي و د. علي الشوك والمنظمة السرية لحسن العلوي، وكنعان مكية، وبعض منشورات خالد المعالي ورياض الريس.. وغيرها
    لقد أختار جيلنا ملاذه في الكتابة والقراءة والمقاهي والتجمعات الأدبية والمراسلات، فأنت  لن تلتقي بأديب إلاّ وقرأ لك من آخر نصوصه أو نصوص الآخر التي وصلته. وكانوا يحاولون من تحت يافطة الدولة أن يُنشئوا أو يمرروا تجمعاتهم ونصوصهم ومشاريعهم.
    وكانو رغم التكاليف البريدية يواصلون إرسال نصوصهم للخارج في محاولة للتلويح وسط الكواسج والأمواج العاتية.

  • من خلال اطلاعك عن كثب كيف تقيّم الثقافة العراقية في الداخل؟

  • - إذا كان للعراق أن يفتخر بشيء مشرق في عقوده الثلاثة الأخيرة فأنه يحق  له أن يفتخر بأمرين:
    أولاً: الانتفاضة، ألمع صفحة في تأريخ شعبنا، تكالب الكثيرون على تمزيقها ومصادرتها وتشويهها، عالمياً وعربياً واقليمياً وعراقياً أيضاً. وكلٌّ له حججه وغاياته، مكتفياً بطرح سلبياتها فقط.
    لقد فتحت أيام الانتفاضة العارمة كوة صغيرة في جدار ذلك السجن الكبير وجد فيها الناس والمبدعون متنفساً لهم. ولو قُدّر لتك الانتفاضة قيادة وطنية خالصة وتخطيطاً مدروساً. ولو توسعت تلك الكوى وانفتحت لأقصاها. ولو وُضفت تلك الحشرجات الخارجة منها بشكل صحيح، لأدّت إلى نتائج عظيمة يمكنها أن تغير مسار الأحداث والوطن والتأريخ.
    ثانياً: الثقافة الأصيلة الجادة التي ظلت صامدة وفعالة ومتجددة، وهي تعيش طيلة أكثر من ربع قرن تحت كابوس الدكتاتورية، والتي تعاني هي أيضاً من ضراوة التكالب على تمزيقها ومصادرتها وتشويهها، من أطراف عديدة. وكلٌّ له حججه وغاياته، مكتفياً أيضاً بطرح سلبياتها فقط..
    ورغم أنني لا أنكر بعض السلبيات التي رافقتهما، لكن علينا أن لا نرى سوى النصف الفارغ فقط، من كوب الواقع والحياة.
    أقول متفائلاً وواثقاً: هاتان الصفحتان المشرقتان المتفجرتان مازالتا قادرتين على انجاز الكثير والكثير..

  • تتوزع الثقافة العراقية لدى البعض اليوم الى ضفتين، أدب الداخل وأدب الخارج، كيف تنظر لهذا التوزع، وأن كنت تراه غير صائب، كيف يمكن ردم الهوة المفتعلة بين "الفريقين"؟

  • - لنخلص من قضية أدب الداخل والخارج إلى قضيتين مهمتين، هما: فنية القصيدة من جهة، وجرأتها أوجبنها، صدقها أو نفاقها، من جهة أخرى. لهذا يغدو هذا المصطلح مُضَلِّلاً سياسياً وفنياً إلى حد كبير، حين يراد من خلاله الحكم على النصوص ومساواتها في التقييم الإبداعي وفق المنظور الأيديولوجي. فأنت لا يمكنك حتى في الداخل أن تطلق الصفة نفسها على قصيدة لرعد بندر ولؤي حقي وساجدة الموسوي، وأخرى لرعد عبد القادر وطالب عبد العزيز وفليحة حسن، وهما يتحدثان عن موضوعة الحرب مثلاً. فالرؤية تختلف وكذلك الموقف.
    أغلب الأدباء في العراق كتبوا عن الحرب.
    ولكن علينا أن نرى كيف عبّروا.
    وعلى هذا المنوال نفسه لا يمكن أن تجزأ سعدي يوسف إلى شاعر خارج وعبد الرحمن طهمازي الى داخل. بل وأين نضع علي الوردي وسلمان داوود محمد وغائب طعمة فرمان وجليل القيسي وفاضل العزاوي ولطفية الدليمي وحسين عبد اللطيف ورشدي العامل وابراهيم أحمد وابراهيم عبد الملك وسعيد الغانمي وعبد الخالق الركابي  وعبد الخاق كيطان وأحمد الشيخ ومهدي عيسى الصقر وزينب وعوني كرومي ومحمد سعيد الصكار ومحمد مهر الدين، وضياء العزاوي، وعلي النجار، وعلي السوداني وعلي المندلاوي وعلي الشوك وعلي عبد الأمير وعبد الرزاق الربيعي ومحمد مظلوم وقاسم الساعدي وقاسم حول ومقداد عبد الرضا وسليم مطر وجاسم المطير وزاهر الجيزاني وفضل خلف جبر ونعيم شريف وشريف الريعي وأحمد مختار وصلاح القصب وياسين النصير وهاشم شفيق ومحمود البريكان ونصير شمة وفيفيان صليوا وسليمان جوني وبلند الحيري والبياتي  والجواهري و.. و.. وينطبق الأمر على المئات والمئات من المبدعين. وأمامك كل النصوص أو المواقف في الوطن وفي المنفى. تفحصها وتأملها تجد أن المبدع الأصيل والشريف هو نفسه نفسه سواء كان في الداخل أو في الخارج وكذلك الإنتهازي أو الفاشل أو المخبر. وعلى هذا أقول أن أدباء الداخل ليس كلهم شياطين، كما ليس كلهم ملائكة. وينطبق هذا الأمر نفسه على أدباء الخارج أيضاً، لهذا فأن مصطلح "أدب الخارج" ليس وساماً يعلّقه على صدره كل من خرج من العراق. وليس مصطلح "أدب الداخل" وصمة عار على جبين من بقي هناك أو خرج متأخراً.
    أرجو الانتباه الى هذا المنزلق الخطير خشية أن يصبح هذا المصطلح البريء بيد البعض إلى مسطرة تقييم وسكين وهراوة ووثيقة اتهام. وأعود الى سؤالك المهم: كيف نردم الهوة بين أدب الداخل والخارج؟ أقول: أن نكون أكثر صدقاً وحباً وسمواً وتفحصاً وتطابقاً مع أنفسنا ومبادئنا وابداعنا، بلا ضغائن ولا حسابات، ولا زوايا نظر محددة أو مجتزئة، وأن لا تكون قراءتنا للنصوص مدبرة أو اعتباطية أو مرتجلة أو ناقصة، لكي نرى الآخر وابداعه ومواقفه على حقيقته، وأن يرانا الآخر هكذا، وبالتالي سوف نرى عراقاً واحد لا عراقين وأدب واحد لا أدبين.
    يجيب الشاعر سعدي يوسف على هذه الاشكالية في مقالة له في صحيفة السفير 2/9/2002 قائلاً: "في (الجدل) الذي يتردد أحيانا، في مجلس ما، او على صفحة ثقافية، حول (ثقافتين): إحداهما في الخارج، وثانيتهما في الداخل، كنت أرى، مراقبا لا متدخلا، أن المنفى حالة مؤقتة، واننا لسنا الفريدين في الامر، اذ عانت شعوب مثل ما نعانيه، او أكثر، والامثلة اوضح من أن تُذكر".. ثم يضيف: "أقول هذا لأخفف من غلواء ترى في كل ما يُكتب في العراق تخلفا وانصياعا، وأقول هذا لأنبه إلى ان التعالي على الارض لن يمسح الارض، وإلى أن "المنفى" في شروطه الحالية ليس بشيء، مقايسة بالارض وأهلها ومبدعيها"..  

  • هل أثر انتقالك للمنفى في مسارك الشعري. أم كان ذلك امتداد للصراع الخفي بينك وبين الدكتاتورية؟ كيف ترى إلى هذا النزوح الجماعي للمثقفين من الوطن؟

  • - لقد دُهش أو فوجيء بعض "السياسيين" و"المثقفين" حين سمعوا – عبر وسائل الإعلام – بانتفاضة الشعب العراقي في آذار 1991 واستمرار نزوح الملايين والآلاف من المثقفين إلى خارج الوطن. إذ إنهم كانوا يتخيلون بأن الشعب قد استكان، وأصبح مطية لجلاده بعد أن دُجّن وقُصت أظافره وأن المثقف غدا – بالترهيب والترغيب – مطبلاً مزمراً ليل نهار. مستمدين ذلك التصوّر المشوّه من مانشيتات الصحف الرسمية ومن شاشات التلفزيون التي تصور الجماهير وهي ترقص في ميلاد القائد، والشعراء وهم يتدافعون لتدبيج قصائد المديح. دون أن يستمدوا تحليلاتهم من واقع وشراسة الإرهاب الذي رسم بالاكراه ذلك المشهد الكئيب والمهين..
    وإلاّ تعال وقلْ لي أي عاقل يمكنه أن يصدق نتائج الاستفتاء الثقافي الجماهيري الذي نشرته الصحف نهاية التسعينات باختيار وترشيح  عدي صدام حسين "أهم صحفيي القرن العشرين".. ماذا كنت تفعل إذا كنت هناك سوى أن تبقى تلطم بصمت حتى الصباح.. وعلى هذه الفنتازيا المؤلمة يمكنك أن تقيس الحال.
    إن أصوات أدباء الداخل المخنوقة هناك لا تصل، أو ربما  البعض لا يريدها تصل، أو انها تصل مضببة مشوشة، ولا يزال هذا الحال حتى هذه الساعة، رغم خروج الآلاف، ذلك أن هذا البعض لا يريد أن يسمع لغاية في نفسه أو لمصلحة ما.. وإلا ما الذي يمنع أي باحث أو مثقف أو سياسي من تقصي الحقائق والأرضية والنصوص، وتحليلها ليرى ببساطة كيف يرشح الكتاب والصحفيون عدياً، أهم صحفياً في القرن. وكيف يكتب النقاد والقصاصون والشعراء عن زبيبة والملك بأنها فتح الفتوح في الرواية العراقية والعربية والعالمية كما تابعنا ذلك مؤخراً في الصحف العراقية لكتاب مبدعين أجلاء نحبهم ونحترمهم..
    هل حلّل باحث هذا الوافع، لكي يعرف الأرضية الذي يناضل فوقها، والنص أو الانسان الذي يكتب عنه؟..
    هل حلل ناقد أو مفكر ما، تلك الحكايات الفجائعية التي تفوق حكايات ألف ليلة وليلة أو "خريف البطريرك" لماركيز أو "السيد الرئيس" لستورياس؟
    وهل رأى أو تفحص - من خلل ظلام المشهد - فوانيس النصوص المسربة، العاوية، الضاجة بأنينها المبرح.
    أن أي دارس واع وحر وصاحب ضمير يمكنه أن يدرك ظروف الإستبداد القاسية التي دفعت الشعب إلى السكوت أمام جثث أبنائها المعدومين ودفع ثمن الطلقات.
    ويمكنه أيضاً أن يتلمس جمرات الألم والغضب المحرقة خلف نصوص أدباء الداخل الأنقياء (وهم كثيرون). ليرى إلى التماعة الغضب والجوع خلف عيونهم هناك.
    تمعنْ في قصة "النمور في اليوم العاشر" لزكريا تامر، وعد إلى جيمس سكوت، وعد إلى غاب الوحل والرعب، وعد إلى نصوصنا هناك. لترَ وتقرأ التماعات خطابنا المستتر الذي يمور تحت ركام الخطاب الرسمي المهيمن على البلد منذ عقود.
    ليترجل بعض سياسيينا ومثقفينا عن أبراج التنظير، وينزلوا إلى الشارع وينظروا (تعالوا انظروا الدم في الشوارع – بابلو نيرودا).
    وتعال معي ياصديقي، إلى الســــاحة الهاشمية في عمان، مثلاً
    أو إلى بعض الأحياء في دمشق الآن. وسأريك لوحة لم تخطر ببال رسام أو كاتب، عن مشهد الأدباء والفنانين والمفكرين والعلماء العراقيين وهم يفترشون عذاباتهم وسخطهم وذلهم على العشب الرطب.
    وتعال إلى نازك الملائكة التي ترقد منذ أكثر من خمس سنوات في أحد مستشفيات القاهرة وسل مَنْ وضع عند سريرها باقة ورد؟
    أو كلمة طيبة بإسم الثقافة العراقية في المنفى أو الوطن؟
    (لقد تحدثت في إحدى الأمسيات عندكم في كوبنهاكن عام 1999 وكنتَ حاضراً. وتحدثتُ كذلك في بعض الأمسيات في السويد وألمانيا، وتساءلت بألم مَن من الأحزاب والجمعيات والسياسيين والمثقفين قدم لها باقة ورد أو كلمة طيبة بإسم الثقافة العراقية وهي شاعرة معروفة "وليس لها علاقة، لا من قريب ولا من بعيد بالنظام". وأتذكر أن الفنان كمال السيد قام إلى المنصة وطلب عنوانها.
    لكنه توفي عام 2001 دون أن يرى تلك الباقة على سريرها) والأمثلة كثيرة وموجعة.
    لكن دع هذه المواجع الآن، وقل لي: ما معنى هذه النظرة التشكيكية والتسقيطية التي يحملها هذا البعض المشوش، لكل ما يرد من الداخل من نصوص.
    يقول أحد الشعراء العراقيين على صفحات جريدة "السفير" 10/3/1999 أن الأدب الذي يأتي من الداخل مصاب بالآيدز. وشاعر آخر يذكر على صفحات جريدة "الحياة" أن العراقيين كانوا يتسابقون في سنوات الحرب العراقية الايرانيه لإرسال أولادهم إلى جبهات الموت كي يستشهدوا من أجل 10 آلاف دينار عراقي أو دولار!!..
    تصور أي عقل ملتبس ولا أقل شيئاً آخر يمكنه أن يتخيل العراقيين بهذا الشكل!!؟
    إذا كان الأمر كذلك فلماذا ملأوا شوارع المدن وجبهات الحرب بنقاط التفتيش العسكري والأمني والاستخباراتي والحزبي والجيش الشعبي. ولماذا كانوا ينصبون خلف السواتر لجان الإعدام للجنود الهاربين من الحرب.
    ومع احترامي للشاعرين، لكنني أقول أن مثل هذا الكلام، عيب، نعم عيب. وهو تشخيص غير أمين وغير دقيق بالمرة. وإن حدث وسمعنا بعض القصص والأمثلة الشاذة المقرفة – وهي تحدث - إلا أنه لا يصح ولا يجوز تعميمها أبداً..
    يقول الشاعر معين بسيسو "القاتل واضح والضحية واضحة، فلما الغموض".. نعم، الجلاد ورموزه وكتابه واضحون. والأدباء الجادون والمستقلون واضحون. والنصوص واضحة. فلماذا الغموض والتشويش وخلط الأوراق؟
    وتعال انظر لفترة الثمانينات والتسعينات: المدارس والمنتديات والمكتبات والحدائق والهواء والصحف واللافتات والمساجد والمدارس والجامعات كلها تابعة للدولة فأين تتعلم وأين تكتب وأين تنشر وأين تأكل وأين تعمل وأين تعطس وأين تتغوط وأين تتنشق الهواء، داخل ذلك السجن الكبير.
    إن القهر والإجبار على شيء لا يعني الإيمان به، وأغلب العراقيين هم مجبرون لا مخيرون في العيش داخل هذه الزنزانة، فالحياة تفرض شروطها القاسية تحت إرهاب نظام لا يوازيه قمع نظام في العالم.  
    ورغم هذا المشهد القاتم ، فأنك تجد الكثير من المبدعين الذين لم يتلوثوا ابداعاً وسلوكاً وموقفاً وحياةً.
    دعني أوضح أمراً: أن شعراء المديح والأدباء الذين يؤمنون بالسلطة والقائد والحرب هم أعداد قليلة وشاحبة وبائسة الإبداع وأغلب العراقيين يعرفونهم وينبذونهم. لكن السلطة بوسائلها وتلفزيوناتها ووكلائها ومؤسساتها واعلامها الداخلي والخارجي تعطي للمشاهد عن بُعدٍ، صورة مشوهة وغير حقيقية وذلك بتعميم هذه الظاهرة على الجميع. وقد عمد بعض المشوهين في الداخل إلى نقل صورة نفسـه إلى الخارج، وذلك بتشويه الآخرين لكي يبرر ما اقترفه بأنه ليس وحده من سقط!!
    لقد حاولت السلطة - بكل وسائلها، المعروفة وغير المعروفة، وبسياسة الترغيب والترهيب – إلى استمالة الأدباء والمثقفين المبدعين إلى ركابها وزجهم في خطابها، وتصويرهم وكأنهم "الفيلق الثامن" للسلطة والقائد، كما أطلق عليهم وزير الثقافة والإعلام آنذاك لطيف نصيف جاسم. وإن بدوا على شاشات الإعلام وكأنهم جميعاً بهذه الصورة ليصدقها الساذجون.
    لكن خاب ظنه وظنهم تماماً. فالمبدعون العراقيون الأصلاء كثيرون جداً. وهم كانوا وما زالوا ضمير هذا الشعب ونبضه وضؤوه في حلك هذا الليل الدامس.
    إذن لماذا يصر بعض "المثقفين" وبعض "قوى المعارضة" عبر وسائلهم الإعلامية على تصوير من ظلوا في الداخل بأنهم أصبحوا أبواقاً!!
    لمصلحة من يتم هذا؟
    ثم وهذه القوى الوطنية التي تفتخر بسجلها العريق في مناصرة الحق والإبداع والشعوب المضطهدة لتخليصها من ظلام الدكتاتوية. لماذا تنساق وراء مثار هذا الغبار دون أن تمعن النظر فيه، لترى ما خلفه؟
    ثم تعال معي وقل لي لماذا خلط الأوراق وهذه الضجة والبيانات والافتراءات والتشويهات. هناك أرشيف الصحف والمجلات العراقية موجودة في الكثير من المكتبات العربية العامة. ادرسوها وكونوا موقفاً واضحاً ورأياً مدروساً صحيحاً لكي تعرفوا وتطلعوا على نتاج الداخل برمته ومن ضمنه نتاج جيلين مهمين ومثيرين، الثمانيني والتسعيني، اللذين نشأا وعملا وكتبا وعاشا الأحداث كاملة وعن قرب. لكي ننتهي من هذه الأسطوانة المشروخة التي يبدو أن البعض لا زال يطرب لها، ويتاجر بها، ولا يريدها أن تتوقف.
    هذه القراءة الواعية الشاملة ستكشف الكثير وستربك من نصبوا نفسهم أبطالاً وحكاماً ونقاداً لتك المرحلة.

  • كيف لنا أن نفهم إذن هذه المعادلة في سياق عمل المثقفين العراقيين داخل ساحة ثقافية مليئة بالطبول والمديح وشعارات الحزب الواحد التي تجبر الجميع بالهتاف تحتها. هل يمكن أن نتابع فصول رحلتك الشعرية في خضم تلك الساحة؟

  • - لقد سُئل شاعر القيثارات والزيتون "لوركا": "وأنت يا لوركا إلى أي حزب تنتمي؟ فأجاب: " أنا أنتمي الى الفقراء"..
    وأنا مع قوله المعبر هذا
    وأضيف: لم أكن منتمياً أبداً لأي حزب سياسي، أو ديني، طيلة حياتي.
    ولا أزال حتى هذه الساعة لا أرغب أو أميل للتجمعات الحزبية والالتزام بها (مع احترامي وتقديري لكل حزب وطني ديمقراطي تقدمي شريف) وذلك لإيماني بأن الوطن أكبر من أي حزب وأن الإبداع والعمل أجدى وأجمل وأكبر من كل الشعارات.
    فمنذ تفتح وعي الأول وتعلقي بجدائل القصيدة كنت أكره الحروب والدكتاتورية والتجمعات الشللية والطائفية والتمذهب والتحزب والأكاذيب والأحقاد والضغائن.
    وأحب الكتب والمطر والله والمرأة والوطن والأصدقاء والمقاهي والخير والطيبة والحرية والشوارع.
    نعم، منذ البدء، كنتُ غير ميالٍ الى كتب النقد الأدبي والقضايا السياسية والأمور الاقتصادية ودروس الرياضيات والرياضة.
    لكنني كنت ألتهم بنهم كل ما يقع بين يدي من كتب الشعر والرويات والقصص وفنون الأدب والتأريخ والفن والفلسفة وعلم الأديان والأساطير.
    قد أبدو أمامك هادئاُ وقانعاً ومجاملاً وخجولاً، لكنني على سطح الورقة مشاكس وصريح وشرس إلى حد اللعنة، لقد عشتُ بسيطاً وهادئاً، وشاعراً مشاكساً ومخلصاً لهذه الحرفة اللعينة، وكأنني بورتريه لما عبر عنه الشاعر الاسباني انطونيو ماتشادو في إحدى قصائده: "لا تتعجبوا يا أصدقائي من أن جبهتي مجعدة مقطّبة فأنا أعيش في صراع مع نفسي وفي سلام مع الآخرين". لكن هذه المشاكسة والصراحة كلفتني الكثير في الوطن والمنفى معاً..
    ما سأذكره هنا هو سرد موجز لحقائق ووقائع في الشعر والجيل والكتابة والعمل والموقف وغيرها من الأمور، ربما لا يعرفها الكثيرون خارج المشهد المغبر الذي وجدنا أنفسنا فيه في تلك السنوات الكالحة بعد أن غاب الجميع عنا وتركونا لوحدنا نجابه سلطة الدم والجهل.
    وأنا هنا لا أدافع عن شيء، ولا أدعي بطولة ولا أفكر بها.
    لقد كانت رحلتنا هناك، خلف تلك الأسوار المرعبة، حقلاً خصباً لمشاكسات وتحديات وضغوطات ومعارك أدبية وجدل أستمر طويلاً. فيها ضعف وقوة، وفيها انكسارات وتحدٍ.
    كان الخيار صعباً، ففي أرض معوجة كيف يمكنك أن ترسم خطاً مستقيماً كما تقول سيمون دي بوفوار؟..
    هذا ما حاولته. فهل نجحتُ؟
    لقد كتبتُ وعملتُ بنزاهة ووعي وضمير أدبي وانساني، متجنباً السقوط في شراك السلطة وألغامها ومغرياتها وأوحالها. ولو كنتُ أملك قدري وحريتي لقفزت على بعض تلك المحطات التي وجدتُ نفسي فيها مرغماً. ومع ذلك استطعتُ الخروج بأقل الخسائر الممكنة..
    نعم أعتز أنني كتبت ونشرتُ وأصدرتُ 6 مجاميع شعرية وخرجتُ بقلم نظيف لم يتلوث أبداً بمديح أو تهريج أو اسفاف، تحت كابوس أعتى دكتاتورية عرفها التأريخ المعاصر، ومناخ ثقافي لا يُحسد أي أديب عليه.. وما كان ذلك ليتحقق لولا رفض حقيقي يعتمل في الروح، روح الشاعر، ولولا التفاف البعض من أصدقائي الرائعين حولي، ولولا دم أصدقائي: علي الرماحي وحميد الزيدي، وعبد الحي النفاخ الذي كان يذكّرني ويحرّضني وهو يصرخ في شراييني ويضيء.
    [بعد خروجي من الوطن و"في فندق القدس في عمان حدّثتً الروائي والكاتب جبرا ابراهيم جبرا عن أغرب وارعب حكاية بطلتها روايته "البحث عن وليد مسعود" التي أستعارها حميد الزيدي من صديق أعدم ثم استعارها منه عبد الحي النفاخ قبل إعدام الزيدي واستعرتها من النفاخ قبل أن يجن وقد تركتها قبل سفري عند أحد الأصدقاء فارتجف جبرا رعباً.. "
    - المنفى الآخر - شهادة عن الجيل الثمانيني في العراق. عدنان الصائغ " نشرت في مجلة "تموز"- السويد ع17 خريف 2001  وفي صفحة "الطريق" على الانترنيت 2002-]
    دعني أستفيض هنا وأحدثك عن تلك السنوات التي عشتها هناك بكل أحداثها، ولم أشأ أو أحب الحديث عن نفسي لكنني وجدته، في لحظاتٍ ما، ضرورياً كشهادة حية على عصرٍ عشته بكل رعبه وألغامه وخيباته وتحدياته، وهي سطور مرٌّة وذات شجون، ستجيب على الكثير من القضايا التي رافقت حياتي ومسيرتي الشعرية ورافقت أغلب أبناء جيلي هناك في "بلاد ما بين" مقصّين أو "سيفين":
    أولاً: بدأتُ النشر بشكل جدي ومتواصل عام 1982 متأخراً عن أغلب أبناء جيلي الذين سبقوني الى الصحف والمجلات الرسمية والاتحادات والأماسي الشعرية في بغداد (عدا بضع قصائد غزل، نشرها الصديق الشاعر والباحث محمد سعيد الطريحي،لي ولصديقي الشاعر علي الرماحي في مجلة "العدل" النجفية الأهلية، بعد منتصف السبعينات)..
    منذ سن مبكرة كنتُ أقرأ كثيرأ وبنهم وأكتب كثيراً لكنني كنت أتجنب النشر ولسنوات طويلة، ثم أدركت أن لا جدوى من الصمت. كم سيطول الصمت؟ ولم أكن أستطيع الهرب من الوطن لظروف عديدة. وبعد ان اشتدت المضايقات، وفي محاولة لابعاد تلك تلك الأشباح الدائمة، فكرت بالنشر وبإمكان أن أستفيد من فن الخطاب المستتر للتعبير عن بعض ما أريد، وذلك أجدى وأبهى. وأغرتني المغامرة فأشرعتُ قلمي ومشيتُ في طريق الألغام، طريق النشر بحذرٍ وتفرس ومغامرةٍ وتحدٍ..
    الظروف والصدفة ودعوة شاعر صعلوك تعرفتُ عليه لأول مرة، قاداني للدخول إلى مقهى البرلمان في الثمانينات، ويمكن أن ترى في قصيدتي "في المقهى" المؤرخة في 7/2/1984 من ديواني "أغنيات على جسر الكوفة" صورة لتلك اللحظات الأولى:
    "ودلفتُ إلى مقهى الأدباءِ.. وحيداً، مرتبكاً،
    أتحاشى نظراتِ الشعراءِ الملتفين على بعضهمُ، وحوارات النقاد…
    وجدتُ لنفسي كرسياً مهترئاً..
    أتردّدُ بعضَ الوقتِ، وأجلسُ
    منحشراً قربَ دمي المتوجّسِ،
    أرنو لوجوههمُ ملتذاً..
    أتذكرُ أني أبصرتُ ملامحَ بعضهمُ
    تتصدرُ أعمدةَ الصحفِ اليوميةِ، والكتبَ الزاهيةَ الألوانِ…
    سعلتُ قليلاً من بردِ الطرقاتِ،
    وأقبيةِ الأعوامِ الرطبةِ، والريحِ!…
    خشيتُ بأني سأعكّرُ صفوَ تأملهم بشحوبي وسعالي…"
    كنت في ذلك الوقت، جندياً في أحد المعسكرات، أبعث من هناك قصائدي للنشر في الصحف، وقد التفت إليها بعض النقاد. ثم أصدرت ديواني الأول عام 1984 والثاني والثالث معاً عام 1986 وأنا قابع في جحور المواضع الزنخة جبهة الموت في بلد محاط بالأسوار والأسلاك وكأنني أتشبث بالشعر وأدافع به عن وجودي وانسلاخي.
    ثانياً: لقد سلخوا من عمري أكثر من 12 عاماً جندياّ في الخدمة العسكرية الاجبارية ( سُقت في 2/9/1976 إلى فوج 3 لواء 3 في أربيل. وتسرحتُ في 15/3/1979 . ثم سُقت للمرة الثانية في الحرب العراقية الإيرانية، منذ أيامها الأولى (30/9/1980) جندي احتياط، وتسرحتُ بعد انتهاء الحرب بشهور (16/1/1989). ثم سقت للمرة الثالثة جندي احتياط في حرب الخليج الثانية في 19/1/1991 ،  لكنني فررتُ منذ أيامها الأول وتسرحتُ في العفو العام بتأريخ 22/4/1991).
    اثنا عشر عاماً عشتُها بكل تفاصيلها. لم اترك كراجاً لم أنم به أو معسكراً لم أزحف في ساحة عرضاته، متنقلاً بين المعسكرات وسواتر الحرب: جندي مشاة، ومغاوير، وحمال صناديق أرزاق وعتاد مع البغال ( قضيت منها عاماً ونصف تقريباً في اسطبل مهجور للحيوانات في قرية شيخ اوصال في السليمانية رموني فيه 84-86 وفي تلك الأجواء وروائح البول بدأت بكتابة نشيد أوروك)..
    ثالثاً: على أثر احتياج صحيفة القادسية لأقلام صحفية وأدبية جاء نقلي إليها عام 1986 (أي بعد 6 سنوات من جحيم القصف والمواضع المتعددة) وبقيتُ فيها حتى تسرحي في كانون الثاني 1989
    كانت انتقالة خرافية حقاً: من الاسطبل، الى صحيفة القادسية (أذكر أن جندياً في مفرزة التفتيش سألني وهو يتفحص كتاب نقلي الى بغداد: يالها من "واسطة" كبيرة. فأخرجت من جيبي قلماً صغيراً وقلت له: هذه هي واسطتي) وما زالت هذه هي "واسطتي" حتى اليوم!...
    وهناك وجدت أمامي الكثير من الأدباء والصحفيين والفنانين العراقيين.
    كانت فترة خدمتي العسكرية في الجريدة والمجلة حوالي عامين ونصف، عملتُ في البدء مصححاً في جريدة القادسية، ثم محرراً ثقافياً فيهاً، ثم مسؤولاً للقسم الثقافي في مجلة "حراس الوطن"، حتى انتهاء الحرب وتسرحي منها في كانون الثاني عام 1989.
    رابعاً: في صحيفة القادسية، كانت لي زاوية ثقافية كل ثلاثاء، أسميتها "مرايا" (جمعتها فيما بعد وأصدرتها في كتاب تحت عنوان "مرايا لشعرها الطويل" قدم لها الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي والناقد د. علي عباس علوان).
    وفي مجلة حراس الوطن عملنا: ضرغام هاشم (أُعدم في بداية التسعينات) وعلي المندلاوي وسلام الشماع  وآخرون. كنتُ أحرر صفحات القسم الثقافي وكانت لي فيها حوارات ثقافية شهرية طويلة أجريتها مع العديد من المبدعين، منهم: عبد الرحمن طهمازي، محمد خضير، د. علي عباس علوان، فؤاد التكرلي، عيسى الياسري، مدني صالح، د.علي جواد الطاهر، عبد الرزاق عبد الواحد، حميد المطبعي، د. صلاح القصب، عبد الرحمن مجيد الربيعي، سامي مهدي، ديزي الأمير، أحمد خلف، يوسف عبد المسيح ثروت، د. ماهود أحمد، خزعل الماجدي، ميسلون هادي، بهجوري، عريان السيد خلف،  فاضل ثامر، ياسين النصير، يوسف نمر ذياب، لطفية الدليمي، رشدي العامل ( فاز حواري مع الشاعر العامل بالجائزة الأولى للحوار الصحفي في مسابقة نقابة الصحفيين عام 1988، وقد أعادت نشره صحيفة ثقافة 11 في هولندا ع8  1/9/1998) والخ..
    في مجلة حراس الوطن أعددت أول ملف عن جيل الثمانينات (ع387 في 1987) تحت عنوان: " أيها النقاد انتبهوا رجاءً.. الثمانينيون قادمون. بيان أول للحرب.. بيان أول للجيل - جيل الثمانينات جيل الحرب" ضم شهادات لـ 14 اسماً هم: محمد تركي النصار، باسم المرعبي، صلاح حسن، عبد الرزاق الربيعي، فضل خلف جبر، سعد جاسم، لهيب عبد الخالق، علي رحماني، ابراهيم زيدان، محمد جاسم مظلوم، دنيا ميخائيل، وسام هاشم، أديب أبو نوار، خالد جابر يوسف". ومقطوعات من نصوص: عبد الحميد كاظم الصائح، علي الشلاه، كريم شغيدل"، وقد حظي باهتمام الوسط الأدبي. وعدته الكثير من الدراسات بأنه أول ملف للجيل
    (من الغريب أن يكتب شاعر وناقد في مطلع الألفية الجديدة مقدمة للشعر العراقي الحديث مستشهداً بالملف وبانياً أحكامه دون أن يطلع عليه - كما يبدو - فهو يقول (عندما نطالع مقابلة تحت عنوان "جيل الثمانينات..جيل الحرب" أُجراها الشاعر عدنان الصائغ مع 16 شاعراً)..
    لكن الملف - كما هو معروف - ليس فيه مقابلة ولا هم يحزنون وليس فيه 16 شاعراً.. مع احترامي الشديد لصديقنا الناقد والشاعر.
    من جانب آخر أقول:
    لو تصفحتَ نصوصي وكتاباتي وتلك الحوارات لأدركت حجم التحديات والمخاطر التي كان علي أن أجتازها وسط عقلية طبول الحرب. وكم كان علي أن أذر من الرماد في أعين الرقباء والمخبرين المتربصة حولي.
    واذا كنتُ قد تحدثتُ عن الرفض الذي يعتمل في داخلي والتحديات التي جابهتها بلا تردد والمشاريع الثقافية التي ساهمتُ في انجازها، فأنني يمكن أن أشير وفي هبّة الرماد والعيون المتلصصة تلك، إلى نقاط ضعف لم يكن باستطاعتي تلافيها، وهي:
    (أ- فنياً، يمكنني أشير إلى أنني لست راضياً كل الرضا عن بعض نصوصي الأولى من ناحية الشكل الفني والمستوى التعبيري أو المباشرة، لكنني حاولت أن أبقيها كما هي حفاظاً على تصوير مناخات الحرب والأجواء الكابوسية والأحداث المتسارعة التي عشتها وتتبع مسار تجربتي خلالها
    [".. هذه الغزارة التي تراها هي فوران من الألم، الألم الخبيء المسعور الذي تفجر فينا طيلة تلك الحقبة المريرة من تاريخنا الوطني والانساني وما عصفت بنا من حروب وكوارث وحصارات تركت أثرها واضحاً وداكناً على مجمل نتاج جيلنا الشعري والأجيال الأخرى. هذه الكوارث قد تغطي قامة المبدع فتخنقه وتقتله وقد يكون هو أقوى منها، يستشرف من خلالها واقعه ونبض عصره فينتصر عليها بابداعه .. لذلك تجد أن هناك تجارب ابداعية كبيرة في الأزمات الكبيرة، بينما هناك تجارب جفت ويبست نتيجة هذا الاعصار المدمر وتساقطت أوراقها واحدة تلو الأخرى. وحين تنظر الآن إلى خارطة جيلنا تجد الأمثلة واضحة، فكم من الأسماء قد جفت وانتهت. لكنك بالمقابل تجد ثمة خضرة وارفة عند هذا المبدع أو ذاك. وحالة التطور والنضوب هي حالة طبيعة في عموم الإبداع الإنساني في كل زمان ومكان. يضاف إلى ذلك، بعض العوامل الذاتية والثقافية والنفسية للمبدع نفسه، والخ والخ ... ‏ وللغزارة هنا وجهان، وجه سلبي يعكس استسهال الكاتب لفنه، وبالتالي يكثر من الكتابة والنشر حد التكرار والملل والمباشرة. وهذا ما يتجنبه المبدع لكي لا يقع في فخ الاستسهال الدبق. والوجه الثاني الايجابي لهذه الفورة هو أنها حصيلة تمازج المعاناة بالقراءة، والموهبة بالألم، والصبر بالصدق، والتجربة بالاستشراف. وهي خبطة دقيقة ليس من السهل الحصول عليها لأي أحد، لكنها تأتي بالمران والصبر والجهد والقراءة والصدق والكد.. لهذا فالغزارة سلاح ذو حدين وقد انتبهت إلى هذا منذ بداياتي أنا الذي بقيت بعيداً عن النشر لسنوات طويلة حتى عام 1982.."
    - الصائغ في حوار أجراه زكريا الإبراهيم (صحيفة تشرين 10 آب 2002 ‏ دمشق-]
    (ب- في سنوات الحرب الأولى، أي بداية دخولي عالم النشر، ثمة بيت أو بيتان ليسا لي تم حشرهما في نصين منشورين لي في صحيفة القادسية أو العراق (لا أتذكر)، دون أن أتمكن من الاعتراض. وأجريتُ بعضاً من تحقيقات صحفية ومواضيع عامة لم تكن بمستوى ما أطمح له، وهي تعد على أصابع اليد..
    ب - أشير إلى حوارين صحفيين وكنتُ جندي احتياط أعمل صحفياً في مجلة "حراس الوطن" العسكرية بعد منتصف الثمانينات. الأول: في الرياضة مع رئيس اللجنة الأولمبية عدي، أجراه الصحفي سلام الشماع مسؤول قسم التحقيقات وتم تكليفي بأن أكون معه. والحوار الثاني: كان مع مسؤول في القوة الجوية (لا أتذكر أسمه) أجرته الصحفية ساهرة نايف محمد وتم تكليفي أيضاً باصطحابها، ومن يجرؤ على رفض هكذا أمر, فذهبتُ بلا قناعة ولا رغبة مني، ومن باب حسن التخلص أو التملص اتفقت مع الصديق الشماع بعدم التدخل بسير الحوار فوافق مشكوراً.
    لِمَ تم تكليفي واشراكي بهذين الحوارين!؟.. أنا الكاتب والعامل في الثقافة كل حياتي، لا أعرف عدد اللاعبين في الساحة، ولم أزر ملعباً رياضياً إلا مرة واحدة في صباي، وخبرتي بالطائرات ليس أغنى من خبرتي بكرة القدم. ولا علاقة لي بموضوعة الحوارين لا من بعيد ولا من قريب، كتابة أو أسئلة أو أجواءاً..
    (وأضيف هنا أنني لم ألتقِ بعدي إلا في ذلك اللقاء القصير واليتيم. ولم ألتقِ مطلقاً بأبيه أو أخيه أو أعمامه أو خواله أو أقربائه، نساءً ورجالاً، أو أياً من رموز النظام طيلة حياتي)..
    خامساً: بعد تسريحي من الجيش عام 1989 وحتى عام 1992، عملت محرراً في مجلة "الطليعة الأدبية" وفي نادي الكتاب ومجلة "الكتاب" في دار الشؤون التقافية. وحتى خروجي من العراق. وأثناء تلك الفترة أيضاً تم انتخابي من قبل الأدباء الشباب رئيساً لمنتداه ولمجلته أسفار التي كان قد صدر منها قبلي عشرة أعداد.
    سأتحدث قليلاً عن منتدى الأدباء الشباب، تأريخه، وأبرز أعماله وأماسيه في فترتيه المختلفتين – أي فترة لؤي حقي، وماقبلها وما بعدها - لتوضيح بعض الملابسات والخلط:
    أسس المنتدى عام 1981 وكان رئيسه الشاعر زاهر الجيزاني بالانتخاب ومن بين اعضاء الهيئة الادارية له كان: سلام كاظم وحميد المختار وشوقي كريم – اذا لم تخني الذاكرة بشان حميد وشوقي- ولؤي حقي الذي سعى فيما بعد بالاتفاق مع وكيل الوزارة عبدالجبار محسن لاصدار قرار بطرد جميع الهيئة الادارية ثم مر المنتدى بفترة سكون.
    بعدها حصل لؤي حقي على دعم خاص من الرئاسة فاقام مهرجان الامة الأول للشعراء الشباب عام 1984 (وكان من ضمن الذين سافروا لدعوة الشعراء العرب، حاتم الصكر وماجد السامرائي ومحمد شمسي وفاروق سلوم. وكانت هيئته العليا تتالف من جواد الحطاب، عادل الشرقي، وسام هاشم، وارد بدر السالم، وعبدالعال مامون).
    حضر في مهرجان الشعر: نزار قباني والبياتي وروجيه غارودي وجاك بيرك والشاعر الاسباني انطونيو كالا، بالاضافة إلى مئات  الشعراء المعروفين والشخصيات الأدبية في البلدان العربية وأنحاء العالم.
    [يذكر الشاعر عبد الرزاق الربيعي في شهادته عن تلك الفترة:
    "ان نجم عدنان الصائغ الشعري قد التمع حينها لذلك جرت دعوته للمهرجان وكان في ذلك الوقت جنديا في كركوك.
    خلال المهرجان بكى الصائغ للمرة الاولى على قميص فضل خلف وقميصي في خان مرجان على صوت يوسف عمر لانه كان عليه الالتحاق فجرا بوحدته في الشمال بينما الشعراء والشاعرات في خان مرجان يواصلون الشرب والرقص والنقاشات "الحداثوية" لاهين عما يحصل في الجبهة من دمار..
    وفي لحظة مجنونة تركنا الصائغ ودخل إلى المطعم يتساءل لماذا يرمون تلال اللحوم وفضلات الأكل في أكياس القمامة، بينما أصدقاؤه الجنود "كاظم عبد حسن، سيد حرز، حسن صكبان، قاسم مشعل، ناموا هناك بلا عشاء".. - وهؤلاء ذكرهم في بعض قصائده وفي نشيد أوروك -
    استطعنا، فضل خلف جبر وأنا، أن نلحق به لنسحبه من بين عمال المطعم، وكانت عيون رجال الأمن تحيط المكان من كل جانب"..]
    ثم أقام لؤي في عام 1985 مهرجان بغداد المسرحي الأول، وبدعم خاص من الرئاسة أيضاً (سافر معه لدعوة الفنانين العرب كل من كريم رشيد وجواد الحطاب إلى أوربا والأقطار العربية، وكان السفر وقتها، أي وقت المهرجانين: الشعري والمسرحي، وخلال سنوات الحرب العراقية الايرانية، ممنوعاً على كل العراقيين) وحضر المهرجان: فؤاد الشطي والطيب الصديقي ونضال الاشقر وعلي الحجار والمنصف السنوسي ونبيل بدران والفريد فرج وعمر خلفة وجميل راتب ونور الشريف ويوسف شاهين ويونس شلبي ويوسف ادريس وسمير العصفوري وعايدة عبدالعزيز. بالاضافة إلى العديد من المخرجين والممثلين والكتاب العراقيين، مثل: د. عوني كرومي، د. صلاح القصب، عزيز خيون، وسامي عبد الحميد، وعشرات الفرق والشخصيات العربية والأجنبية..
    كما أسس وأصدر مجلته "أسفار" بطباعة فاخرة ومكافأة وأسماء ضخمة.
    بعد نجاح المهرجانين أحس الوسط الثقافي الشاب بوجود توجه ثقافي ايجابي ولم يعرف الكثيرون أن المهرجانين كانا غمامة عابرة في زمن قحطنا الثقافي وقد انبهرت بعض الأصوات النظيفة بحضور هذه الأسماء  والرموز المهمة.
    بعد ذلك أعلن عن تشكيل هيئة جديدة كان من بينها: كمال سبتي وحمزة مصطفى وأديب كمال الدين وسعيد الغانمي وجواد الحطاب ورعد عبدالقادر وهادي ياسين علي وعبدالرزاق الربيعي. وقد وافقت على الانضمام إلى هذه الهيئة لوجود أسماء نظيفة ولانقاذ نفسي من طاحونة الحرب بعد وعد بنقلنا من الجبهات وكنت حينها في وحدة مغاوير..
    وفي نهاية 1988 وعلى شاشة التلفزيون سجنت السلطة لؤي حقي من المنتدى لاعتدائه على طبيب في مستشفى اليرموك، يمت بقرابة لوزير الداخلية حينها سمير الشيخلي وبذلك فصل من الجامعة ومن وظائفه ومن بينها رئاسته للمنتدى..
    (ومعه فصلت وألغيت عن المنتدى كل الامكانيات، التي كانت مخصصة له).
    بعدها تم انتخاب الصديق الشاعر علي الشلاه ريئساً للمنتدى، حيث عمل لفترة في المنتدى والمجلة وأصدر عدداً واحداً منها.
    بعد ذلك أجريت انتخابات جديده، وقد دفعني بعض الأصدقاء بحماسهم إلى الترشيح لرئاسة المنتدى، فرشحتُ نفسي ومعي مجموعة من الأدباء، فتم انتخابي رئيساً للمنتدى. وعبد الحميد الصائح نائباً للرئيس. والأسماء الأخرى: عبد الرزاق الربيعي، فضل خلف جبر، دنيا ميخائيل، محمد مظلوم، أمل الجبوري، حيدر منعثر، وسام هاشم، محمد حياوي، لهيب عبد الخالق، سلام مجيد، عبد الستار ابراهيم، وعبد العال مأمون، أعضاءً في المكتب التنفيذي، حيث توزعت بينهم اللجان الثقافية والاجتماعية والمالية والأماسي والنشاطات والمجلة.
    كنا مجموعة من المهووسين بالنص المغاير وبالقصيدة اليومية الجديدة. وقد حلمنا وعملنا وسعينا لتأسيس أو تقديم ثقافة جادة مغايرة الى حدٍّ ما، بعيداً عن تداعيات واشكاليات المنتدى القديم وسطوة أعضاء اتحاد الأدباء الكبار، كما كنا نعتقد بحماسنا الشبابي.
    لا أدري كم نجحنا
    أو أخفقنا
    أو حلمنا كثيراً
    لقد لفتت فعاليات المنتدى إليها الأنظار في تلك الفترة، رغم المضايقات الكثيرة والصعوبات المالية التي كانت تجابهنا، بعد أن قطعت الوزارة الرواتب - رغم شحتها - عن العاملين في المنتدى والمجلة وقطعت رواتب الموظفين. وشحت المخصصات المالية لنشاطاته حدّ أننا لم نكن نملك أجرة نقل الشاعر كزار حنتوش من الديوانية بعد أن اهملت الوزارة أمر المنتدى تماما. يذكر الشاعر عبد الرزاق الربيعي في مقالة له بعنوان "وقفة مع طائر الجنوب عيسى حسن الياسري":
    [".. ولن أنسى أبدا تلك الليلة التي استضفنا فيها الشاعر هادي الربيعي والقاص جاسم عاصي  القادمين من كربلاء في أمسية جميلة أقمناها  في المنتدى, ولم نكن نحسب حسابا لما بعد الأمسية, فقد غاب عن بالنا ان الأمسية ستمتد ساعات طويلة, وان الأمر يستدعي منا استضافة الأديبين في فندق يليق بهما, ومن على المنصة بعث لي الصديق الشاعر عدنان الصائغ الذي كان قد تولى مهمة تقديم الأمسية ورقة يسألني فيها عن طريقة مناسبة للخروج من هذا المأزق العويص لجيوبنا الفارغة!!!!! وكان يجلس إلى جواري الشاعر عيسى حسن الياسري, ولا أعرف كيف شعر بفحوى ما جاء في القصاصة, وأنا على يقين من أنه قرأ الكلمات في عيني الصائغ الحائرتين اللتين كانتا تبحثان في عيني عن أجوبة مطمئنة, بينما كانت تزيدني قلقا, وهنا همس بأذني: هل من شيء؟ ولم استطع أجابته, عندها اخذ الورقة من يدي, ودسها في جيبه, وقال: اتركا الأمر لي, فقفزت من الفرح لوصول طوق نجاة لم يخطر ببالنا أنا والصائغ – لم نكن نجرؤ على كشف عورات جيوبنا أمامه - , فابتسم الصائغ عندما لاحظ علامات الارتياح المرسومة على وجهي, وبعد دقائق أرسل الياسري إشارة الى ولده ياسر, فجاء إليه, همس بأذنه, فغادر القاعة مسرعا إلى البيت الذي يقع على بعد مسافة قصيرة من المنتدى في الطالبية, وبعد انتهاء  الأمسية, قال الياسري للضيفين: الشباب يصرون على استضافتكما في (الشيراتون), ولأنني لم أركم منذ سنوات, طلبت من الصائغ والربيعي أن يسمحا لي بكما هذه الليلة, فاعربا عن ارتياحهما للفكرة, وحين أردنا الانسحاب أصر على مرافقة الضيفين, ومواصلة الأمسية في منزله, وهناك وجدنا الضيافة قد أعدت, بأبهى صورها, فعرفنا أنه كان قد أخبر ياسر إبلاغ الأهل بأعداد وجبة عشاء, وكانت ليلة رائعة, ولايمكن لي أن أنسى أن الشاعر الكبير الياسري لم يكتف بوضع اللحوم والفواكه أمامنا بين لحظة وأخرى بل نهض من مكانه وصار يدس لقيمات في أفواه ضيوفه الأربعة"
    - مجلة "المسلة" ع1 س4 كانون الثاني 2003 –]
    أعود وأقول: لكننا من جانب آخر استفدنا من هذا الاهمال فأقمنا نشاطاتنا الأدبية بمناخ شبه مستقل.
    ومن تلك النشاطات أذكر على سبيل المثال لا الحصر، أول أمسية لقصيدة النثر في العراق ليومين متتاليين، شارك فيها الشعراء: عقيل علي، خالد جابر يوسف، خالد مطلك وآخرون لا أتذكر الآن أسماءهم، وأول أمسية لجماعة "تضاد" القصصية: اسماعيل عيسى ، شوقي كريم، عبد الرضا الحميد، حميد المختار، واماسي لأدباء ومفكرين مثل محاضرة للعلامة د. علي الوردي عن المجتمع العراقي. وكان ذلك أول ظهور له بعد عزلة طويلة في منزله، وأمسيات لعيسى حسن الياسري وكزار حنتوش وحسن مطلك (أعدم  في 18/7/1990) وحاكم محمد حسن (أعدم نهاية الثمانينات) ونصير شمه وديزي الأمير وأحمد دحبور ورشاد أبو شاور (أثناء زيارتهما الى بغداد)، وأماسي لأدباء المحافظات، وغير ذلك من النشاطات.  
    سادساً: أما مجلة أسفار فقد أصدرنا منها في دورتنا عددين فقط، هما: العدد المشترك والخاص بالجيل الثمانيني 11-12 في 1989 والعدد 13 في 1992) وكانت هيئة التحرير في عددها الأول قد ضمت:
    عدنان الصائغ ( رئيساً) عبد الحميد الصائح، عبد الرزاق الربيعي، دنيا ميخائيل، أمل الجبوري، محمد مظلوم، فضل خلف جبر (اعضاءً). وفي عددها الثاني: عبد الرزاق الربيعي، أمل الجبوري، وخالد مطلك.
    وفي كليهما كان مدير التحرير: جواد الحطاب، وسكرتارية التحرير: عيسى حسن الياسري وعبد الخالق الركابي.
    خصص العدد الأول لأكبر ملف عن الجيل الثمانيني ضم أكثر من 40 شاعراً
    منهم- بالاضافة لأسماء التحرير-: خالد جابر يوسف، صلاح حسن، سعد جاسم، نصيف الناصري، لهيب عبد الخالق، وسام هاشم، ليث الصندوق، محمد تركي النصار، عمار عبد الخالق، علي عبد الأمير، أحمد عبد الحسين، فاضل عزيز فرمان، أديب أبو نوار، ريم قيس كبة، سهيل نجم، حسن النواب، زعيم نصار، كريم شغيدل، سلام سرحان، إبراهيم رياض، باسم المرعبي، كاظم الفياض، عادل عبد الله وآخرون،
    كما احتوى على دراسات لنقاد مهمين عن الجيل وحوارات.
    وقد أثار العدد الكثير من الاهتمام والنقاشات. وقد كتبت عنه الصحافة العراقية والعربية كثيراً وحتى اليوم. منها مقالة للشاعر عباس بيضون ( ملحق النهار 25/4/1992).
    لكن العدد أثار من جانب آخر هياج كتاب التقارير والشعراء الفاشلين ورموز السلطة إلى حدٍّ كبير.
    ثم حدثت بعض الخلافات العابرة (والتافهة) والجادة والحادة أحياناً، بين الأدباء أعضاء المنتدى، وأنا بينهم، حول أمور عديدة مثل: رئاسة لجنة للشعر، أو توزيع المهمات الثقافية والادارية، أو التخطيط لمهرجان الشعر الثمانيني، ومن سيديره ومن سيشترك فيه، وغيرها وغيرها من الأمور (والغريب ان بعضهم حمل معه هذا الأرث الفارغ والفاجع للأسف حتى بعد خروجه من الوطن) فاستقال البعض وتقلصت نشاطات المنتدى إلى حدٍّ كبير. في تلك الإثناء قدمتُ استقالتي إلى الوزارة لكنها رفضت، بحجة انتظار الانتخابات القادمة. (انظر مقالة الشاعر نصيف الناصري في جريدة بابل 1991)
    مالذي كانوا يخططون له في الوزارة؟
    ذات يوم أبلغنا الشاعر رعد بندر (مستشار الوزير وشاعر "أم المعارك") بأمر وزير الثقافة والاعلام حامد يوسف حمادي أن يكون العدد الجديد مخصصاً لميلاد "الرئيس القائد"، وأن تكون كلمتي الافتتاحية بهذا الخصوص، في محاولة ابتزازية، وتهديدية معاً، للإيقاع بي، وتسقيطي، وزجي في كرنفال المديح. بعد ان جاء بعضهم يشي بأنني لم أكتب سطراً في مدح "القائد" رغم صدور 6 مجاميع شعرية لي.
    عشت أياماً من الصراع المحتدم والقاتل بين نفسي وأمر الوزير واهتديت بعد أيام ممضة إلى فكرة مجنونة وشبه انتحارية نفذتها فوراً دون علم أحد (عدا أحد أصدقائي) خشية من تدخلاتهم ومخاوفهم علي وعلى أنفسهم
    قمت بتقسيم العدد الى نصفين:
    ضم القسم الأول الملف الذي أرادته الوزارة وأعده خالد مطلك لقصائد الشعراء في مهرجان الميلاد ( وقد ساهم فيه الشعراء: نصيف الناصري، حاتم عبد الواحد، لهيب عبد الخالق، منذر عبد الحر، رباح نوري، عبد الجبار الجبوري، أفضل فاضل العاني، صلاح حسن، خالد علي الخفاجي، أمل الجبوري، رعد بندر).  
    أما القسم الثاني (الذي ضم موادنا الثقافية والذي لا علاقة له بالمناسبة)  فيبدأ من الصفحة 31 حيث ترد فيها أسماء محرري العدد: رئيس ومدير وأعضاء التحرير، وفهرس العدد للمواد المنشورة فقط من ص 31 ، وكلمة رئيس التحرير التي كتبتها "عن الثمانينيين والحصار وبول ايلوار" ورويت فيها ثورة الشاعر الفرنسي بول ايلوار حينما طلبوا منه ان يكتب قصيدة بكذا ابيات عن الموضوع الفلاني وذكرت في المقالة ما قاله الشاعر الأرمني روبان ماليك، وكان يعمل سكرتيراً له: "ما أن قرأ ايلوار اللطيف، العذب، الرقيق، هذه الرسالة حتى راح يصرخ كالثور ثم مزق الرسالة ونفش شعره ووصل الى حافة البكاء" ويواصل ماريك قوله "ولا حاجة للسؤال عن السبب لقد ثار ايلوار واستغاث لأنه شاعر أصيل".
    وقد كانت تلك الافتتاحية بالأضافة الى طريقة أخراج العدد  ما يشبه التنصل من أمر الوزارة وملف الميلاد.
    غير أن الوزير أدرك ما ذهبت إليه (ليس بذكائه وإنما بواسطة مخبريه) فقادني ذلك العدد الى التحقيق والرعب والترقب والاستفسار الوزاري.
    لكن الوزير – وبصدفة لا تخطر على بال - انشغل باستفسار أعلى  من ديوان الرئاسة حول قصة قصيرة منشورة بالعدد نفسه للقاص صلاح زنكنة عنوانها "موت الإله"
    وكانت الحملة "الايمانية" في أوجها، فانشغلت الوزارة بجمع المجلة من المكتبات والأكشاك وقص المادة.
    وبعد أن هدأت تلك الضجةقدمت استقالتي من المنتدى عام 1992. وقد ترأسه بعدي الشاعر خالد مطلك تحت اشراف مباشر لرعد بندر. ثم علمت عام 1994 (وكنت وقتها خارج الوطن) أن المنتدى تم دمجه باتحاد الأدباء تحت يافطة التجمع الثقافي في العراق والذي ضم أيضاً نقابة الصحفيين والفنانين والتشكيليين والموسيقيين.. والخ والخ.. برئاسة عدي..
    هكذا انطوت صفحة المنتدى، وانطوت ثلاثة أعوام بمرها وحلوها، بمنجزها الثقافي وبفقاعاتها. ولو قُدّر لي الأمر لشطبتُ على تلك الفترة التي أعتبرها أسوأ فترة، لأنني لا أصلح للادارة أصلاً:
    ["مَنْ ورّطَ الشاعرَ في دوّامةِ التوقيعِ
    كانَ البحرُ في معطفهِ المثقوبِ
    ينسلُّ إلى نافذةٍ في شقّةٍ إيجارها ينسلُّ من أيامِهِ رفَّ كتبْ
    ما الذي غَيَّرَ إيقاعَ "صباح الخيرِ" في فنجانِهِ المعتادِ
    كانَ القلبُ… لا يعرفُ أنْ يستعملَ الهاتفَ في الحبِّ
    فمَنْ دَجَّنَ هذا القرويَّ، الحالمَ - الآنَ – مشدوهاً يديرُ القرصَ"
    – من ديوان "غيمة الصمغ" – بغداد 1993-]
    ولأن فترة عملي في الصحافة والمنتدى أخذتْ وضيّعتْ الكثير من وقتي ومشاريعي الشعرية. رغم ما قدمتهُ شخصياً وما قدمه البعض من الأدباء من جهد وحماس حقيقيين، لإشاعة ثقافة، نظيفة، جادة، وشابة ومورقة.. في ذلك الزمان اليباب.
    سابعاً: بعد حوالي عام، أي في بداية 1993 عرضت مسرحيتي "الذي ظل في هذيانه يقظاً "على مسرح الرشيد، فأثارت هياج المسؤولين في وزارة الثقافة والاعلام. وقد حدثت لي وللمخرج والمعد وكادر المسرحية، مشكلات ومضايقات وتهديدات عديدة، حيث تم توقيفها بأمر الوزارة،
    ثم  بأمر الوزارة طُلب منا اعادة عرضها بعد حذف بعض المقاطع والمشاهد منها.
    ورغم ذلك ظلت تستقطب المئات لمشاهدتها ومن مختلف المحافظات. حتى تم ايقافها نهائياً.
    ["عندما أُسدل الستار على العرض الاول لمسرحية "الذي ظل في هذيانه يقظاً" دوت عاصفة من التصفيق لم يشهدها تاريخ المسرح العراقي من قبل، وخرج ممثلو المسرحية يشقون طريقهم بين امواج الجمهور المتلاطم على ابواب مسرح الرشيد في بغداد تاركين خلفهم علامات الدهشة والاعجاب، ولما نظّم التلفزيون العراقي استفتاءً مسرحياً كان لـ"هذيان" حصة الاسد فقد اجمع اغلب من شملهم الاستطلاع على انها الافضل والاجرأ من بين ما قدم مؤخراً" - صحيفة المحرر ـ باريس- نيسان 1993-
    وتقول الناقدة نازك الاعرجي: "انه بلغته الحادة الصافية الكاشفة قطعة حية من تاريخ معاناة العراقيين"
    وتقول جريدة العراق: ".. وبمسرح يصح ان نطلق عليه مسرح الادانة"
    وتقول مجلة الجيل ـ بيروت: "هذيانه ذاكرة صاحية في مواجهة موت محتم "
    ويقول الفنان سامي عبد الحميد: ".. وكان صادقاً كل الصدق في تعبيره عميقاً في الضرب على نياط القلوب"
    ويقول الكاتب علي الطرفي: "تلك القصيدة التي تفجرت الى مشاهد مسرحية ما زالت عالقة في الذاكرة ولا زال في الاجفان بقايا دموع لم تجف بعد، ذرفناها مراراً"
    ويقول الشاعر حسين الحسيني: ".. فيطرح الهموم والمعانات الذاتية والاشواق والرؤى بعيداً عن الذاتية المغلقة"
    ويقول الكاتب علي جبار عطية: "مَنْ غيرك جعل المرحوم ابراهيم جلال يلطم على رأسه ويبكي وهو يرى الهذيانات، امضِ في نشيدك"..]
    وفي تلك الفترة كنتُ أخطط وأهيء نفسي للهروب من الوطن!!
    ثامناً: وفي خضم تلك السنة العصيبة 1993 وقبل سفري بأسابيع قليلة، أشير إلى واقعة جبانة تعرضت لها للأسف الشديد مجموعة من دواوين وكتب بعض الأدباء العراقيين الرائعين في عملية تشويه مقصودة، حينما عمد المراهق عدي صدام حسين وزمرته الإعلامية إلى وضع عبارة "طبع على نفقة عدي صدام حسين" على الصفحة الثالثة من تلك الكتب، قسراً وبدون علم المعنيين أو موافقتهم. وجميع هذه الكتب ليست لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بنفقته: طباعةً أو مضموناً أو شكلاً أو أفكاراً أو طرحاً أو أي شيء آخر. كانت تلك العبارة المدسوسة مليئة بالدناءة والخبث والاستهتار والوقاحة.. وكانت الطباعة مهلهلة والورق أسمر, شاحب وفي أعلى الغلاف الأول عبارة "سلسلة ضد الحصار الثقافي".
    ومن هذه الأسماء والاصدارات: عبد الرزاق الربيعي " حداداً على ما تبقى"، دنيا ميخائيل "مزامير الغياب"، علي عبد الأمير "يدان تشيران إلى فكرة الألم"، محمد إسماعيل "أوديب الغفل"، ومنها ديواني "غيمة الصمغ" الذي قدمه الشاعر حسب الشيخ جعفر. وهو من أهم وأنضج دواويني في العراق وأجرؤها.
    لقد انفجرنا غضباً وبكاءً مكتوماً.
    لكن لم يكن باستطاعة أي منا الاحتجاج أو الشكوى وليس في اليد حيلة أو وسيلة في بلد صادروا فيه كل شيء. وأذكر حين ذهبت صديقتنا الشاعرة دنيا ببراءتها الشعرية الى مدير المطبعة غاضبة ومحتجة قفز الرجل الأشيب من مكتبه مرعوباً وظل يتلفت يميناً ويساراً، ورجعت دنيا إلينا - عبد الرزاق وأنا - فاغرة فاهها دهشة لِما رأته من ارتجاف الرجل كسعفة في ريح.
    يومها، وقفنا ساعة حداد على مجموعاتنا الثلاث، وأدركنا أن القادم أعظم.
    تاسعاً: انتهزتُ أول فرصة سنحت لي، وغادرتُ الوطن في تموز 1993 إلى عمان، تلبية لدعوة مهرجان جرش، ولم أعد، حيث عملت محرراً في صحيفة "آخر خبر" الأردنية، ثم تمكنت عائلتي من الوصول بعد شهور.
    وفي عمان قدمت ديواني "غيمة الصمغ" إلى اتحاد الأدباء والكتاب العرب في دمشــــق فصدرت طبعته الثانية عام 1994 ضمن منشوراته.
    وفي عمان أيضاً صدر لي أول ديوان في المنفى تحت عنوان "تحت سماء غريبة" بتقديم الشاعرسعدي يوسف. وعلمت أنه وصل إلى الداخل وتم استنساخه وتداوله بين بعض الأدباء والقراء. وقد أثار ذلك الأمرُ غضبَ السلطة، وازادت ضغوطها
    [أبدى عدد من المثقفين العراقيين المقيمين في عمان تخوفهم مما وصفوه باجراءات التضييق والملاحقة العراقية في عمان. وأعرب عدد من المثقفين عن قلقهم للتهديدات التي يتعرض لها الشاعر عدنان الصائغ المقيم حالياً في عمان بعد صدور ديوانه الجديد "تحت سماء غريبة" التي اعتبرته السلطات العراقية بأنه يشهر بها"
    صحيفة البلاد – عمان - ع 118 س3 21/6/1995 – الصفحة الأولى.
    ونشرت العديد من صحف المعارضة العراقية في الخارج والصحف العربية بعضاً مما تعرض له مثل: صحيفة "المؤتمر" ع77  4 نوفمبر 1994، صحيفة "نداء الرافدين" – دمشق ع 90 في 10/11/1994، صحيفة "القبس" 15/3/1995، صحيفة الشرق الأوسط – لندن  17/3/ 1995 ص2 ، نشرة "الضمير" لحقوق الانسان في بريطانيا ع6 آيار 1995 ، صحيفة "الوفاق" ع 163 في 11/5/1995، مجلة "ابداع " المصرية ع6 يونيو 1995، صحيفة "الشرق الأوسط" 22/6/1995، صحيفة "المرأة"- الأردن 20/3/1996صحيفة "أخبار الأدب" – القاهرة ع 180في 22 ديسمبر 1996، وغيرها..]
    وكنت قد قدمت "نشيد أوروك" للطبع فرفضت دائرة الرقابة الأردنية السماح بطبعه إلا بعد حذف مقاطع وعبارات أمتدت على مساحة 45 صفحة منه،
    لكني رفضت ذلك..
    وحين انتقلت الى بيروت عام 1996 طبعته هناك كاملاً.
    وقد مررتُ بأيام عصيبة جداً خلال تلك السنوات في عمان وبيروت مروراً باليمن والخرطوم ودمشق من عام 93-96 حتى انتقالي إلى السويد. عشتُ في الكفاف منغمساً بمشروعي الشعري ولم أنخرط في المنفى بأي حزب أو جمعية رغم الدعوات الكريمة والضغوط الكثيرة.
    عاشراً: لم يعيلني أو يضيّفني أي حزب سياسي أو ديني أو حكومة أو معارضة، في بيت أو غرفة أو حمام... لا في الوطن ولا في المنفى.
    وعن سكني أقول: عشتُ سنوات طفولتي وصباي وشبابي وزواجي في مدينة الكوفة، ثم انتقلت وعائلتي عام 1988 للسكن في بغداد، في شقة صغيرة للإيجار في حي الأمانة (مقابل مدينة الثورة) قربباً من ساحة مظفر. وبقينا فيها حتى خروجي عام 1993 وقد زارني عشرات ومئات الشعراء والأدباء
    [في حوار مع الصائغ على صفحات "مجلة الرافدين" في بغداد 18/1/1992 تسأله الكاتبة والشاعرة وداد الجوراني عن طموحاته للعام الجديد، فيجيب: 1. أن يهمي المطر وفيراً على شوارع وطني وحقول القلب 2. أن أحصل على بيت ولو بغرفة واحدة ونصف مطبخ وربع حديقة بمساحة حديقة الشاعر المرحوم رشدي العامل 3. أن أطبع ديواني "غيمة الصمغ" المركون في دولاب فوضاي منذ عامين 4. أن تشتري إحدى الجامعات أو أحد المقاولين مكتبتي الضخمة التي رزمتها جميعها للبيع 5. أن تنتهي علاقتي بمنتدى الأدباء الشباب 6. أن أرتب وقتي هكذا 16 ساعة للقراءة وأربع ساعات للكتابة ونصف ساعة لكل من الأصدقاء والأكل وبرامج التلفزيون ومشاغل البيت والهاتف والنساء والوظيفة والنوم.
    وكتبت الصحفية نرمين المفتي عن سكن الصائغ في أحد الأماكن التي لا تخطر على بال عموداً بعنوان "شاعر في دولاب" نشر في "مجلة ألف باء".]
    أما في عمان فسكني - بشهادة المؤجر نفسه - لا يصلح للسكن البشري، لكنني أقنعته بأنني وعائلتي سنتحمل ذلك، لرخص الايجار.
    وهكذا بقينا فيه لعامين ونصف بالتمام والكمال بين الرطوبة والعناكب والعقارب الجميلة التي تلطفت برعايتنا فكانت أكثر رحمة من البعض.
    وفي بيروت سكنت والعائلة في مطعم مهجور جعلوه شقة للإيجار على حاله دون أدنى تغيير، وقد زارني فيه العشرات من الأدباء العراقيين واللبنانيين، ومنهم مراسل صحيفة الحياة الشاعر عمر شبانة. وقد كتب الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير في صحيفة النهار اللبنانية عن حلم أبني في النوم على سرير:
    ["أذكر ليلة جئت لبيتي في بيروت وكنت تهيئ أفراح القش الرطب سريراً لفتاك الملتف على عينيه مثل رداء في قصب بري،
    ليلة كان يقول وقد جرحني بكلام كالموسى الصدئ:
    أبتي، سأنام غداً فوق سرير في بلد هل حقاً يا أبتي؟
    كان الطفل يلّم بقايا الضوء المرتعش، بقايا الزمن المتهشم كالفخار على صدر الصمت الممتد كمرمرة بين ذهولي ورؤاه..."
    - صحيفة "النهار" البيروتية 21 آيار 1997/ صحيفة "الاتحاد" الأماراتية 24 يوليو 1997 –]
    وفي نهاية 1996 أنتقلتُ إلى مدينة لوليو شمال السويد، ثم إلى مدينة مالمو في جنوبها.
    أحد عشر: أما عن طبيعة الكتابة التي أعتمدتها داخل أسوار الوطن وتحت سيف الرقيب، فيمكنني أن أشير إلى اعتمادي الخطاب المستتر كالعديد من أدباء الداخل، درعاً للمخاطر وتعبيراً خفياً عن الرفض.
    ويمكن للقاريء تلمس ذلك الخطاب في نصوصي وكتاباتي وهي أكثر إجابة مني وتوضيحاً.
    ويهمني هنا اعادة نشر رد لي على أحد الأصدقاء الشعراء (- صحيفة المؤتمر – لندن ع 304 في18-24 ايار 2002) لالقاء بعض الضوء على المشهد الشعري، وسط ذلك الجحيم وطبول الحرب:
    [لقد افترعت الكتابة وتشظت فترة التسعينات والثمانينات بالتحديد - مثلما تشظت الحياة نفسها - إلى ثلاثة اتجاهات (إذا استثنينا اتجاهاً رابعاً وهم الذين آثروا العزلة والصمت إلى الأبد، وربما هناك اتجاهات أخرى فاتتني الإشارة إليها)
    أقول هناك ثلاثة اتجاهات رئيسة في المشهد الثقافي العراقي هي:
    - الإتجاه الأول: الكتابة المطبلة للنظام تصفيقأ ومدحاً وردحاً.
    - الإتجاه الثاني: الكتابة الهاربة من الواقع، والغائصة بالغموض، والباحثة عن المغايرة والحداثة.
    - الإتجاه الثالث: الكتابة المضادة للواقع بواسطة الخطاب المستتر، وهو يقترب إلى حد كبير من الاتجاه الثاني وأنا لا أرى فرقاً بينهما - كما شاءت الصراعات الفارغة للبعض - إلا بشكل الكتابة وأمور فنية أخرى..
    أنني والبعض من أبناء جيلي قادتنا تجاربنا الخاصة في الألم إلى السير في هذا الطريق (الثالث) المحفوف بالمخاطر، وتستطيع أن ترى وتتلمس ملامح هذا الخطاب في الكثير من نصوصنا هناك، ونرى اليوم ملامحه في الكثير من تجارب الجيل التسعيني المتراوحة بين التيارين (الثاني والثالث) وأنا لا أتحدث هنا عن الأشكال الفنية والحداثوية التي كثيراً ما تخاصمنا أو تجادلنا  حولها زمناً، فلكلٍّ مدرسته وآراؤه وحداثته وقراؤه. والزمن وحده هو الغربال الحقيقي.. لكنني أتحدث هنا عن طرق التعبير والتمويه التي اختارها البعض من جيلنا مرغماً ومختاراً وسط غابة الأفاعي وشظايا الحرب.. ستاراً يخفون تحتها أو يسربون نصوصهم الخالصة.
    وليس أمامهم من طريق آخر غير الصمت والانزواء أو ركوب موجة الخواء..
    أنك مثلاً حين تقرأ نتاجنا المنشور هناك ستتحسس فيه تمويهات الخطاب المستتر، أمام شراسة مقصات الرقيب وكثرة ممنوعاته من جهة، وشراسة الحرب من جهة أخرى.
    إن نصاً من ديواني"سماء في خوذة" الصادر هناك عام 1986، أقول فيه:
    يا سماءَ العراقِ..
    أما من هواءٍ
    تلفّتُ..
    كانتْ سماءُ العراقِ مثقّبةً بالشظايا
    وكانتْ…………
    تعثّرتُ في صخرةٍ
    فرأيتُ حذائي الممزقَ يسخرُ مني…
    - لا بأسَ…
    فليكتبِ المتخمون وراءَ مكاتبهم عن لحومِ الوطن"  
    والخ.. والخ...
    لم يكن سهلاً بالمرة, نعم، ليس سهلاً بالمرة تمرير مثل هكذا وجع من بين عيون الرقيب، مثلما يمر نص مثل:
    "من بئر ندمي تسقط اسفنجة الفراغ. يسيل الوقت بأمعائه الفائضة باتجاه زرقة الهيولى، عكازتي في يميني وتتبعني أيائل الضوء في كل الاتجاهات. سائراً بحشودي وقبعتي في سديم الأبدية. وفي بحيرات الياقوت الغائبة أغطس رأسي المكعب بصنوبراته اليابسة"..
    وهناك أمثلة كثيرة وبائسة على مثل هذا الهراء الذي دوخونا به زمناً.
    ولأكن صريحاً معك أن بعضاً من هذه النصوص كانت تلاقي ترحيباً من السلطة الثقافية – كما يشيع آخرون - ومن يراجع الصحف الرسمية في فترة الثمانينات والتسعينات ويتتبع سيل الكتابات العارم فيها سيجد طغيان هذا النوع إلى جانب طغيان أدب التمجيد. ذلك لأنه لا يكلف محرر الصفحة الثقافية شيئاً، مثلما تكلف بعض نصوص الخطاب المستتر من تفحص وحذر ومراجعة)..
    وأرجو أن يتفهمني صديقي جيداً وبالحب نفسه أن ما قصدته ليس انتقاصاً من تجربته وتجارب أصدقاء أعتز بهم ، بقدر ما أردت أن أوضح له أن السهولة في الحكم تجر السهولة، والإدعاء يجر الإدعاء، وهلم جرا..]
    أخلص من ذلك إلى مسألة مهمة أنه لا يصح الشطب على المبدع العراقي، لمجرد اختلافنا مع اتجاهاته الفنية والفكرية، مثلما لا يصح الشطب على الإبداع العراقي الخالص في الداخل ( وهو كثير) بحجة أنه خرج من المؤسسة ( وكل ما في الداخل من صحف ومجلات ومنتديات تابع لمؤسسات الدولة)
    وأشير إلى أن الكثير من الأماسي كانت تقام في المناسبات – والعراق كله مناسبات للدولة – لكن الكثير من المبدعين لم يكن يلتفت لها أو يلقي لها بالاً..
    لهذا يقتضي ضميرنا الثقافي والوطني والإنساني أن نتفحص النصوص ومشهد الداخل بضمير ووعي ومسؤولية، متجردين من ذواتنا وشللياتنا، لنرى مدى اقتراب هذا الشاعر أو النص ومدى ابتعاده عن إعلام النظام ومفهوم العنف. أنها مسؤولية أكبر من الذات، وعلينا كمثقفين أن نكون بمستواها. وإلا كنا أقرب إلى شهود الزور.
    لكن البعض وللأسف الشديد ساير موجة التشكيك والإتهام لغرض مريض في نفسه أو آثر الصمت حفاظاً على سلامته، أو لغيرها من الأسباب.
    يقول أبسن: "أن عالماً يحتاج فيه المرء لاثبات حقيقة واضحة كالشمس لهو عالم رديء سيء الادارة" فهل حقاً أن عالمنا رديءً الى هذا الحد؟ – لا أدري- أم أن بعضهم لا يريد أن يرى. بل ويصر أن لا يرى.

  • ربما أنت من بين القلائل من أثرت كل هذا الإشكال، ولم تكتب حرفاً في مدح السلطة كيف تفسر ذلك؟

  • - نعم، لكن عندما أشير إلى أنني لم أكتب قصيدة أو سطراً واحداً في مدح الدكتاتور ونظامه، لا يعني أنني الوحيد.. كما لا أدعي بطولة ما..
    هناك كثيرون وكثيرون لم يمدحوا أو يطبلوا رغم الضغوطات السياسية والأمنية والإجتماعية والمعيشية في زمن "القصيدة المليونية" (كما جرت تسميتها في الداخل نسبةً الى قيمة المكافأة التي تدفع لقصائد المديح).
    كما لم أنشر أي نص لي أو مقالة في صحيفة بابل التابعة لعدي ولا في أي صحيفة أخرى تابعة له، ولم أعمل في أيٍّ من مؤسساته.
    ولم أظهر في التلفزيون العراقي ولا في الاذاعة العراقية ولا في الصحف بقصيدة مدح أو تهريج رغم أنني كنتُ في قلب الحركة الثقافية وليس خارجها..
    أذكر هذا باعتزاز لكنني أقول:
    إن من خرج من المحنة دون خسائر ليس بطلاً والآخرون أبواقاً.
    ولا يعني إدانة لمن كتب قصيدة تحت ضغط ما.
    فلكلٍّ ظروفه وأسبابه ودوافعه.
    الأمر يتعلق برغبة الكاتب الذاتية على الافلات من شراكهم، وبقدرته على الصمود والمقاومة أمام الضغوطات ومغريات الحياة وظروف المعيشة وأمور أخرى كثيرة وكثيرة..
    أؤكد هنا أنه ينبغي التسامح مع بعض الأقلام النظيفة التي انزلقت أو زُلقت في هذا الموضوع أو ذلك
    وكلٌّ له سببه..
    وهو أمر طبيعي في بلد الرأي الواحد والقمع المتعدد.
    لذلك يجب أن نفرّق بينهم وبين الأصوات المرتزقة التي اعتادت أو اعتاشت على المديح والتنظير للنظام وقمع الأدباء.

    - يتبع -


    (*) نشر في موقع "الطريق" على الأنترنيت - تموز 2002
    (*) صدر في كراس عن دار لارسا - السويد 2003

     
    البحث Google Custom Search